بعد عقود من الجمود والعزلة، منح الربيع العربي والثورات الشعبية التي حدثت عام 2011 فرصةً كبيرةً لليساريين العرب من أجل إعادة بناء وهيكلة تنظيماتهم، لكنه وضعهم أيضًا أمام تحدٍ لقياس مدى قدرتهم على تقديم إجابات سياسية وحلول ترسخ الشعارات التي رفعها المتظاهرون وهي الحرية والشغل وتحقيق الكرامة وقيم المواطنة.
ولئن اختلفت التطورات من بلد عربي الى آخر، فلكل تجربة خصوصيتها السياسية وتداعياتها الاقتصادية والاجتماعية، إلا أن ما يجمعها كان تراجع قوى اليسار بفصائله في الاستحقاقات الانتخابية المتتالية التي عرفتها تلك البلدان.
تونس
في مهد ثورات الربيع العربي، استنفد اليسار ما في جعبته من رصيد سياسي وشعبي بعد أن عصفت به رياح التحولات العميقة التي طرأت على المشهد برمته، وعجزت عن مجاراة تياراته القوية فمُنى بانكسارات وانتكاسات متتالية.
بعد سقوط نظام بن علي، لعب اليسار التونسي على وتر الحفاظ على قيم الجمهورية والدولة المدنية التي بناها المؤسس الحبيب بورقيبة ومقاومة الرجعية والظلامية التي تُمثلها القوى الإسلامية العائدة بقوة “حركة النهضة”، إلا أن هذا الرهان سقط في أول اختبار (انتخابات 2011).
هزيمة اليسار التونسي بفصائله الشيوعية (حزب العمال) والتقدمية والقومية تكررت في انتخابات 2014 وفي انتخابات المجالس البلدية، فقد فازت حركة النهضة بالمراتب الأولى بينما بقي اليسار ممثلًا بالجبهة الشعبية يراوح مكانه ولم يتجاوز 10% من المقاعد.
ومنذ عام 2014، لم ينجح اليسار التونسي في تأسيس كيان سياسي قوي قادر على منافسة حركة النهضة في الحكم، فتجربة الجبهة الشعبية أو نداء تونس التي كانت تراهن عليها القوى التقدمية والحداثية تفككت واندثرت في أول منعرج سياسي، وذلك لعدم وضوح تحالفاته بعد 2011، وغياب البرامج الإصلاحية والرؤى الواضحة القائمة على فلسفة جديدة وقيادة وازنة.
أما عن أسباب تراجع هذا المكون السياسي وبقائه خارج دائرة الحسابات الانتخابية رغم توافر مناخ الحرية والتعدد، فيتلخص في فشل اليسار التونسي في التجذر اجتماعيًا وعجزه عن طرح بدائل سياسية قائمة على مشاريع مستنبطة من قراءات واقعية لحاجيات المواطنين الاقتصادية والاجتماعية.
كما يُعاب على هذه التنظيمات اقتصار دائرة فعلها على مناكفة التيار الإسلامي (حركة النهضة) وممارسة الخطاب الإقصائي الذي يتعارض مع مبدأ التعايش الديمقراطي وانتقاد الظواهر الاجتماعية المتعلقة بها كالتدين ومحاولة تغيير القوانين التي تستند إلى الشريعة الإسلامية كالإرث وغيرها من الأحكام.
من جهة أخرى، لم تتحرك القوى اليسارية التونسية في جغرافيا الهوامش وهي الأحياء الفقيرة والأرياف والمناطق الداخلية ولم تنجح في بلورة خطاب يعبر عن هذه الفئة بعكس حركة النهضة التي عملت على وتر الصراع الاجتماعي وبنت تصورًا لهذه البنى دون إقصاء أي حلقة فيها.
مصر
على عكس التجربة التونسية، يبدو أن اليسار المصري يسير عكس عقارب الثورة التي أطاحت بحكم حسني مبارك، فعوضًا عن أن يستثمر هذا المكون السياسي الفرصة التاريخية واستباقه قيادة الشارع المصري في 25 يناير/كانون الثاني، لبناء مسار جديد يقطع مع حالة الجمود التي عانى منها لعقود، ورغم مساهمة الحزب الشيوعي المصري والاشتراكيون الثوريون وأحزاب قومية ويسارية في الحراك الشعبي، فإن هذا التيار عانى من حالة ضعف تنظيمي بسبب الانشقاقات الداخلية وتعثر عمليات التوحيد داخل جسم واحد.
دراسة : 5 أسباب وراء انهيار أحزاب اليسار المصري
https://t.co/u6MJp6wtye pic.twitter.com/6McrPRrd12
— المصرية.كوم (@almasriehcom) January 30, 2016
وطيلة السنوات التي أعقبت ثورة 25 يناير، فشل اليسار المصري في إحداث تغييرات وتعديلات على طبيعة عمله الثوري، وحافظ على نظرته الإقصائية ورفض التنسيق مع حركة الإخوان المسلمين، بل والأنكى من ذلك كله ساند في 30 من يونيو انقلاب العسكر بقيادة عبد الفتاح السيسي على أول رئيس منتخب ديمقراطيًا، محمد مرسي، ودعم سياسية التنكيل والتصفية التي مارسها بحق الإسلاميين.
أما العوامل الأخرى المسببة للتراجع، فتتمثل في مواصلة اليسار المصري لخطابه الطوباوي الإقصائي وخلو برامجه من رؤى التحديث وأطروحاته من البدائل، إضافة إلى إغلاق نظام العسكر المجال السياسي فبات تواصله مع الشارع أمرًا شبه مستحيل لذلك انحسرت أدوراه وخفتت أصواته.
سوريا
إلى الآن، لم تفلح الثورة السورية في إسقاط النظام والإطاحة ببشار الأسد رغم مرور عشر سنوات على بداية الحراك الشعبي، وفي وقت تستميت فيه أطياف الشعب لمقاومة إجرام السلطة وانتهاكاتها اليومية، يبدو أن الأحزاب السياسية وخاصة اليسارية منها لم يبق في جرابها إلا انتظار فرصة لمساومة جديدة مع السلطة.
اليسار السوري فشل منذ السنوات الأولى للثورة في طرح بديل سياسي قادر على تعويض السلطة القائمة، ومع مرور الوقت طرح من أجندته تغيير النظام وخفض سقف مطالبه إلى درجة أنه أصبح يفاوض بشأن دور بشار الأسد المقبل في مرحلة ما بعد الاستقرار، وهو ما يؤكد أن المشاركة في الثورة لم تكن من اليسار المنظم أي الأحزاب بل كان انخراطها ممثلًا في شباب خرج دون توجيه.
في سوريا، انقلبت المفاهيم والمصطلحات، فاليسار الذي يروج لمقاومة الاستبداد والرجعية والظلامية والحكم الشمولي الفردي أيد نظام آل الأسد وشد عضده بتصويره الوضع على أنه “حربٌ جهادية ضد دولة معادية للإمبريالية”، وهي مغالطات برع في ترويجها منذ بداية الانتفاضة، مشرعنًا بذلك الإجرام والقتل الممنهج الذي تُمارسه آلة النظام.
على اليسار السوري أن يدرك جيدًا أن الأزمة التي يعيشها مردها الأساسي نموذج الحكم الاستبدادي الذي ورثه بشار الأسد عن أبيه ومواصلته تركيز دعائم السلطة الشمولية على الطريقة البعثية التي تأسست على القطيعة مع الشعب، وبالتالي فإن اليسار مدعو إلى إعادة صياغة فهم جديد للثورة وتشكلها وجذورها، ومحاولة الاشتباك مع الفاعلين على الأرض من الحركات الشعبية لإدراك طبيعة المرحلة واستحقاقاتها.
من الأخطاء التي ارتكبها اليسار السوري وساهمت في تراجع مكانته الشعبية، أنه اختار العمل الميداني والأهلي على التنظيم الحزبي وهيكلة القواعد، مرجعًا ذلك إلى الحرب، والحال أن هذا الطرح أفقده القدرة على تقديم نفسه بديلًا سياسيًا يحمل رؤية للثورة ولمستقبل البلاد ما بعد الأسد.
المملكة المغربية
في المغرب، شكل الحراك الشعبي عام 2011 لحظةً فارقةً في التاريخ السياسي المعاصر أجبرت نظام الحاكم على القيام بعملية إصلاح سياسي والتنازل عن بعض صلاحياته، وذلك بعد أن رفع شعارات تُطالب بفصل الثروة والسلطة واستقلال القضاء وحرية الإعلام والعدالة الاجتماعية والتوزيع العادل للثروة واحترام حقوق الإنسان وإقامة ملكية برلمانية.
ورغم إسهام حركة 20 فبراير في انتعاش سوق اليسار الراديكالي كحزب النهج الديمقراطي وحزب الطليعة الاشتراكي الديمقراطي وحزب الاشتراكي الموحد والمؤتمر الاتحادي وبعض التيارات الطلابية، فإن هذه طوائف السياسية عجزت عن مجاراة نسق الحراك الشعبي وفشلت في قيادة عملية انتقال المغرب من نظام المخزن (الدولة العميقة) المتحكم بمواطن السلطة والثروة في المملكة والمستفيد من الزبونية والريع منذ عقود، إلى نظام ديمقراطي.
الأرقام تُشير إلى أن مجموع أصوات الأحزاب اليسارية التي تحصل عليها مجتمعة تقترب أو تساوي ما حصل عليه العدالة والتنمية (إسلامي) الذي يقود الائتلاف الحكومي منذ 2012، كما تُبين تراجع الحضور الانتخابي لمجموع الأحزاب اليسارية في انتخابات 2016 التي لم تتجاوز 34 مقعدًا، حصيلة أربعة أحزاب يسارية إضافة إلى فيدرالية اليسار الديمقراطي (3 أحزاب).
رغم أن اليسار المغربي شكل في ستينيات القرن الماضي، قوةً سياسيةً وازنةً في البلاد قادت المعارضة لعقود ثم حكومة التناوب سنة 1998، فإنه عرف مؤخرًا أعطابًا بنويةً عميقةً، فزيادة على الركود الفكري من حيث عطالة الإنتاج المعرفي بالتحولات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، يعيش اليسار المغربي انقسامًا وتشتتًا غير مسبوق.
فهذا التيار السياسي هو عبارة عن فيدرالية أحزاب صغيرة متنافسة فيما بينها بضراوة إلى درجة أنها تبدو لبعض منتقديها جمعيات نشطاء سياسيين أكثر منها أحزابًا، وسبب ذلك أن اليسار المغربي منقسم إلى صنوانين غير متكاملين وهما اليسار الإصلاحي المخزني واليسار الراديكالي باختلاف فصائله.
الجزائر
رغم الرصيد النضالي لليسار الجزائري الذي عرف بداياته مع نشأة نجم شمال إفريقيا سنة 1926 من طرف العمال المهاجرين في فرنسا بقيادة مصالي الحاج وزملائه، وحزب الشعب وجبهة التحرير الوطني، وكذلك بعد الاستقلال أين انتهجت الدولة الخيار الاشتراكي الذي يعاكس توجهات فرنسا المستعمرة السابقة، عرفت التيارات الكلاسيكية اليسارية الممثلة في حزب العمال وحزب العمال الاشتراكي والحركة الديمقراطية الاجتماعية وجبهة القوى الاشتراكية، حالة من الضعف والتشرذم نتيجة للانقسامات المتعددة.
وتعد نتائج الانتخابات التشريعية والمحلية التي أحرزها اليسار خلال السنوات الأخيرة دليلًا على أن هذا التيار يُواجه أزمة وجودية تسببت في تراجع صيته وفقدانه بريقه السياسي وتقلص مساحة شعبيته.
ويرى بعض المراقبين أن وضعية اليسار الجزائري تأثرت بعدة عوامل أهمها القمع والحصار الذي تعرضت له في عهد الرئيس السابق الهواري بومدين الذي نافس ذلك التيار في مرجعيته السياسية إلا أنه كان يساريًا ستالينيًا فرض فكرًا وحزبًا واحدًا.
من جهة أخرى، فإن نجاح السلطة في اللعب على المتناقضات والأضداد مثل ضربة لليسار الذي حُشر في معادلة مع التشدد الإسلامي الذي روجت إليه السلطة في التسعينيات، وبذلك تبوأت هي الحل أو المنطقة الوسط التي يلجأ إليها الشعب بحثًا عن الأمن والاستقرار.
أما العوامل الأخرى، فتتلخص في كون التيار اليساري الجزائري لم يُجرِ مراجعة ذاتية على مستوى البنية الفكرية والعقائدية أو مُجمل التصورات الفلسفية التي يقوم عليه هذا المكون السياسي، ولم يعمل على تكوين النخب الشابة بدل الشخصيات التاريخية التي أصابها الهرم، فضلًا عن غياب آليات اتصال الجماهيرية الفعالة.
وفي سياق متصل، أكد الصحافي الجزائري نصر الدين بن حديد أن جميع الأحزاب اليسارية عجزت عن التحول إلى رقم صعب في صناعة سياسات بلدانها وعن تبوأ مكانة محترمة في الانتخابات التي شهدتها الدول التي عرفت ما يسمى الربيع العربي، وذلك بسبب فشلها في ترسيخ خطاب يحمل مرجعيتها الإيديولوجية وفاعليته الميدانية
أما في الجزائر، فأشار بن حديد إلى أن اليسار بتنوع خلفياته بقي كائنًا أيديولوجيًا ونخبويًا، يفضل السيطرة على مفاصل الدولة من خلال التمكن من المراكز الحساسة، أكثر من المشاركة في انتخابات عجز عن إيجاد مكانة له من خلالها.
السودان
يدخل السودان مرحلة حرجة في تاريخه المعاصر بسلطة لم تبرز ملامحها بعد، فالشعب الذي ثار على نظام البشير متوجس من العسكر ومتخوف من أن تكون مهمة الحكومة الجديدة قتل الوقت حتى تنقضي الفترة الانتقالية تمهيدًا لمشروع قد يُعيد البلاد إلى النقطة صفر.
هذه الوضعية تعقدت أكثر بفعل تراجع قوى اليسار السوداني الذي عاد بقوة في بدايات الحراك الشعبي ضد نظام البشير من خلال شعاراته التي رُفعت في الشوارع، لصالح قوى جديدة غير محددة الملامح والاتجاهات الإيديولوجية.
قوى الإجماع الوطني التي ضمت الحزب الشيوعي السوداني وبعض أحزاب اليسار القومي العربي (البعثيين والناصريين) تعاني هي نفسها من الصراعات الأيديولوجية الظاهرة والخفية فيما بينها داخل الاجماع الوطني وخارجه مع أحزاب اليمين في قوى الحرية والتغيير، وقد فقد هذا الجسم أهم أعمدته (الحزب الشيوعي السوداني) بقراره الانسحاب من عضوية الإجماع الوطني وقوى الحرية والتغيير في نفس الوقت.
صوت اليسار السوداني خفت بتراجع قوى التغيير التي اقتصر جهدها بعد انتصاب السلطة الانتقالية على الوقوف أمام مقترح جعل الشريعة مبدءًا أساسيًا للتشريع، وهو ما رفضه المجلس العسكري الذي يعمل بدوره على تقليم أظافر القوى اليسارية التي أطاحب بالبشير.
أما تراجع الحزب الشيوعي السوداني فيعود إلى افتقاده للقواعد الاجتماعية الممتدة وفشله في تكوين حزام سياسي وشعبي داعم لرؤيته السياسية القائمة على رعاية مصالح الفئات المهمشة (الطبقة العاملة)، إضافة إلى عجزه عن صناعة ماكينة إعلامية واجتماعية أهلية قادرة على تعبئة الشارع، والأهم من ذلك عدم تجاوزه الخطاب النخبوي الفئوي.
إعادة التشكل
موضوعيًا، يعاني اليسار العربي من جروح عميقة وندوب سياسية تاريخية، حالت دون استثماره الربيع العربي من أجل إعادة التشكل بما يتماهي مع التحولات السياسية والاجتماعية والتخلص من الشعارات الطنانة وسياسة تبجيل الشخوص على الأوطان.
أما شروط الصعود إلى المشهد من جديد، فتتلخص بالأساس في إعادة إنتاج فكر اشتراكي يعكس واقع وتطلعات المجتمعات العربية وإعادة قراءة الأدبيات القديمة من أجل تحديث توجهاته الفكرية بشكل يتماشى ويتناسق مع المطالب الشعبية والاستحقاقات الراهنة.
وفي ضرورة خلق جيل جديد يستطيع تشكيل ديناميكية سياسية تقطع مع منطق الشخوص والأسماء من أجل الانتشار والحضور في الفضاء العام على أساس البرامج والرؤى والأطروحات التي تُعالج القضايا اليومية للمواطنين.
من جهة أخرى، فإن عملية تجاوز المأزق التاريخي وإيقاف حالة التراجع تتطلب أولًا معالجة ظاهرة “الردة الفردية والجماعية” التي تشهدها أوساط اليسار منذ أكثر من عشرين عامًا، ثم إعادة إحياء وصياغة مشروع الكتلة التاريخية على الطريقة “الغرامشية” لإنجاز التغيير والإصلاح.
أما الجزء الأهم، فيتمثل في ضرورة إدراك اليسار العربي للخلل المنهجي في خطاباته وأطروحاته وتقييمها ومراجعتها، من خلال فتح ملفات التراث ومعالجة مصادر معرفة، وهي ميكانيزمات تُساعده على إعادة قراءة الواقع بصورة موضوعية تجعل منه إطارًا فاعلًا في البيئة والجغرافيا وتُمكنه من تجاوز عقده وصراعاته مع خصومه التاريخيين (الإسلاميين).
إن تهليل اليسار العربي بأجنحته المختلفة من قوميين وناصريين وشيوعيين وغيرهم للثورات العربية ومحاولته قيادة التغيير في تلك البلدان على اعتبار أن هذا الحدث كان متنفسًا له بعد أن أفل نجمه واهترأت شعاراته، لم يدم طويلًا، فمحاولات الانبعاث الجديد فشلت في التعبير عن الحالة (ثورة) وعن آمال الشعوب، لذلك اختارت أغلب هذه التنظيمات الوقوف أمام عجلة التاريخ بتأييدها الأنظمة الديكتاتورية (سوريا) وحكم العسكر (مصر).