ترجمة وتحرير: نون بوست
حتى مع وقوفه على عكاز، يسير الناشط الحقوقي المصري سعد الدين إبراهيم، البالغ من العمر 82 عاما، بصعوبة شديدة وهي مشكلة بدأ يعاني منها خلال السنوات العديدة التي قضاها في السجن في أوائل العقد الأول من الألفية الجديدة. يعتبر إبراهيم ناشطا بارزا في مجال الديمقراطية وحقوق الإنسان في مصر، وهو كاتب له مؤلفات كثيرة وأستاذ سابق في الجامعة الأمريكية بالقاهرة، ومفكّر معارض شهير ضد جمود ووحشية نظام حسني مبارك الذي استمر 30 سنة وانتهى في سنة 2011.
يذكرني لقاء إبراهيم والاستماع إليه وهو يتحدث عن بلده بنظرة ثاقبة لعدة ساعات بالمحادثات المتكررة التي أجريتها في الثمانينات مع المعارض الكبير المناهض للشيوعية ميلوفان جيلاس، الذي شهد انهيار النظام اليوغوسلافي القمعي وتنبأ بانهيار بلده قبل سنوات من حدوث ذلك. وعلى الرغم من حرص إبراهيم على الحديث بدقة عن الماضي، إلا أن كلماته تحمل تحذيرًا بشأن مستقبل مصر.
حاك مبارك نفسه مؤامرة سجن إبراهيم ونفيه، فضلا عن تلفيق القضايا التافهة له في المحاكم وقيادة حملة التشويه ضده. كانت كراهية مبارك لإبراهيم شخصية، لأن إبراهيم كان في يوم من الأيام صديقا لعائلة الرئيس المصري، ودرّس زوجة مبارك سوزان، وابنه جمال في الجامعة الأمريكية بالقاهرة. وبالنسبة لمبارك، فإنه يعتقد أن إبراهيم خان الأسرة. ويُقال إن مبارك قال ذات مرة في إشارة إلى اضطهاد إبراهيم “هذا الرجل الغبي. كان بإمكانه الحصول على أي شيء يريده” – هذا لو كان إبراهيم مخلصًا فقط.
حصل الأمر نفسه مع جيلاس، الذي كان رفيق الزعيم اليوغوسلافي جوزيب بروز تيتو في الحرب العالمية الثانية وخليفته ما بعد الحرب، لكنه انشق عنه بسبب القضايا الأخلاقية والسياسية. لقد فهم تيتو، الزعيم الشيوعي العبقري، على الأقل قرار جيلاس باعتباره خلافا أيديولوجيا حتى عندما سجنه وحاول سحقه بسبب ذلك. ولكن مبارك، الذي تولى منصب الحاكم الممل ومحدود الآفاق، لم يتفهم سبب رغبة إبراهيم في التخلي عن منصبه ووضعه المريح في الحياة في سبيل مبادئه. لم يكن الأمر كما لو أن إبراهيم في مطلع الألفية الجديدة كان يدعو إلى الإطاحة بمبارك. في ذلك الوقت، أراد إبراهيم فقط أن تتحرر مصر وأن تصبح مكانا للسلطوية المستنيرة، مثل عمان.
ما أوقع إبراهيم على وجه التحديد في ورطة هو مقال نشره باللغة العربية في صحيفة أسبوعية سعودية في منتصف سنة 2000 تكهن فيه بأن مبارك كان يهيئ ابنه جمال بصمت لخلافته. في تلك الفترة، كان الديكتاتور السوري حافظ الأسد قد توفي قبل ثلاثة أسابيع فقط وخلفه ابنه بشار. وزعم إبراهيم أن مصر، مثل سوريا، ستصبح بطريقة ما نصف جمهورية ونصف مَلكية، أي بكلمة عربية صاغها إبراهيم “جملوكية”. ولكن سرعان ما زجّ النظام بإبراهيم في السجن.
بعد عقدين من الزمان، قام إبراهيم بتقييم حكم مبارك تقييما جيدا بالنسبة لي – مع تداعيات كبيرة على الحاكم العسكري الحالي لمصر، عبد الفتاح السيسي. “لقد قدّم مبارك خدمة عظيمة للبلاد خلال العقد الأول من حكمه. لقد قام بتهدئة أمة كانت على شفا صراع في أعقاب اغتيال الرئيس أنور السادات، وأعاد الاقتصاد إلى مساره الصحيح. وخلال سنواته العشر الثانية في الحكم، كانت هناك الكثير من الوعود ولكنه لم يف بها، وكانت سنواته العشر الأخيرة كارثية، وذلك عندما تعرض المصريون للإذلال بسبب الركود الاقتصادي والسياسي”.
مع أن وسائل الإعلام العالمية تروج للربيع العربي على أنه مناسبة تهدف إلى المطالبة بالديمقراطية في ميدان التحرير، إلا أن العديد من المصريين يتذكرون الفوضى والنهب وأصوات طلقات الرصاص في الليل والمنازل التي دمرها المتمردون
إنها قصة نموذجية، لأن الديكتاتور يفكر في البداية في التغيير الليبرالي. في بداية حكمه، أرسل مبارك إبراهيم إلى المكسيك لدراسة كيفية انتقال هذا البلد إلى الديمقراطية. ولكن عندما يدرك الديكتاتور المخاطر التي ينطوي عليها مثل هذا التحرير، فإنه يتراجع مرة أخرى إلى قوقعته الاستبدادية.
مع تقدمه في السن، اتضح له أنه لا توجد آلية جديرة بالثقة للخلافة – آلية من شأنها أن تحمي عائلته والثروة التي اكتسبتها – لذلك قرر في النهاية إقامة ملكية زائفة. ويعتقد إبراهيم أن “أي رئيس لمصر يبلي بلاء حسنا في بداية حكمه. ولكن مع إعطائه الوقت الكافي، لا يوجد حاكم كان أداءه جيدا”.
حتى الربيع العربي، الذي أطاح في النهاية بمبارك، كان مخيبا للآمال – أو ربما خيانة للتطلعات. وأوضح إبراهيم أنه من الشائع في الواقع سرقة الثورات. فقد استولى البلاشفة على الثورة الروسية واستولى رجال الدين على الثورة الإيرانية. وأعقب الثورة الفرنسية عهد من الإرهاب والحكم العسكري من قبل نابليون بونابرت. تطورت الثورة الأمريكية بفضل الممارسات الدستورية البريطانية في القرن السابق التي جعلتها تنجو من المصير القاتم. لذلك، لا يعتبر الاستيلاء على الربيع العربي في مصر أمرًا مفاجئا بالنسبة لإبراهيم.
ساهم الربيع العربي في إعادة إبراهيم إلى وطنه بعد أن قضى حياته منفيا في الولايات المتحدة. لكن عندما نزل لتفقد ميدان التحرير بنفسه، شعر بالقلق. قال إنه “لم يكن هناك قادة ولا منبر”. الأمر الذي دعا إبراهيم لكتابة مقال عن خطورة الاستيلاء على الثورة. بعد عقد من الربيع العربي، مع حكم الإخوان المسلمين وحكم السيسي، قال إبراهيم: “الإخوان المسلمون لا ينحلون أبدا. إن لديهم احتياطيا دائما مدنيا له نفس التسلسل الهرمي المنضبط للجيش. لكن ما يُبقي الجيش في السلطة الآن ليس فقط ذكرى حكم الإخوان المسلمين وإنما ذكرى الفوضى التي تزامنت مع تلك الفترة”.
مع أن وسائل الإعلام العالمية تروج للربيع العربي على أنه مناسبة تهدف إلى المطالبة بالديمقراطية في ميدان التحرير، إلا أن العديد من المصريين يتذكرون الفوضى والنهب وأصوات طلقات الرصاص في الليل والمنازل التي دمرها المتمردون وعصابات الشباب في الشوارع والمطار، بينما كانت الطبقة الوسطى تخشى بشكل خاص على رفاهيتها. هذه الذكريات هي التي لا تزال تشكل حجر الأساس للدعم الشعبي لنظام السيسي.
ولكن ماذا عن آفاق السيسي في المستقبل؟
إن أفكار السيسي بعيدة كل البعد عن أفكار مبارك. فهو قائد يتمتع بعقلية تصريف الأعمال، ورجل مجتهد في عجلة من أمره. إنه يعلم أن الشارع أطاح بكل من مبارك في 2011 ورئيس الإخوان المسلمين محمد مرسي في 2013. لكن السيسي ينكر إمكانية حدوث نفس السيناريو بالنسبة له. وهكذا، فقد أصبح من رواد الحداثة على غرار قادة أواخر القرن العشرين، والحكام المستنيرين على الطراز الاستبدادي مثل بارك تشونغ هي في كوريا الجنوبية، ولي كوان يو في سنغافورة، ومهاتير بن محمد في ماليزيا.
قد يصبح السيسي عرضة للسقوط مثل أسلافه العسكريين في السلطة
إنه يستخدم رقمنة حفظ السجلات لجعل أثرياء مصر يدفعون المزيد من الضرائب. كما أنه مهتم ببناء عاصمة جديدة فخمة ومدن جديدة في الصحراء بمساعدة الصين. وأطلق المئات من المشاريع الجديدة، مثل مصايد الأسماك، وإدارة مياه الصرف الصحي، والقضاء على الأحياء الفقيرة، بمساعدة من اليابان وأوروبا.
في المقابل، لا يزال الاقتصاد المصري يهيمن عليه جيش شديد الهرمية وغير مرن في الوقت الذي يعتبر فيه التنظيم الهرمي المسطح أفضل وضع للاستفادة من تعقيدات العصر الرقمي. وحسب التقارير، تخضع وسائل الإعلام لسيطرة أجهزة المخابرات. يعد سجل السيسي في مجال حقوق الإنسان ببساطة سجلا فظيع مع وجود العديد من النشطاء في السجن وتقارير عن حالات الاختفاء والتعذيب على نطاق واسع. وبما أنه لا يُسمح بالنقد من خارج النظام، فإن حكم السيسي عرضة للانهيار بسبب القمع وتضييق الخناق على المعارضين. لقد تسبب غياب النقاش في ظل نظام الرئيس المصري السابق جمال عبد الناصر الأيديولوجي المتشدد في حدوث الكوارث العسكرية لمصر في اليمن في الستينيات وضد إسرائيل في سنة 1967.
كان العقد الأول من حكم السيسي مليئا بالوعود، تماما مثل عهد مبارك. إن ادعاء واشنطن بأن مصر تعتبر دولة استبدادية غير خطيرة هو ادعاء خاطئ. علاقة مصر الأمنية مع “إسرائيل” نشطة للغاية ومكثفة. إن معاملة النظام للأقلية المسيحية القبطية أفضل من أي وقت مضى، حتى من قبل انقلاب الضباط الأحرار في سنة 1952.
لكن كما يُبين تحليل إبراهيم، قد يصبح السيسي عرضة للسقوط مثل أسلافه العسكريين في السلطة. ولن تكون السلطة المطلقة والنماذج الآسيوية كافية في ذلك الحين. إن رسالة إبراهيم في حياته – مثل رسالة جيلاس – تدعو إلى أن طمس الحرية وحقوق الإنسان لن يحقق الحداثة الحقيقية. وكان هذا الاتجاه من أهم العوامل التي تسببت في الإطاحة بجمال عبد الناصر وحسني مبارك. لكن هل يستطيع السيسي تجنب مصير أسلافه؟
المصدر: فورين بوليسي