شكلت طوابير الخبز الممتدة لمئات الأمتار في المحافظات السورية الخاضعة لسيطرة النظام السوري، هاجسًا جديدًا لدى الحكومة التي بدت عاجزة عن تلبية احتياجات مواطنيها الرئيسية على موائد السوريين، الذين يعيشون ويلات الأزمات والانهيار الاقتصادي، ونتيجة نقص الطحين بشكل حاد وعجزها عن استيراد كميات كافية منه لتحقيق الاكتفاء.
أزمة الخبز
عملت الحكومة على تخفيض نحو 16% من مخصصات الطحين للأفران، إلى جانب رفع سعر ربطة الخبز إلى 100 ليرة سورية، كما رفعت سعر طن الطحين إلى 40 ألف ليرة سورية في الربع الأخير من عام 2020، في ظل انعدام توفره في الأسواق، ما زاد الطين بلة إلى جانب الانتظار لساعات طويلة للحصول على ربطة خبز في عموم المحافظات السورية، التي تشهد زخمًا في طوابير الخبز بين حين وآخر.
وحددت المؤسسة السورية للحبوب التابعة لوزارة التجارة في حكومة النظام أسباب اتخاذ هذه القرارات: الأول ما أسمته الحصار الاقتصادي المفروض عليها من الخارج، أما السبب الثاني يعود إلى عدم توفر القطع الأجنبي اللازم لإتمام وإنجاز بعض العقود التي أبرمتها المؤسسة لاستيراد الطحين.
يقول مدير الشركة العامة للمخابز في الحكومة السورية المؤقتة علي العبيد خلال حديثه لـ”نون بوست”: “الخبز هو المادة الغذائية الأساسية وتكاد تكون شبه الوحيدة لدى المواطن السوري الذي أنهكته سنوات الحرب الطويلة، ولا يمكنه الاستغناء عنها على الإطلاق”.
مضيفًا: “تعاني مناطق سيطرة النظام ظروفًا شديدة الصعوبة لكنه لا يهتم لأمر الشعب الذي يعيش في مناطقه، أي أن الفساد مستشرٍ هناك، وبالتالي إن المواطن في مناطق النظام يشعر بأعلى درجات السخط على النظام وعدم مبالاته لمعاناته”.
وأوضح: “المخابز لها طاقة إنتاجية محدودة لا تستطيع تغطية الاحتياجات، ولا سيما أن المشكلة الأساسية في تأمين المواد الأولية وليس بالطاقة الإنتاجية، وهناك نقص شديد في زراعة القمح في عموم البلاد”.
عام القمح يتحول إلى قحط
دعت هذه الأزمات والتطورات الجديدة القديمة خلال العام المنصرم، النظام السوري عبر وزارة الزراعة إلى ترويج زراعة القمح مطلقةً على الموسم الزراعي 2020-2021 عام القمح، محاولةً من خلال ذلك تشجيع الفلاحين في سوريا وعموم مناطق سيطرتها على زراعة القمح لتحقيق الاكتفاء الذاتي منه في ظل حاجة الأفران الملحة للطحين.
لعب غياب المحروقات دورًا في التأثير على المستوى الإنتاجي، خاصة أنه ساهم في تخفيض الكمّ الإنتاجي لمحصول القمح، في ظل الغياب شبه الدائم للمحروقات وسطوة الميليشيات على مصادر استيراده.
ويبدو أن آمال وزارة الزراعة في تحقيق الاكتفاء الذاتي من محصول القمح لإمداد الأسواق بمادة الطحين بدت غير مجدية في ظل ندرة الهطولات المطرية، التي كانت تعول عليها خلال شهر مارس/ آذار المنصرم لزيادة إنتاج الزراعة البعلية، لا سيما أن الكثير من الفلاحين لم يستطيعوا ري محاصيلهم لأسباب عديدة متعلقة بانقطاع الكهرباء المتواصل وصعوبة توفير المحروقات وارتفاع أسعارها.
عوامل ساهمت في تدني إنتاجية القمح
يبدو أن العوامل التي ساهمت في تدني إنتاج القمح لهذا العام عديدة، في ظل الوضع الاقتصادي الذي تعيشه البلاد:
1- ندرة الهطولات المطرية والثلجية
ساهمت ندرة الهطولات المطرية والثلجية التي كانت تعول عليها وزارة الزراعة في حكومة النظام السوري إلى تدني المستوى الإنتاجي المتوقع في عموم مناطق سيطرة النظام السوري، وحتى المناطق الخارجة عن سيطرته في مناطق الإدارة الذاتية ومناطق المعارضة السورية شمال البلاد.
وقال المهندس الزراعي قيس حلاوة خلال حديثه لـ”نون بوست”: “إن شح الهطولات المطرية والثلجية التي انخفضت إلى النصف تقريباً عن العام الماضي، ساهم في تدني المحصول الإنتاجي للقمح وكافة المزروعات الأخرى، ولم يعد بإمكان الفلاحين حصد التكاليف المالية التي وضعوها في محاصيلهم”.
2- غياب المحروقات والكهرباء
لعب غياب المحروقات دورًا في التأثير على المستوى الإنتاجي، خاصة أنه ساهم في تخفيض الكمّ الإنتاجي لمحصول القمح في ظل الغياب شبه الدائم للمحروقات وسطوة الميليشيات على مصادر استيراده من مناطق سيطرة الإدارة الذاتية، وتحكمها بأسعاره.
ووفقًا لأرقام حكومة النظام ذاته، فإن عدد الأراضي المروية لمحصول القمح نقص عن العام الماضي نحو نصف مليون هكتار. في حين أن انقطاع الكهرباء عن المشاريع الزراعية المتواصل انعكس سلبًا أيضًا في تردي المحصول الإنتاجي للقمح، حيث لم يعد بإمكان أصحاب المشاريع الزراعية ري محاصيلهم من خلال آبار المياه في ظل ارتفاع أسعار المحروقات في السوق السوداء وندرة الكهرباء.
3- ارتفاع أسعار المستلزمات الزراعية
كما شكّل ارتفاع أسعار المستلزمات الزراعية عائقًا أمام الفلاحين في تقديم الخدمات الزراعية لمحاصيلهم، لا سيما أنها ارتفعت مع انهيار الليرة السورية أمام العملات الأجنبية حيث يصل سعر عدد من عبوات المبيدات نحو 400 ألف ليرة سورية، وهذ المبلغ كبير على الفلاحين.
يؤكد المهندس الزراعي قيس حلاوة: “أصبحت أسعار المستلزمات الزراعية تضاهي قدرة الفلاحين على شرائها، ما انعكس سلباً على إنتاجية القمح، حيث وصل سعر طن الأسمدة إلى حوالي 500 دولار أميركي، وهذا المبلغ صعب تأمينه من قبل الفلاحين ما دفعهم إلى العزوف عن تقديم الخدمات الزراعية لمحاصيلهم”.
4- الفساد المستشري في مؤسسات الزراعة
الفساد المستشري في مؤسسات الزراعة وغلبة المحسوبيات والميليشيات المسيطرة على هذا القطاع ساهما أيضًا في نقص الإنتاج المحلي لمحصول القمح، حيث لم يعد بإمكان الفلاحين تحمل ما يجري في هذا القطاع، إلى جانب دعم أشخاص وتجار محسوبين على الحكومة دون دعم الفلاحين لخدمة مشاريعهم الزراعية.
5- الحرب وأسراب الجراد
القصف العنيف والتضييق على الفلاحين وتهجيرهم من معظم المناطق التي كانت خاضعة في السابق لسيطرة المعارضة، ساهم في انخفاض مساحة الأراضي المستصلحة للزراعة. كما أن أسراب الجراد التي ضربت ريف دمشق وحمص والسويداء ودير الزور كانت أحد العوامل التي أثرت على المزارعين، في حين اعتبرت وزارة الزراعة في حكومة النظام أنها أسراب جراد صحراوي بأعداد قليلة لكن سرعان ما كذّبتها شبكات التواصل الاجتماعي التي بثت مقاطع مصورة لأسراب ضخمة من الجراد.
ويبدو أن هذه العوامل كفيلة في التأثير على إنتاج القمح، ما سيساهم في خلق أزمات جديدة متواصلة وسط عجز واضح وكبير في كميات القمح المتوقع حصدها هذا العام، حيث يتجلى واضحًا في طوابير البشر التي نراها على أفران الخبز في أغلب المحافظات السورية.
مناطق زراعة القمح
يعتبر الخزان الأساسي للقمح السوري هو منطقة الجزيرة شرقي سوريا، والتي تخضع لسيطرة الإدارة الذاتية، والجزء الآخر من المحصول يتم زراعته في المناطق الخاضعة لسيطرة المعارضة شمالي غربي البلاد، وعدد من المناطق الخاضعة لسيطرتها مثل ريف حلب الجنوبي والسويداء وريف دمشق وريف حمص، بالتالي إن النظام غير قادر على تأمين احتياجاته من القمح لأن السهول الزراعية الواقعة تحت سيطرته ذات تربة فقيرة تحتاج إلى كميات وفيرة من الهطولات المطرية أو الري غير المتوفر هناك.
حاجة سوريا من الطحين سنويًّا
يقول المحلل الاقتصادي يونس الكريم لـ”نون بوست”: “حاجة سوريا من الطحين تقدر بمليون و200 ألف طن من الطحين التمويني، وهذا يحتاج إلى مليون و500 ألف طن من القمح سنويًّا، ويتراوح إنتاج سوريا بين 2.5 مليون طن في المواسم العادية لكن على ما يبدو أن هذا العام سيكون أقل إنتاجًا من الأعوام السابقة”.
ويوضح الأسباب: “سوء الطقس وانخفاض نسبة الهطولات المطرية إلى 43% على مناطق الإدارة الذاتية التي تنتج نحو 90% من قمح البلاد، والحرائق في العام الماضي التي أنهكت التربة، والصراع الدائم بين النظام والإدارة الذاتية للاستحواذ على القمح الذي وضع الفلاحين في حيرة من أمرهم، إلى جانب انخفاض ثمن كيلو القمح الذي حددته وزارة زراعة النظام بـ 900 ليرة سورية (30 سنتًا أميركيًّا) عندما كان سعر الدولار 300 ليرة سورية، وسعره عالميًّا 7.3 دولار من أرض المزارع، أي إن سعر الكيلوغرام لم يحقق التكاليف الموضوعة على المشروع الزراعي”.
ويعمل النظام عادةً على بيع منتج القمح القاسي لاستيراد القمح الطري الأرخص ثمنًا لإنتاج الخبز، وهو ما ينعكس على النظام للحصول على القطع الأجنبي. وقد أعلن النظام عن مناقصات لاستيراد 400 طن من القمح لكن معظمها فشل بسبب إلغاء العقود من الشركات الموردة إلى سوريا، ما دفعه إلى استيراد القمح بالليرة السورية من قبل القطاع الخاص لكنه فشل أيضاً بسبب انهيار سعر الصرف، ولا يوجد لدى النظام الآن إمكانية لاستيراد القمح.
البدائل لسدّ الاحتياجات
يوجد مجموعة من البدائل يعول عليها النظام لسد احتياجات مواطنيه من مادة الطحين المدعوم، منها افتتاح الباب أمام التجار في القطاع الخاص لاستيراد القمح، لتحرير سعر الخبز، والاعتماد على المساعدات الدولية لتوريد القمح لتخفيف الضغط على النظام بحسب ما أوضح يونس الكريم.
واعتبر أن الضغوط الدولية وصعوبة استيراد القمح من الخارج ستلجئ النظام إلى استجراره من مناطق الإدارة الذاتية عبر صفقات سياسية في سبيل الحصول على القمح، وأيضًا من مناطق المعارضة، في حين تبدو المسألة هنا صعبة لأن المعارضة ستعمل على منع تدفق القمح خارج مناطقها بسبب انخفاض عدد الهكتارات المزروعة بالقمح، ما سيدفع النظام السوري إلى الاعتماد على الدول الصديقة لدعم هذا المنتج.
ويرى الكريم أن فقدان محصول القمح إنتاجيته سيساهم في انتشار المجاعة وفقدان الخبز ما سيخلق أزمة جديدة، لأن الذي يعيش في الداخل لا يملك أي إمكانية مع انتشار الفساد وتفكك الدولة وانعدام أفق حل سياسي ينهي الأزمات.
نهايةً يبدو أن حكومة النظام السوري لن تستطيع التخلص من أزمة الخبز في ظل انعدام توفر مادة الطحين وانخفاض مخصصات الأفران العاملة في المحافظات السورية، ووفقًا للمعطيات الأولية لمحصول زراعة القمح فإنها أمام أزمة جديدة من فقدان مادة القمح.