يعاني اللاجئون في الجزر اليونانية أوضاعًا إنسانية بالغة الصعوبة طيلة السنوات الخمسة الماضية، ورغم أن تلك المعاناة ليست بالجديدة، فإن الأمر تفاقم بصورة كبيرة خلال الفترة الأخيرة، سواء بسبب وباء كورونا المستجد (كوفيد-19) الذي يجد في مخيماتهم البيئة الخصبة للتفشي، أم الأوضاع الاقتصادية الصعبة لليونان التي انعكست بطبيعة الحال على المهاجرين.
يتجلى هذا الوضع الكارثي خلال شهر رمضان، فبينما يحيا العالم الإسلامي والجاليات العربية والإسلامية حالة من التكافل والتعاون، إذ بالوضع في المخيمات اليونانية يختلف جملةً وتفصيلًا، الأمر لا يقتصر على المسلمين فقط، بل ينسحب على بقية العرقيات والديانات الأخرى.
التقديرات تذهب إلى أن هناك قرابة 40 ألف لاجئ يعيشون في مخيمات الجزر اليونانية: ليسبوس وساموس وكوس وليروس وخيوس، منهم 14 ألف طفل، مع الوضع في الاعتبار أن سعة تلك المخيمات لا تتجاوز 6 آلاف شخص فقط، بل إن هناك مخيمات كـ”موريا” يعيش بها نحو 19 ألف لاجئ بينما لا تسع أكثر من 2847 شخصًا فقط.
أوضاع مأساوية
في تصريح لصحيفة “راينيشه بوست” الألمانية، وصف وزير التنمية الألماني غيرد مولر، الأوضاع في مخيمات طالبي اللجوء الموجودة على الأراضي اليونانية، بـ”العار”، لافتًا إلى أنه شاهد خلال زيارته لمخيم موريا في جزيرة ميديلي اليونانية 20 ألف شخص يعيشون في مخيم مخصص لثلاثة آلاف.
الوزير الألماني أعرب عن شعوره بالخزي لقبول مثل هذا الوضع في القارة الأوروبية، منوهًا أنه “لا يوجد مثل هذه الوضع في أي من مخيمات اللاجئين في إفريقيا”، مشددًا على ضرورة وجود حاجة لمخيمات تتمتع بمعايير الأمم المتحدة وبشروط تليق بكرامة الإنسان.
الوضع ذاته في مخيم “كارا تيبي” الذي يقع في منطقة عسكرية قديمة بجزيرة ليسبوس، ويفتقر لمقومات الحياة الآدمية، وكثيرًا ما حذرت منظمات حقوق الإنسانية الدولية من الوضع اللاإنساني الذي يعاني منه هذا المخيم الذي سبق أن أشارت منظمة “هيومن رايتس ووتش” في أواخر العام الماضي إلى أن المنطقة المقام عليها المخيم “معروفة بتلوثها بالرصاص بسبب الطلقات والأغلفة التي تحتوي على الرصاص الموجودة في الأرض”.
التكدس الكبير في المخيمات وفقدان مقومات الحياة الآدمية بجانب انخفاض الدعم والتمويل المقدم لللاجئين جعل تلك الخيام بؤرة نشطة لانتشار وباء كورونا
في تقرير سابق لـ”نون بوست” كشف بعض مظاهر الوضعية الكارثية للاجئين في هذا المخيم منها البيان المشترك الصادر عن 20 منظمة غير حكومية في 26 من يناير/كانون الثاني 2020 دعوا فيه الحكومة اليونانية إلى إخلاء فوري للمخيم ونقل اللاجئين إلى مناطق آدمية، موجهين رسالة إلى السطات هناك “توقفوا عن اللعب بحياة البشر، فمن الملح ضمان صحة السكان والعاملين في مخيم ليسبوس”.
هذا بخلاف التقارير الإعلامية والحقوقية المتعددة التي تفضح الانتهاكات العنصرية التي يتعرض لها اللاجئون في تلك المخيمات، فقد كشفت بعض وسائل الإعلام المحلية اليونانية عشرات الاعتداءات التي ارتكبها عنصريون يونانيون ضد لاجئين مستخدمين الأسلحة البيضاء، هذا بخلاف الهتافات العنصرية التي يتم ترديدها أمام المخيمات لاستفزاز اللاجئين وحثهم على مغادرة البلاد.
كورونا.. تفاقم الأزمة
التكدس الكبير في المخيمات وفقدان مقومات الحياة الآدمية بجانب انخفاض الدعم والتمويل المقدم لللاجئين جعل تلك الخيام بؤرة نشطة لانتشار وباء كورونا، في ظل صعوبة أو استحالة تطبيق الإجراءات الاحترازية المطلوبة لمنع تفشي الفيروس.
كل التقارير الواردة من داخل المخيمات تؤكد أن الأوضاع الداخلية أصبحت تربة خصبة لانتشار كل الأوبئة والفيروسات، في ظل تجاهل شبه تام من السلطات الرسمية، ما جعل الأمر خاضعًا للتعامل الذاتي بين سكان المخيمات، وهنا انطلقت عشرات التحذيرات بشأن هذا المشهد العبثي.
تتعاظم المعاناة داخل تلك المخيمات خلال الأعياد والمناسبات ذات الطابع الديني، يتساوى في ذلك المسلمون والمسيحيون بصفتهم الأكثر عددًا بين اللاجئين، فكثيرًا ما يجدون صعوبة بالغة في الحصول على مستلزماتهم الغذائية
اتحاد المؤسسات المعنية بشؤون الاندماج والهجرة (يضم ثماني مؤسسات وجمعية ألمانية تعنى بقضايا اللجوء والهجرة والاندماج) حذر في مذكرة رسمية له في 31 من مارس/آذار الماضي، مما أسماه “كارثة إنسانية” في الجزر اليونانية بسبب كورونا، مطالبًا الدول الأوروبية باستقبال لاجئين من اليونان على وجه السرعة حفاظًا على حياتهم، وذلك ضمن جهود الإصلاح المتعثر منذ سنوات لسياسة اللجوء الأوروبية.
ومن المفترض أن تناقش المفوضية الأوروبية تلك المقترحات المقدمة، سواء من الاتحاد أم غيره من المؤسسات المعنية بشؤون اللاجئين في أوروبا، لإنقاذ حياة آلاف اللاجئين في الجزر اليونانية، منتصف أبريل/نيسان المقبل، عقب انتهاء الاحتفال بأعياد القيامة.
“كيف يمكنك أن تطلب من #الأطفال أو من #النساء الاهتمام أكثر بالنظافة إذا لم يتوفر هناك ما يكفي من مراحيض أو حمامات أو مصادر مياه في المخيم. جميع هذه التدابير لا يمكن تطبيقها في #موريا.”
من مخيم موريا، #اليونان، يتحدث ماركو ساندروني، المنسق الميداني لمنظمة #أطباء_بلا_حدود. pic.twitter.com/SkNJ881w42— منظمة أطباء بلا حدود (@msf_arabic) April 12, 2020
رمضان.. معاناة إنسانية ومادية معًا
تتعاظم المعاناة داخل تلك المخيمات خلال الأعياد والمناسبات ذات الطابع الديني، يتساوى في ذلك المسلمين والمسيحيين بصفتهم الأكثر عددًا بين اللاجئين، فكثيرًا ما يجدون صعوبة بالغة في الحصول على مستلزماتهم الغذائية، ما تسبب في انتشار الأمراض الناجمة عن الفقر كالأنيميا والضعف وغير ذلك.
وفي رمضان تحديدًا فإن الوضع يزداد سوءًا، حيث صيام طوال اليوم وصعوبة الحصول على الحصة الغذائية اللازمة للإفطار آخر اليوم، ساعات من المشقة تعكس وضعية كارثية تتجافى وكل مبادئ ومواثيق حقوق الإنسان في مختلف دول العالم، من أقصاه إلى أقصاه، هذا في الوقت الذي يتخاذل فيه الجميع عن دوره في هذا الشأن.
وأمام تلك الفوضى الإنسانية تصدت بعض المنظمات الخيرية لتبني عدد من المبادرات التي تهدف إلى مساعدة اللاجئين في الحصول على الغذاء الكافي، ومن بين تلك المبادرات حملة “الأكل يجمعنا” التي انطلقت بها منظمة “Movement on the ground” لمساعدة اللاجئين الموجودين في الجزر اليونانية.
الحملة انطلقت بداية الأمر من خلال دعوة على شبكات التواصل الاجتماعي لتنظيم وتوزيع المواد الغذائية، تزامنًا مع شهر رمضان وعيد الفصح الأرثوذكسي، وتقوم في الأساس على التبرعات والمشاركة المجتمعية، ومن المقرر لها أن تستمر حتى نهاية مايو/آيار الحاليّ.
عنصرية يونانية
رغم الحالة المأساوية التي يعيشها اللاجئون في مخيماتهم، فإن السلطات اليونانية تتعامل معهم بشكل تعسفي ينتهك أبجديات المواثيق الحقوقية التي وقعت عليها أثينا قبل عقود طويلة، وهو ما توثقه التقارير الحقوقية خلال الأعوام الخمس الماضية تحديدًا التي فضحت لجوء قوات الأمن اليونانية إلى طرد اللاجئين قسرًا من حدودها.
العام 2020 شهد تصاعدًا ملحوظًا في مستوى الانتهاكات التي يتعرض لها المهاجرون واللاجئون في اليونان، مع تزايد عمليات الإعادة القسرية في بحر إيجه بمشاركة وكالة فرونتكس الأوروبية وسفن خاضعة لإمرة حلف شمال الأطلسي، بحسب ما توصلت دراسة لمنظمة ماري ليبروم غير الحكومية في ألمانيا.
يعد هذا الملف وصمة عار في جبين العواصم الأوروبية التي طالما ملأت الفضاءات العالمية بشعارات حقوق الإنسان
المنظمة قالت في دراستها: “أكثر من تسعة آلاف شخص حاولوا بلوغ اليونان، أعيدوا بعنف إلى تركيا وحرموا حقهم في اللجوء، وذلك استنادًا إلى 321 واقعةً موثقةً”، ووفق المنظمة فإن “عمليات الإعادة القسرية لا تعكس حالات منعزلة (…) وإنما أسلوب عمل متكرر ويومي عند حدود الاتحاد الأوروبي”.
ومنذ إعلان تركيا فتح حدودها مع اليونان بدايات العام الماضي، ويتوافد العشرات يوميًا على الحدود اليونانية، يقابلون بتصد عنيف من قوات الأمن لإرغامهم على العودة للأجواء التركية مرة أخرى، فيما تنشب معارك كر وفر بين المهاجرين وقوات الأمن تنتهي في بعض الأحيان بسقوط ضحايا ومصابين.
ولطالما طرحت أثينا قانون اللجوء الخاص بها على موائد النقاش، في محاولة لإعادة النظر في الكثير من البنود، بهدف إعادة المزيد من الأشخاص إلى تركيا بموجب قانون “الدولة الآمنة” الذي لا يمنح اللجوء إلا للقادمين من بلدان غير آمنة، وهو القانون الذي أثار الكثير من الجدل ووضع حياة عشرات آلاف المهاجرين على المحك.
تخاذل أوروبي
لم تكن السلطات اليونانية وحدها الضالعة في تلك الجريمة التي تفوح رائحتها يومًا تلو الآخر، فهناك تخاذل أوروبي واضح، وتقاعس عن الالتزام بالمسؤولية التضامنية والقانونية الواجبة في هذا الملف، لا سيما أن الكثير من دول أوروبا اتفقوا على وضع هذا الملف تحت مجهر الاهتمام والرعاية لكن سرعان ما تنصل منه العضو تلو الآخر.
ويعد هذا الملف وصمة عار في جبين العواصم الأوروبية التي طالما ملأت الفضاءات العالمية بشعارات حقوق الإنسان، ما يكشف ازدواجيةً وتناقضًا فجًا يضع الأنظمة الحاكمة في القارة العجوز في مأزق حقيقي، سواء أمام شعوبها أم شعوب العالم، لا سيما المنبهرة بالنموذج الأوروبي كأيقونة للحقوق والحريات.
وكانت ثماني دول أوروبية (ألمانيا وفرنسا ولوكسمبورغ والبرتغال وإيرلندا وليتوانيا وكرواتيا وفنلندا) قد اتفقت فيما بينها على استقبال 1600 لاجئ قاصر غير مصحوبين بذويهم من مخيمات اليونان، في محاولة لتخفيف وطأة الوضع المتفاقم، الذي بات يمثل ميدانًا لاستهداف اليونان وأوروبا بالانتقادات الدولية المتتالية.
ورغم أن الرقم المتفق عليه لم يكن بالكبير الذي يرهق حكومات تلك الدول – إذا قورن بأعداد اللاجئين في بعض الدول الأخرى كتركيا – فإن ترجمته لإجراءات تنفيذية لم تتحقق، وذلك بدعوى وجود عدد من المشاكل والمصاعب اللوجستية، كعدم توافر طائرات يمكن أن تنقل اللاجئين من اليونان إلى الدول الأوروبية الأخرى التي اتفقت على استقبالهم.
هذا بخلاف انعكاس تفشي وباء كورونا على تنفيذ الاتفاق، حيث يتطلب اتخاذ المزيد من الإجراءات الأمنية والوقائية اللازمة لسلامتهم وسلامة الموظفين واللاجئين في آن واحد، بجانب موجات الشد والجذب بين الدول الثمانية خلف الكواليس، فهناك دول مثل ألمانيا وفرنسا لا ترغب في استقبال لاجئين جدد خشية تكرار تجربة 2015 مرة أخرى.
وتعكس تلك المؤشرات حالة الخلاف البيّن بين العواصم الأوروبية وفقدان الإرادة القوية في إنهاء هذا الملف الذي بات يمثل صداعًا في رأس الجميع داخل القارة العجوز، الأمر الذي يفند كل المرتكزات السياسية والحقوقية التي تستند إليها حكومات أوروبا في مخاطبة العالم، ويضعها في مرمى الاتهامات بتوظيف تلك المسألة لتحقيق مكاسب سياسية أخرى بعيدة تمامًا عن الجانب الإنساني.
وهكذا يقع اللاجئون والمهاجرون بين مطرقة أنظمة حكم ديكتاتورية دفعتهم لمغادرة الأوطان وترك ثرواتهم وممتلكاتهم وحياتهم، وسندان حكومات عنصرية تفتقد لأبجديات المواثيق الحقوقية رغم الشعارات المرفوعة ليل نهار، وبين هذا وذاك أوضاع معيشية وصحية متردية تجعل الإقامة في تلك المخيمات مغامرة محفوفة المخاطر قد تكلف الشخص حياته، لكن في ظل فقدان رفاهية الاختيار يبقى هذا الوضع هو القائم لحين إشعار آخر.