في الوقت الذي تروّج فيه السلطات المصرية لسردية تراحمية استثنائية مع خصومها من “أهل الشر”، كما يسميهم الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، وذلك عبر “باقة” من الأعمال الدرامية التي تنتجها شركات تابعة للمخابرات المصرية، إلى حد تصوير مشهد في مسلسل “الاختيار 2” يقول فيه أحد المتهمين إنه يخشى على عائلته من عقاب قوات الأمن، فيرد ضابط الأمن الوطني عليه بأن قيم المؤسسة التي ينتمون إليها تحتم عليهم تنحية الجانب الأسري عن أي ابتزاز، إذ يعي ضباط الأمن الوطني المصري -كما يقول الممثل كريم عبد العزيز- أن عليهم حماية ذوي المتهمين من خصومهم، رغم كل شيء.
في هذا المناخ من البروباغاندا الفاقعة، تطل علينا حادثة مأساوية بكل المقاييس، لأحد الشبان الإسلاميين المعتقلين في أحد السجون الغابرة جنوب مصر، حيث تعرّض هذا الشاب لاعتداء بدني وجنسي، دون مبرر أو مسوغ.
ولما قررت أسرته الاحتجاج القانوني ضد ما صدر من السلطات المصرية في حق نجلها، قامت قوات الأمن باعتقال كل أفراد الأسرة تقريبًا، ما يكذّب سرديات النظام عن التعاطف المفرط مع الخصوم، ويعيد تسليط الضوء على ممارساته الوحشية التي تهدد السلم الاجتماعي وتبدد أي آمال في دولة قانون دستورية، كما تدّعي السلطات للإعلام الخارجي.
ماذا حدث بالضبط؟
تقول والدة المعتقل منذ 7 أعوام في السجون المصرية، عبد الرحمن الشويخي، إنها زارته منذ حوالي أسبوع تقريبًا، فوجدت عليه علامات التعب والإعياء المزمن، على غير العادة، ما أثار قلقها على وضع احتجاز نجلها في سجن المنيا المركزي.
فيما يبدو لم يستطع الشاب المعتقل إخبار الأم بما جرى خلال الزيارة، نظرًا إلى التدابير الأمنية المشددة التي تتخذها مصلحة السجون بحق المعتقلين خلال الزيارات من تضييق ورقابة، ومنع للاتصال المباشر، وتخويف من أي تحركات غير مألوفة خلال الزيارة.
ولكن استطاع الشاب أن يسرب لوالدته، وهو سلوك معروف بين المعتقلين السياسيين في السجون المصرية لتسهيل التواصل مع أسرهم، رسالة مكتوبة بخط يده، يقص عليها فيها ما حدث له من قوات الأمن ورجالهم.
ما حدث بالضبط كما رواه الشويخي، أنه في يوم السادس من أبريل/ نيسان الحالي، قام المخبرون والمسيِّرون الجنائيون وعساكر من قوات الأمن بتعصيبه وإحكام السيطرة عليه تمامًا، ثمّ تعذيبه بدنيًّا، والاعتداء عليه جنسيًّا.
كان المسيِّر قد اشتبك مع الشويخي لفظيًّا على خلفية إصرار الأخير على قراءة الأحاديث النبوية بلا شروح عبر نافذة الزنزانة كي يسمع باقي الغرف المجاورة كلام الرسول.
حاول المعتقل استعطاف سجانيه كي لا يتطور الاعتداء البدني إلى اعتداء جنسي، ولكنهم أرادوا إذلاله، وأجبروه على السجود تحت أقدام المسيِّر الجنائي، وهو شخص -بحسب عبد الرحمن- محكوم عليه قضائيًّا في ملفات جنائية، ويعمل مع أجهزة الأمن مرشدًا ومشرفًا على الأعمال اليومية في العنابر، كإدخال الطعام وجمع القمامة، وهو يملك سلطة رمزية أعلى من سلطات المخبرين التابعين للسجن.
في البداية، كان المسيِّر قد اشتبك مع الشويخي لفظيًّا على خلفية إصرار الأخير على قراءة الأحاديث النبوية بلا شروح عبر نافذة الزنزانة كي يسمع باقي الغرف المجاورة كلام الرسول، وهو ما لم يعجب المسيِّر وأدى إلى اشتباكهم، ثم تفاقمت الأزمة بعد أن قال المعتقل إنه سيشكو لادارة السجن قيام أحد المساجين، على الأغلب ذي صلة بالمسيِّر الجنائي، بتزوير توقيعه والسطو على “الأمانة” الخاصة به (أموال)، فقرر المسيِّر وباقي المسؤولين عقاب المعتقل وتأديبه على هذه التجاوزات، من وجهة نظرهم.
تحرُّك الأسرة
قال المعتقل في رسالته إن ما حدث لا ينبغي أن يمر مرور الكرام، إذ لم يعد الأمر متوقفًا على التعديات البدنية والتأديب، ووصل إلى الانتهاكات الجنسية والانحرافات العقدية، دون أي مبرر أو مسوّغ، إلا الانتقام والتشفي والتعبير عن القوة المفرطة.
وأخبر الشويخي أمه في رسالته، بعد الاعتذار لها عما كشفه في متن الرسالة لما سيسببه لهم من إزعاج وألم، أنه سيبدأ من ناحيته إضرابًا مفتوحًا عن الطعام والشراب؛ فإما يُحاسب المعتدون على جريمتهم، من تعذيب واعتداء جنسي، وإما يموت المعتقل شهيدًا جراء امتناعه عن الطعام والشراب، مصادقًا لقول رسول الله: “من مات دون عرضه فهو شهيد”، كما ورد في نص الرسالة.
وطالب المعتقل أسرته بألا يفرّطوا في حقه، عبر تقديم بلاغ قانوني رسمي أمام النيابة العامة، وأن يسيروا في كل المسارات القانونية السلمية الممكنة، حتى لو وصلت الأمور إلى رفع أخيه المقيم خارج مصر دعوى قضائية في المحاكم الدولية.
وقد حمّلت المنظمات الحقوقية، مثل الشهاب لحقوق الإنسان، قوات الأمن المصرية ممثلة لمصلحة السجون المسؤولية عن حياة عبد الرحمن، بعد أن شرع في تنفيذ إضرابه عن الطعام، وقامت والدته بتقديم شكوى شفاهية لمأمور السجن، وبلاغ إلى النيابة العامة في المنيا برقم 545، نيابة المنيا إداري الجديدة، وقالت في لقاء تلفزيوني مع الجزيرة مباشر أنها باتت تنتظر خبر وفاة نجلها في أي لحظة.
تعنُّت الشرطة
بعد أن نجح محمد في تسريب رسالته إلى الخارج، وقرر أن يخوض هذه المعركة إلى نهايتها، قامت مصلحة السجون بالتحايل على الوقائع، فأرسلت المعتقل إلى المستشفى الملحق بالسجن كي يتم مداراة آثار الاعتداء ومداواة الجروح الظاهرة، وذلك قبل أن تسمح له بالذهاب إلى النيابة التي طلبت استدعاءه للإدلاء بأقواله.
ووفقًا لما ذكرته والدته في الإعلام، فإن مأمور السجن أنكر شفاهيًّا لها أن يكون قد تعرض إلى أي اعتداء، وبدأت سلطات السجن تروّج سردية مفادها أن المعتقل مريض نفسي غير سوي، يتلقى العلاجات النفسية، وأن ما نقله إلى الخارج عرض من أعراض اضطرابات الشك والذهان والهلاوس والضلالات.
تعاني الأم التي اقتيدت في سيارة منفردة من مرض السكري الذي يسبب لها مضاعفات على العين والصحة العامة.
كما تعرّض عبد الرحمن على مدار الأسبوع الحالي، بعد نقل الرسالة، لاعتداء بدني مكثف، عقابًا له على فعلته، ولكن هذه المرة كانت على يد ضابط الأمن الوطني المسؤول عن سجن المنيا، حسبما نقل أحد المعتقلين المقربين من عبد الرحمن إلى أسرته.
وفي الساعات الأخيرة، داهمت قوات الأمن الوطني منزل عائلة المعتقل، واعتقلت 3 من أفراد أسرته، هم الأم والأخت، اللتان اقتيدتا إلى مقر الأمن الوطني في “المعصرة” بحلوان، دون أن تتمكنا من ستر نفسيهما، بالإضافة إلى رب الأسرة، كما وثّق عمر الشويخي، شقيق المعتقل.
تعاني الأم (55 عامًا) التي اقتيدت في سيارة منفردة من مرض السكري الذي يسبب لها مضاعفات على العين والصحة العامة، ويعاني الأب (65 عامًا) من مشكلات صحية في القلب والتهاب الكبد الوبائي سي، وقد اقتيد مع ابنته الجامعية سلبيل (18 عامًا) في سيارة واحدة، ولم تترك قوات الأمن في المنزل إلا الابن الأصغر (12 عامًا).
مستقبل مجهول
سلطت منظمة هيومن رايتس ووتش الضوء على هذه الحالة من خلال رئيسة قسم الشرق الأوسط وإفريقيا في المنظمة، سارة ليا ويتسون، التي غردت على حسابها في تويتر فور وصول قوات الأمن إلى أسرة المعتقل، حيث كانت الوالدة تجري اتصالًا مع ابنها المقيم في الخارج لبحث وضع عبد الرحمن ثم انقطع الاتصال فجأة لوصول قوات الأمن، وتمكنت سلسبيل من إبلاغ أخيها بعد ذلك.
وبدلًا من بحث إجراءات عقاب المعتدين على عبد الرحمن، باتت المناشدات موجهة إلى الكشف عن مصير أسرة عبد الرحمن الشويخ، حيث دشّن عمر وسمًا على مواقع التواصل الاجتماعي باسم #أسرة_عبد_الرحمن_الشويخي_فين؟ وأخذ حقوقيون مثل هيثم أبو خليل يدونون عن مستجدات القضية.
وفتحت هذه القضية الباب أمام مناقشة تصريحات الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي الأخيرة لصحيفة دي فيلت الألمانية، التي نفى فيها أن يكون عدد المعتقلين السياسيين في مصر 60 ألف معتقل بسبب عدم سعة السجون المصرية لهذا العدد، إذ يتسع هذا السجن وحده، سجن المنيا المركزي، المنشأ بقرار 873 لسنة 2014 من وزير الداخلية محمد إبراهيم، لما لا يقل عن 15 ألف سجين، بحسب تصريحات اللواء مصطفى الباز مدير مصلحة السجون.
كما أفسحت المجال مجدداً أمام دراسة ملف اعتقال ذوي المطلوبين من قبل عناصر جهاز الأمن الوطني المصري، لسبب أو لآخر، كما حدث مع عشرات المطلوبين من قبل، على رأسهم ذوي المعارضين المصريين في الخارج، مثل الإعلامي معتز مطر، وأسرة اليوتيوبر عبد الله الشريف، وابتزاز أسرة الممثل المعارض محمد شومان بعد اشتراكه في عمل سينمائي مناهض للسلطات لاقى رواجًا في عدد من المهرجانات الخارجية، وهي من جملة الاتهامات الحقوقية التي يحاول النظام نفيها في أعماله الدرامية الجديدة مثل “الاختيار 2”.