كشفت ثورات الربيع العربي في كل من سوريا ومصر وتونس الأزمة التي يُعاني منها اليسار في هذه الأقطار بشكل خاص وفي المنطقة إجمالًا، فاصطفاف هذا التيار وراء الديكتاتوريات وحكم العسكر وتكييف دوره بحسب الحالة الطارئة يستدعي منا تفكيك أدوات تفكيره السياسي ودعواته لتشكيل ما سمي باليسار الجديد هربًا من نكسات الفشل المتتالية سواء في قيادته لهذه الثورات على اعتبار أنها لحظة تاريخية أم الوصول إلى الحكم في الانتخابات.
في هذا التقرير سنُحاول الوقوف على الضفة الصحيحة للتاريخ بأدوات منهجية نُبين من خلالها تراجع اليسار التقليدي العربي عن أطروحاته التي طالما دافع عنها بشراسة وانتقاله إلى مرحلة الأحزاب الوظيفية التي تمتهن خدمة الحكام بعد أن كانوا – وفق أدبياتهم – حماة المقهورين ووكلاء الجماهير الكادحة والبروليتاريا المستضعفة.
من سوريا إلى مصر وتونس، عجز اليسار (شيوعية ماركسية قومية) عن استثمار اللحظة التاريخية التي قدمتها جماهير الربيع العربي على طبق من فضة، ورغم انخراطه المحتشم في المد الثوري في أول أيام الحراك، واصل هذا التيار سياسته القديمة التي لم تخرج عن سياق التنظير والإسقاط المعتاد دون طرح الإشكالات المعاصرة التي تفرضها التحولات الاجتماعية والاقتصادية.
مصر
بعد ثورة 25 يناير، عرفت الأحزاب السياسية التي تنتمي لعائلة اليسار المصري والمعروفة بقياداتها التاريخية المناضلة ضد القهر والاستبداد لعقود، انتكاسات متوالية وهزائم سياسية تكاد تكون منذرة بدخول هذه المكونات في حالة موت سريري، فبعد أن حملت راية مقاومة الأنظمة الشمولية لترسيخ القواعد الديمقراطية بصنوفها، اتفقت على دعم انقلاب عبد الفتاح السيسي على سلطة أول رئيس منتخب ديمقراطيًا.
من المفارقات، أن اليسار المصري التقليدي الذي حافظ طوال العقود الطويلة على الحد الأدنى من ملامحه وشعاراته الرافضة لعسكرة الدولة وللنظام البوليسي بصفته أداةً للقهر التي تفرض الرقابة وتحد من الحريات الشخصية وتضع القيود على الحقوق المدنية، الذي عارض انزياح الدولة الناصرية عن أهداف ثورة 52، وقاوم مشاريع أنور السادات لتغيير ملامح النظام المصري، وأدان محاولات الرئيس المخلوع حسني مبارك توريث الحكم لأبنائه رافعًا شعار “لا للتوريث، لا لحكم العسكر”، مال نحو نظام يُمكن القول إنه جمع مساوئ كل الأنظمة التي سبقته (ناصر والسادات ومبارك).
ذات اليسار الذي يُقدم نفسه تقدميًا يحمل أفكار التنوير والحداثة، واشتراكيًا يدعو لتقسيم الثروة والعدالة الاجتماعية، وماركسيًا يناضل من أجل حقوق العمال والمسحوقين، يجد نفسه متمترسًا وراء حكم شمولي عسكري اقتصر برنامجه التنموي على فرض الأتاوة وتحصيل الضرائب وبعض المشاريع الشعبوية كاقتراح ألف عربية خضار للشباب.
السيسي في 2014 لما سألوه هاتحل مشكلة البطالة قال هاجيب للشباب عربيات خضار
في 2018 برلمان السيسي هايدفع كل عربية فول 20 الف جنيه ؟!
لا تترك هذه التويتة قبل ان تقول سبحان الله ! #طبيب_الفلاسفة https://t.co/cMI9fWGhvk
— Dr. Hazim Abdelazim (@Hazem__Azim) April 22, 2018
المفارقة الأخرى، تكمن في تحالف اليسار باعتباره حامي البروليتاريا المضطهدة مع الأوليغارشية الانتهازية (رجال أعمال وسياسيون) ضمن ديمقراطية كرتونية لم يستفد منها إلا الجيش اقتصاديًا من خلال شركاته والمشاريع العملاقة التي يشرف عليها.
إن أزمة اليسار المصري بعد ثورة يناير تمثلت في انقسامه وتشتته وعجزه عن توحيد صفوفه عبر الاتفاق على شخصية واحدة يخوضون عبرها غمار الانتخابات الرئاسية عام 2012، ليدفع كل مكون باسم يمثله من بينهم حمدين صباحي وأبو العز الحريري وخالد علي.
بعد انقلاب 30 يونيو وصعود العسكري عبد الفتاح السيسي على ظهر الدبابات التي اقتحمت ميدان رابعة، اتخذ اليسار المصري مسارًا مغايرًا وانحرفت خطاباته إلى زاوية 360 درجة بقياس السياسة، فلم يستنكر المجازر التي اقترفها الجيش في صفوف المدنيين في خطوة وُصفت بأنه كان راضيًا على مبدأ تصفية خصومه السياسيين (الإخوان)، الأمر الذي أكدته الإعلانات المهللة لهذه المكونات بقبول ترشح السيسي لانتخابات 2014.
في تلك الفترة، حنى اليسار ظهره للعسكر وارتضى لنفسه أن يؤدي دورًا وظيفيًا، فأعلن الحزب الاشتراكي المصري تحصيل 11 ألف توكيل للمشير، فيما أعلن حزب التجمع في كثير من المحافظات من بينها القاهرة والقليوبية فتح مقراته للحملة الانتخابية، أما الحزب الناصري الذي كان ينتمي له حمدين صباحي فأكد تأييده للسيسي والعمل ضمن حملته الانتخابية.
نتيجة لذلك، فإن اليسار الذي عجز طوال السنوات التي أعقبت ثورة 25 يناير على إجراء مراجعات نقدية وإصلاحات هيكلية وصياغة خطاب جديد يقوم على قراءات للواقع والتغيرات الطارئة على بنية المجتمع المصري والتحولات الإقليمية والدولية، عاد مرة أخرى إلى حظيرة السلطة على غرار الحزب العربي الديمقراطي الناصري الذي أعلن رئيسه سيد عبد الغني أن هناك تطابقًا بين رؤية حزبه وسياسات السيسي.
ولتكتمل الصورة ويبقى في المشهد السياسي المصري لاعبًا واحدًا، تعمل سلطات القاهرة بين الحين والآخر على تقليم أظافر بعض القوى اليسارية الصغيرة التي ما زالت تحتفظ بنفس ثوري وهي في مجملها تنظيمات شبابية تسعى لتوسيع دائرة التنوير المجتمعي من أجل ترسيخ التغيير الاجتماعي.
على الصعيد ذاته، فإن اليسار المصري لم يخرج عن دوره التاريخي الذي لعبه طيلة العقود الماضية المتأرجح بين الوظيفية والانتهازية، إذ تُشارك أغلب قياداته في تشكيل كومبرادور متحكم في الدولة ومؤسساتها، وما تفصيله لديمقراطية مشوهة على مقاس السيسي لتُناسب انقلابه إلا دليل على التصاق هذا المكون بذيل السلطة.
تونس
على عكس مصر، لم تكن هزيمة اليسار التونسي وليدة قمع السلطة أو انحيازًا لقوى الثورة المضادة والدولة العميقة، فخيبتهم كانت صناعة شعبية بامتياز ونتاج عجزهم إضفاء ديناميكية جديدة على خطابهم التقليدي المبني على مقاومة الرجعية والظلامية.
كما تعود انتكاسة اليسار بمكوناته القومية والماركسية والتقدمية، إلى الانقسام المتواصل بين هذه التيارات إضافة إلى حرب الزعامات التي أدت في كثير من الأحيان إلى انهيار التحالفات ومحاولات التوحيد على غرار حزب المسار الديمقراطي الاجتماعي التونسي (2012) وحركة التجديد وحزب العمل التونسي والقطب الديمقراطي الحداثي.
ويُمكن القول إن الانتخابات التي عرفتها تونس بعد ثورة 14 يناير أبانت عجز اليسار التونسي عن طرح نفسه كبديل قادر على الحكم وقيادة البلاد في هذه المرحلة الدقيقة، ويعود ذلك إلى عدة أسباب منها تعطل ميكانيزمات التطوير والتعديل الذاتي والإبقاء على المنهج التقليدي القائم على النزاعات والصراعات الإيديولوجية لا السياسية المبنية على البراغماتية ومنطق التحالفات.
لذلك، فإن أزمة اليسار التونسي تتلخص بالأساس في تجاوز الإسلام السياسي حالة الجمود والتكلس الفكري التي أصابت تلك المكونات وجعلتها رهينة الإسقاطات الماركسية القديمة إبان الاتحاد السوفيتي، فهذه القوى لم تتجاوز مرحلة التنظير دون تقديم حلول عملية وتكرار الخطابات الجوفاء التي لا تلمس هموم وحاجات المواطن.
وعلى الصعيد نفسه فإن فشل الأحزاب كالجبهة الشعبية (تجمع أحزاب يسارية وقومية) رغم حجزها لمقاعد في البرلمان وأحزاب أخرى كحزب العمال الشيوعي (ماركسي لينيني) في أكثر من استحقاق انتخابي، أدى إلى فشل القوى التقدمية وتراجعها أمام التيار الشعبوي الذي يظهر عادة حين يبحث الشعب عن بدائل سياسية إبان الأزمات الاقتصادية والاجتماعية.
ويبدو أن صعود رئيس الجمهورية التونسي قيس سعيد كان على حساب اليسار الذي عجز عن تحديد موقعه وموقفه من الثورة فهو يؤمن ويكفر بها في آن واحد، بمعنى أنه يعتقد في الثورة ولكنه يصفها بأنها مؤامرة كونية وصنيعة الغرب الإمبريالي.
إضافة إلى ذلك، يلتقي شق من اليسار التونسي مع قوى الثورة المضادة الدولية (الإمارات ومصر) ويتماهى إلى حد بعيد مع أجندتها التي تدعم الحفاظ على نمط النظم الاستبدادية بحجة الأمن، فهو يرى في سوريا الأسد نظام الممانعة المستهدف من الإمبريالية والصهيونية، وفي حكم السييسي العسكري إنقاذ وطني.
خسارة الانتخابات وغياب الحاضنة الشعبية، دفع أحزاب اليسار، لأجل البقاء في المشهد، إلى التمترس خلف الرئيس التونسي قيس سعيد الذي يمثل التيار الشعبوي الصاعد، فوضعت كل بيضها في سلته، مستعيدة دورها الوظيفي إبان حكم الرئيس السابق بن علي الذي جعل منها سابقًا ديكورًا لنظامه، داعية إياه لتفعيل قانون عدد 80 من الدستور التونسي الذي يسمح لرئيس الجمهورية باتخاذ التدابير في حالة الخطر الداهم المهدد لكيان الوطن، كما دعته صراحة إلى نشر قوات الجيش.
سوريا
أما في سوريا، فاليسار بمكوناته دخل في مرحلة الموت السريري بتزييفه الواقع وتدليسه للأحداث على حساب أرواح المدنيين العزل الذين أحرقهم النظام ببراميله المتفجرة وجوعهم حصاره الظالم وشردهم الخوف من السجن والتعذيب.
ويُمكن القول إن اليسار السوري لم ينجح في أن يكون صوت الشعب ومرآة تطلعاته في العيش الكريم والحرية والعدالة الاجتماعية، لكنه نجح في أن يكون نسخة اليسار العالمي والعربي الفاشل الذي يخدم ضد مصالح الشعوب وطموحاتها في التخلص من الاستبداد والديكتاتورية، متعللًا بأسطوانة الوقوف ضد مشروع الإمبريالية.
في سوريا أيضًا كما في تونس ومصر، فإن سلوك اليسار ومواقفه لا تخلو من مفارقات عجيبة، فاليساريون الذين يدعون محاربة الإمبريالية والمشاريع الرجعية، يؤيدون التدخل الإيراني المطلق وهو نظام ديني ثيوقراطي، إضافة إلى التقائه مع نظام الأسد في توظيف القضية الفلسطينية كشعار لكسب الحشد الجماهيري، والحال أن الاثنين لم يخدما القضية في شيء، والأنكى من ذلك أن قوات بشار فرضت حصارًا قاتلًا على مخيم اليرموك الفلسطيني.
في سياق ذي صلة، يمكن القول إن الأحزاب اليسارية في سوريا (الجبهة الوطنية التقدمية) لا تستطيع أن تكون إلا داخل السلطة (حزب البعث)، فهي تعيش حالة اغتراب سياسي وفاقدة للحاضنة الشعبية وللشرعية التمثيلة على اعتبار أنها اختارت الوقوف في جانب الاستبداد ومافيا دولة الأسد التي نهبت موارد الدولة ومقدراتها.
وضعية اليسار السوري ستتعقد أكثر مع التحولات التي ستعرفها البلاد في الأوقات اللاحقة، وذلك في حال لم تقطع مع حالة الركود الفكري ومنطق الاصطفاف الدوغمائي وراء الاستبداد والوحشية، وتعمل على إعادة فهم الطرح الماركسي بأبعاد جديدة بعيدة غير سطحية ومسقطة حتى تلمس جوهر أزمتها.
تاريخيًا، لم يشكل اليسار السوري بفصائله الماركسي والقومي والاشتراكي في أي وقت من مراحل نضاله تهديدًا لنظام الأسد، بل بالعكس كان أداةً في يد السلطة تستعملهم لضرب المعارضة رأسًا برأس، ففي أوائل فبراير/شباط 1980، مع اشتداد تهديد الإخوان المسلمين على النظام في حينها، أقدمت السلطة على الإفراج عن المعتقلين الشيوعيين لديه دفعة واحدة.