التفكير في الخير يجعلك تروض التكنولوجيا، يلهمك كيف يمكن الاستثمار في العطاء الذكي للجانب الروحاني في رمضان، ويجنبك الاستعمال الأعمى للتقدم التكنولوجي في تضييع الوقت كما كان يحدث طوال السنوات الماضية من شرائح عمرية مختلفة، والتي كانت تتفنن في إضاعة وقت الصيام على الألعاب المختلفة ومتابعة مواقع التواصل الاجتماعي.
لكن الجديد الذي طرأ الآن هو أنه أصبح يمكن للمسلمين الاستفادة من التكنولوجيا في تجاوز سجالات عدمية حول الأثر الطبي للصيام من عدمه، وتخطي الحظر الروحي والاجتماعي الذي فرضه فيروس كورونا بأقل أضرار ممكنة.
وقف تسييس الصيام
طوال سنوات كانت التقارير الطبية التي تصدر في الاتجاهين -مع وضد الصيام- وتأثيره على الجسد، تشكل صراعًا عالميًّا وصدامًا بين مدارس مختلفة، وانتقلت خلال السنوات القليلة الماضية إلى المنطقة العربية والإسلامية، وتخطى نقاش القضية في كثير من الأحيان الاختلاف حول الضرورة الطبية، وقفز ليصبح ضمن باقة الصراع على الهوية والمواقف الفكرية والسياسية والاجتماعية بين التيارات المختلفة.
لكن حاليًّا ومع تقدم التكنولوجيا، أصبح القلق الطبي من صيام شهر رمضان قضية من السهل التعاطي معها، دون إمكانات أو تكلفة عالية من تحاليل خاصة ومتابعة طبية، لأصحاب الأمراض الذين يودّون الصيام ولا يتنازلون عنه.
فقد ظهرت خلال الأشهر الماضية تقنية جديدة قدمتها شركة OPPO الصينية، حيث صنعت جهازًا فريدًا يراقب نمط الحياة ويمكن استخدامه خلال الشهر الكريم لضبط عادات النوم وأنماط الأكل وممارسة الرياضة.
يجعل هذا البرنامج من الصيام “منجم ذهب”، إذ يراقب بشكل كلي الحالة الصحية للفرد ويبصره حول كيفية التكيف مع جسده، ويمنحه سلطة المراقبة المستمرة لأوكسجين الدم ووظائف الجسد، وهي الشكوى الأساسية لبعض الذين يرهقهم تغيير عاداتهم الغذائية خلال شهر رمضان.
سوار اللياقة البدنية الجديد، وهو الاسم الذي أطلقته الشركة على الجهاز، يقوم بقياس التقلبات الفردية في نسبة الأوكسجين بالدم، ويراقب خصائص النوم وتحليل مدته، بالإضافة إلى قياس معدل نبضات القلب في الوقت الفعلي.
يقترح الجهاز 12 وضعًا للتمارين الرياضية مثل الجري والمشي وركوب الدراجة والسباحة واليوغا، بجانب عدد من الرياضات الشعبية الآخرى، ويخبر الأفراد متى تحديدًا يجب التوقف عن الإفراط في التدريب ومعرفة السرعة التي يحتاجون إليها للتأكد من أنهم يتقدمون نحو أهدافهم بأمان.
الجهاز هو امتداد لأجيال الهاتف الذكي، إذ يعمل بالأسلوب نفسه في تلقي إشعارات الرسائل والمكالمات. وساهم في خروج هذه التقنية للنور اعتماد الشركة العالمية على أكثر من ستة معاهد بحثية وخمسة مراكز تطوير في جميع أنحاء العالم من سان فرانسيسكو إلى شينزين.
كما افتتحت الشركة مؤخرًا مركزًا دوليًّا للتصميم مقره الرئيسي في لندن، للوصول إلى أحدث التقنيات التي ستشكل مستقبلًا ليس فقط للهواتف الذكية ولكن أيضًا للاتصال الذكي بالجسد.
الصحة الرقمية
تحظى الصحة الرقمية باهتمام متزايد من نواحٍ كثيرة، يدعمها تزايد الوعي لدى مستخدم الإنترنت، إذ يبحث حوالي 52٪ من المستخدمين حول العالم عن معلومات حول خيارات العلاج عبر الإنترنت، وكيفية المحافظة على الجسد.
وفقًا للمؤشرات نفسها، يزداد استخدام مواقع التواصل الاجتماعي للأغراض الصحية، وتقفز الأرقام بصورة مدهشة من 18٪ إلى 21٪، لا سيما بين كبار السن، خلال عامَي 2013-2015 إلى 90% خلال العام الماضي.
شكلت هذه الأرقام حالة من الصراع حول كيفية تقديم المبادرات الذكية في مجال الرعاية الصحية، وإنشاء محتوى اجتماعي جذاب يكون غنيًّا بالمعلومات ودقيقًا في الوقت نفسه، إذ أصبح مستهلك خدمات الرعاية الصحية يعيش في وضع مختلف تمامًا عما كان عليه في الماضي.
تستغل هذه المواقع انخفاض معدل الثقة العالمي لدى الأفراد في مؤسسات الرعاية الصحية بكل مستوياتها، بعد أن أصبح المكسب والمال وليس صحة الإنسان على رأس أولوياتها، وبات المرض سلعة تتربح منه الشركات العالمية حتى مقدّمو الخدمة الطبيية من الأفراد، لهذا تتبارى المواقع التي تقدم خدمة صحية رقمية في التنافس حول الشفافية والقوة.
ساعد نمو هذه الثقافة المرتبطة بالتقدم التكنولوجي في ازدهار التسويق الصحي الرقمي، وبحسب التقديرات سيتجاوز حجم هذا السوق الـ 504.4 مليار دولار أميركي بحلول عام 2025، لكن هذه الزيادة متوقفة على تفهّم أكبر للنظام البيئي والعادات العالمية التي تحتاج إلى مثل هذه المراقبة الصحية -الصيام نموذجًا- لتحديد المستهلك المحتمل والتفاعل معه.
العرب والمبادرات الذكية
أما المنطقة العربية، فتتفاوت الاهتمامات بالمبادرات الذكية للاستفادة من التكنولوجيا في رمضان بحسب مستوى الحداثة والظرف السياسي والحالة الاقتصادية، لكن حتى الآن تمثل تونس حالة فريدة في السبق وتوظيف التكنولوجيا للاهتمام بالصائمين، إذ تعمل وزارة الصحة بالتعاون مع الاتحاد الدولي للاتصالات ومنظمة الصحة العالمية وشركاء مختلفين منذ عام 2018، على تقديم المساعدة لمرضى السكري في البلاد لمساعدتهم على أداء الفريضة بكل سهولة ويسر.
يهدف البرنامج المصمم إلى الوصول لأكبر عدد ممكن من المرضى وعائلاتهم وتزويدهم بالمعلومات والنصائح التي يحتاجون إلى اتباعها خلال شهر رمضان، من خلال سلسلة من الرسائل النصية اليومية على هواتفهم المحمولة.
حرم فيروس كورونا المسلمين من عادات رمضانية تعتبَر لديهم من أهم مظاهر شهر الصيام، خاصة التجمعات الدينية والموائد والزيارات الأسرية، ما دفع البعض لإطلاق مبادرات إلكترونية تتغلب على الأزمة.
أثبت هذا البرنامج فعاليته في تونس خلال أول عام من استخدامه، حيث شارك فيه أكثر من 20 ألف مواطن اتبعوا النصائح بكل دقة، وأعربوا عن رضاهم بتقديم توصية للآخرين باتباعه، فالاشتراك به مجاني رغم وفرة خدماته ومتابعته للحالة الصحية للمريض وعائلته خلال شهر رمضان، ومراقبته الصارمة للصيام والنظام الغذائي والأدوية والنشاط البدني والفحوصات اللازمة والعيادات الطبية.
إلى جانب تونس، تتصدر الساحة الذكية للاستفادة من التكنولوجيا خلال شهر رمضان السعودية والإمارات وقطر لتسليط الضوء على أبرز الممارسات الصحية والغذائية الواجب اتباعها خلال الشهر الفضيل، ورفع مستوى الوعي الصحي لدى أفراد المجتمع وتعزيز نمط الحياة الصحي لديهم، وتمكينهم من الاختيار السليم للأطعمة الصحية أثناء تسوق المواد الغذائية، مع مواصلة الالتزام بالإجراءات الاحترازية والوقائية لمنع انتشار فيروس كوفيد-19.
عالميًّا يهتم الاتحاد الدولي للاتصالات ومنظمة الصحة العالمية منذ عام 2013 بشهر رمضان، ويتم استخدام التقنيات المحمولة خوفًا على الصائم، وهو النجاح الذي قاد هذا الثنائي ضمن مبادرات أخرى للاستمرار في استخدام التقنيات الذكية للتواصل على الهواتف الشخصية المحمولة للمساهمة في مقاومة كوفيد-19 خلال رمضان الحالي، خاصة للذين لا تتوفر لديهم القدرة على الاتصال بالإنترنت للحصول على المعلومات الكافية.
الإفطار الافتراضي
ضمن باقات التطور في استخدام التقنيات الذكية للاستمتاع بشهر رمضان الكريم، كان لافتًا انتشار الإفطار الافتراضي عن بعد، وهو مبادرات أطلقت بالتزامن مع أول أيام رمضان بهدف تجميع الصائمين ومشاركة وجبة الإفطار معًا.
فقد حرم فيروس كورونا المسلمين من عادات رمضانية تعتبَر لديهم من أهم مظاهر شهر الصيام، خاصة التجمعات الدينية والموائد والزيارات الأسرية، ما دفع البعض لإطلاق مبادرات إلكترونية تتغلب على الأزمة في ظل الالتزام بالتباعد الاجتماعي خلال ذروة الفيروس.
تنوعت الاستخدامات حسب تفضيلات المستخدمين: فيسبوك، واتساب، تطبيق “إفطار عن بعد” (Remote Iftar)، زووم. واستخدم هذه التقنينات بعد شيوعها مسلمون من حوالي 40 دولة مختلفة، إذ يتم دعوة المشاركين إلى مكالمة فيديو حتى يتمكنوا من تناول الطعام تقريبًا في الوقت نفسه ثم مشاركة طقوسهم التي اعتادوا عليها مثل الاستماع إلى المحاضرات الدينية وعمل حلقات لقراءة القرآن، ما يوفر الجانب الاجتماعي-الروحاني الذي افتقده المسلمون في هذا الشهر الكريم.
قدمت وزارة الأوقاف المصرية إرشادات لبث الصلاة في بعض المساجد على الهواء مباشرة حتى يتمكن المصلين من متابعتها في المنزل.
حاول البعض في البداية الخروج باجتهادات تبيح ممارسة الصلاة الجماعية إلكترونيًّا بسبب الظرف القائم، لكن رجال الدين في مصر والسعودية وتونس والعديد من البلدان العربية والإسلامية سارعوا إلى إصدار فتاوى ترفض الصلاة الجماعية على الإنترنت.
اتفق أيضًا علماء المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث وأكدوا جميعًا أن هناك إشكاليات لا تبيح الاجتهاد في هذه القضية، مثل اتصال صفوف الجماعة، وحاجة المؤمن إلى رؤية وجوه المصلين الآخرين والتواصل معهم، بجانب أن هناك أهمية لتحقيق شروط صحة اقتداء المأموم بالإمام واجتماعهما في مكان واحد، ووضوح اتصال المأموم بإمامه، وانتفاء ما يمنع وصوله إليه إن قصده، والخوف من تسبّب العادة ببعض التكاسل عن الذهاب إلى المساجد لاحقًا.
وبدلًا من ذلك طالبوا العائلات بالصلاة في المنزل مع أحبائهم، وقدمت وزارة الأوقاف المصرية إرشادات لبث الصلاة في بعض المساجد على الهواء مباشرة حتى يتمكن المصلون من متابعتها في المنزل، وكذلك بث المحاضرات والخطب الدينية عبر الإنترنت ومن خلال منصات التواصل الاجتماعي، ما يعوض المسلمين عبر البث المباشر والتقنيات الذكية بما يكفي من الوجبات الروحانية التي ينهلون فيها من بركات الشهر الكريم.