“نلتقي في مقهى مصر والسودان بالجيزة تمام الساعة العاشرة مساء”، بهذه الكلمات أنهى الباحث السوداني عثمان الفاتح حديثه معي عبر الهاتف، دون أن يحدد بالتفصيل مكان هذا المقهى الذي يحمل اسم العديد من الشوارع والميادين الشهيرة في مصر.
حاولت الاتصال به مرة أخرى لكن كان هاتفه خارج نطاق التغطية، فعقدت العزم على خوض تلك المغامرة بمفردي، وقبيل أن أتوجه إلى ميدان الجيزة، وتحديدًا قبل صعود جسر شارع فيصل الشهير، سألت أحد أصحاب المحال التجارية عن عنوان هذا المقهى وما إذا كان يعرفه أم لا، فجاءت الإجابة سريعة ومن دون تردد.
أخبرني الشاب المصري الذي لم يتجاوز عمره الـ 30 عامًا أن المقهى شهير جدًّا في المنطقة، وأنه مخصص للأشقاء السودانيين وبعض الجنسيات الإفريقية الأخرى كالإريتريين والصوماليين، كما أنه تحول في الآونة الأخيرة إلى قبلة القادمين من السودان لأول مرة، سواء من اللاجئين أو العاملين.
وبعد دقائق معدودة من السير على الأقدام إذ بالمقهى على بعد أمتار قليلة، وفيه ما يزيد عن 50 شخصًا من أصحاب البشرة السمراء، أصواتهم العالية تخترق المكان، تمزج بين العربية باللهجة السودانية الشهيرة وبعض اللهجات الأخرى غير المفهومة، الكل في حالة انسجام غير طبيعي، تشعر كأنك في جولة على جناح السرعة إلى الخرطوم أو مقديشو.
تعد الجالية السودانية في مصر هي الأكبر عددًا، مقارنة بالجاليات الأخرى، ورغم أنه لا يوجد إحصاء رسمي لعدد السودانيين المقيمين في المحروسة، لكن التقديرات النسبية تشير إلى أنهم بين مليوني إلى خمسة ملايين سوادني، يعيش أغلبهم في محافظات الجيزة والقاهرة وأسوان، بينما تشير إحصائية اللاجئين المسجلين لدى المفوضية السامية للاجئين التابعة للأمم المتحدة العام الماضي إلى أن عددهم يبلغ 37 ألف لاجئ سوداني مسجل رسميًّا في مصر.
المقهى.. ملتقى الأحباء
وصلت قبل الموعد المحدد بربع ساعة تقريبًا، لم يكن صديقي الفاتح قد وصل بعد، وهو ما وجدت فيه فرصة سانحة للاقتراب أكثر من رواد هذا المقهى، الذي يبدو غريبًا -على الأقل بالنسبة إليّ كمصري- ففي المقدمة هناك تجلس سيدة خمسينية تستقبل الضيوف بترحاب شديد، وبجوارها أخرى ترسم الحناء، وفي الخلف منهما عجوز يقوم على إعداد أدوات التدخين (تجهيز الشيشة ولف السجائر).
استقبلني أحد العاملين بالمقهى، شاب عشريني مصري يدعى مصطفى، وأجلسني على طاولة قريبة نسبيًّا من الشارع الرئيسي لمراقبة قدوم صديقي السوداني، وقبل أن أطلب شيئًا لأتناوله إذ بهذا الشاب يعرض عليّ تقديم “جَبَنَة بالدوا”، كانت هذه أول مرة أسمع هذا المسمى، لكنه بادرني قائلًا: “قهوة سوداني”.
وعن أصل هذا المسمى قال مصطفى الذي عمل لسنوات في أحد مطاعم الخرطوم: “جبنة” تعني القهوة بالسوداني، و”بالدواء” تعني محوجة، والمعنى “قهوة محوجة” وهي عبارة عن قهوة يضاف لها الحبهان، الزنجبيل أو القرنفل، لافتًا إلى أنه لا بد أن يتم تناولها وأعواد البخور تشتعل حولها، تلك طقوس السودانيين في هذا المقهى.. هكذا أضاف.
يعد المقهى ملتقى السودانيين في مصر، ففيه تعقد الاجتماعات ويتم تناول القضايا والملفات المختلفة، بل إن بعض مسؤولي السفارة السودانية في القاهرة يعقدون اجتماعاتهم مع أعضاء الجالية في المقاهي، لما تحمله من إحياء لتراث البلاد في ظل التمسك بالطقوس المعتادة.
وعلى عكس المقاهي المصرية، فإن المقاعد الخلفية هي التي تخصص للنخبة، وهم في الغالب أصحاب الفكر والمال، حيث يسمح لهم بإدارة الحديث والاجتماعات وتقديم المشورة والنصيحة لبقية أفراد الجالية، خاصة أن كثيرًا منهم لم يحصل على القسط الكافي من التعليم.
بعض المقاهي السودانية تقدم وجبات غذائية مع المشروبات، فتقوم بدور المطاعم والمقاهي في آن واحد، ومن أشهر الأطباق التي تقدم طبق “الشية”، وهو عبارة عن قطع لحم صغيرة مكعبة الشكل يضاف إليها التوابل السودانية المعروفة، هذا بجانب “الكسرى”، وهو الخبز السوداني الذي يعد الوجبة الدائمة على كافة الموائد، ويؤكل معه “الويكا”، وهي عبارة عن بامية ولها عدة أنواع.
أما في رمضان فهناك “العصيدة”، وهي الطبق الأشهر في رمضان. ومن أكثر ما يميز الأكل السوداني عمومًا كثرة البهارات وعلى رأسها القرفة بشكلَيها الخشن والناعم، بجانب الحبهان والكزبرة والفلفل الأسود بخلاف الشمار (الكمون).
التجارة.. أبرز مجالات العمل
يعمل الغالبية العظمى من السودانيين في مصر في مجالات التجارة، لا سيما المصنوعات الجلدية والتوابل الغذائية، وهو المجال الذي يقبل عليه الأفارقة بصفة عامة مقارنة بأي مجال آخر، وعليه ينتشر أصحاب البشرة السمراء في الأسواق التجارية الشهيرة كالعتبة والحسين ووسط البلد.
يقول محمد، وهو شاب من الخرطوم: “قدمت من بلادي منذ 5 سنوات تقريبًا، للبحث عن فرصة عمل أفضل هنا في مصر، بعد تشجيع أقاربي وأبناء عمومتي ممن يقيمون في الجارة الشمالية لأكثر من عشر سنوات”.
وأضاف: “بحثت عن فرصة عمل مناسبة، لكن بعد طول عناء استقر بي الحال بائعًا للحقائب والأحزمة الجلدية في منطقة العتبة والموسكي، بدأت بائعًا متجولًا ثم مع مرور الوقت استطعت أن أنشئ مشروعي الخاص وبات لي محل اليوم”.
يشير الشاب السوداني إلى أن قطاع التجارة يحتضن ما يزيد عن 40% على الأقل من أبناء الجالية السودانية، فيما يتوزع الباقي على مجالات المطاعم ومراكز التجميل (بالنسبة إلى النساء) والمقاهي، والنسبة الأقل تعمل في الأعمال الإدارية داخل المؤسسات والشركات المصرية.
أسرة واحدة
السودانيون في مختلف دول العالم من أكثر الجاليات التحامًا وتعاونًا، وسواء في مصر أو غيرها يلاحظ وجود حالة من اللحمة بين أبناء البلد الإفريقي، فتراهم يدًا واحدة في الشدائد والمصائب، وصوتًا واحدًا في الدفاع عن أي منهم، كما تجدهم قوة صلبة في مواجهة أي اعتداء على أحدهم.
يجتمع أبناء الجالية في المناسبات الوطنية بشكل دوري، هذا بخلاف الأعياد الدينية، حيث تمارس كافة الطقوس السودانية دون استثناء، “كأننا في السودان” كما يقول عمر الذي يؤكد أنه لا فرق بين الحياة هنا في مصر وهناك في كوستي التابعة لولاية النيل الأبيض.
“في الأفراح نحرص على الالتزام بالتراث السوداني، سواء في الاحتفالات أو طقوس الزفاف، وفي الغالب يكون الزواج من أبناء الجالية أنفسهم، فهم أدرى بالعادات والتقاليد”، هكذا أضاف الشاب السوداني، لافتًا إلى أن التلاحم بين مواطني بلده يشعرهم بالدفء ويقلل من آلام الغربة.
وفي السياق ذاته قلما تمر ليلة دون ممارسة طقس من طقوس السودانيين، سواء في المقاهي أو المطاعم الخاصة بهم، أو في جلساتهم العائلية، فحين تطأ بقدمَيك مقهى مصر والسودان على سبيل المثال، سيداعب مسامعك صوت المطرب السوداني الشهير محمد وردي وهو يشدو على السلّم الخماسي الذي تتميز به الموسيقى السودانية.
الأمر ذاته ستجده خلال زيارتك لحارة الصوفي الواقعة بالقرب من شارع عبد الخالق ثروت من اتجاه ميدان الأوبرا بوسط القاهرة، والتي تحولت إلى ملتقى يجتذب “أهل الجنوب” الموجودين في القاهرة، سواء للعمل أو السياحة، حيث سيطرب مسامعك صوت الفنان السوداني محمود عبد العزيز، معشوق أبناء الجنوب.
أوضاع معيشية صعبة
نسبة قليلة من السودانيين المقيمين في مصر يحصلون على مساعدات من مفوضية اللاجئين، أما السواد الأعظم منهم فيتكفل بالإنفاق على نفسه، وهو ما يضع الكثير منهم في مأزق حقيقي في ظل تراجع المستوى الاقتصادي بصفة عامة خلال الآونة الأخيرة.
شهادات الكثير من السودانيين تذهب إلى أن الأوضاع كانت أفضل خلال فترة حكم الرئيس الراحل حسني مبارك، حيث كانت الأجواء مفتوحة أمام الأفارقة، وكانت التضييقات الأمنية أقل بكثير، ما كان يعطي مساحة أكبر من الوقت والعمل للسودانيين لتوفير نفقاتهم والتربح من تجارتهم.
“كان متوسط الربح اليومي يتراوح بين 200-400 جنيه مصري قبل عام 2011 (50-100 دولار في ذاك الوقت) لكن الأمر تراجع اليوم لأقل من 100 جنيه في اليوم (7 دولارات)”، هكذا علق إسماعيل على الحالة المعيشية المتدنية التي يحياها أبناء وطنه في الغربة.
وأضاف الرجل الستيني السوداني أن ارتفاع الأسعار الجنوني الذي شهدته مصر خلال السنوات الخمس الأخيرة كان له تأثيره السلبي على الوضع المعيشي، حتى اضطر كثير من السودانيين إلى قبول عمل النساء والفتيات في مراكز التجميل والمقاهي الكبرى من أجل المساعدة في توفير لقمة العيش، وهو ما كان مرفوضًا سابقًا.
الوضع تأزم أكثر خلال العام الأخير، حيث ألقى وباء كورونا بظلاله القاتمة على الخارطة الحياتية للسودانيين، ليس في مصر فقط، بل في مختلف دول العالم، لا سيما أن القطاعات التي يعمل بها أغلب السودانيين ترتبط ارتباطًا وثيقًا بحركة المواطنين ومنحنيات البيع والشراء، ومن ثم فهي على قائمة المجالات الأكثر تأثرًا بالتداعيات السلبية لفيروس كورونا الذي خيّم على العالم أجمع.
التسييس والتضييقات الأمنية
من أبرز التحديات التي يعاني منها السودانيون في مصر، التضييقات الأمنية التي يتعرضون لها بين الحين والآخر، خاصة أن نسبة كبيرة منهم لا تملك أوراق ثبوتية صحيحة، ومن ثم تزداد الشكوك بشأنهم وتأثيرهم الأمني والمجتمعي، ما يجعلهم عرضة للمضايقات من قبل السلطات المصرية.
كما يدفع الكثير من أبناء الجالية ثمن تسييس القضايا بين مصر والسودان، فموجات المد والجزر في العلاقات بين البلدين تنعكس عليهم إيجابًا وسلبًا، حتى أنهم في بعض الأحيان، لا سيما خلال فترة حكم مبارك، تحولوا إلى ورقة ضغط في يد القاهرة يتم استخدامها حيال بعض الملفات المشتركة مع الجار الجنوبي.
وفي الآونة الأخيرة شهدت العلاقات بين البلدين بعض التوترات نتيجة تباين وجهات النظر حيال عدد من الملفات أبرزها سد النهضة وحلايب وشلاتين، الأمر الذي دفع سلطتي البلدين إلى اتخاذ إجراءات قاسية بحق الجالية هنا وهناك، منها تقييد الدخول إلا بتأشيرات، مع تعليق السفر في بعض الأوقات، وهو ما انعكس على مستوى الاحتقان بين الشعبين.
ورغم تلك المضايقات التي قد يكون ثمنها في بعض الأحيان غاليًا جدًّا، إلا أن هناك ما يمكن أن نسميه “كيمياء” بين الشعبين، المصري والسوداني، فهما الأكثر صلة واندماجًا، وبينهما حزمة من العوامل التاريخية والثقافية والسياسية المشتركة، ما يجعلهما الشعبين الأٌقرب أحدهما للآخر في المنطقة، وهو ما أدى إلى ديمومة تلك العلاقات رغم التحديات والخلافات السياسية العميقة بين البلدين في كثير من المراحل التاريخية.