لا تزال أصداء المقابلة التليفزيونية التي بثتها عدد من الفضائيات السعودية، مع ولي عهد المملكة، محمد بن سلمان، في 27 من أبريل/نيسان الماضي، تلقي بظلالها على المشهد السياسي، الإقليمي والدولي، لا سيما أنها تضمنت بعض الرسائل التي تعكس تغيرًا ملحوظًا في السياسة العامة للمملكة.
المقابلة التي جاءت بمناسبة مرور خمس سنوات على إطلاق رؤية 2030 المنسوبة لولي العهد حملت طابعًا دعائيًا في المقام الأول، وهو ما يمكن الوقوف عليه بسهولة، سواء من تعليقات المتخصصين من رجال وخبراء الإعلام أم من خلال متابعة اللقاء الذي كان الأمير الشاب فيه المتكلم الأساسي في غيبة شبه تامة للمذيع السعودي عبد الله المديفر.
وبعيدًا عن الرسائل المتعددة التي تطرق إليها ابن سلمان في حديثه الذي تضمن ملفات عدة، بعضها للداخل وكثير منها للخارج، إلا أن الرسالة الأبرز الذي أثارت اهتمام الكثيرين ما يتعلق بالعلاقات مع إيران والموقف من الوهابية، وهي الرسائل التي اعتبرها البعض مغازلة صريحة لإدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن.
وكانت إدارة بايدن قد تحدثت في فبراير/شباط الماضي عما أسمته “إعادة تقييم العلاقات وضبطها” مع السعودية، وفي هذا الإطار اعتبر البيت الأبيض العاهل السعودي الملك سلمان بن عبد العزيز محاوره المباشر، وليس ولي العهد، كما كان في عهد الرئيس السابق دونالد ترامب.
التبرؤ من الوهابية
كثيرًا ما تعرضت السعودية لسهام النقد الدولي من ميدان “الأحكام الدينية” التي يراها البعض متشددة، لا سيما آراء الشيخ محمد بن عبد الوهاب مؤسس الدعوة الوهابية في المملكة، وعليه وجد الأمير الطامع في خلافة والده على العرش في هذا الباب جواز سفره لتقديم نفسه بوجه جديد، الأمير الإصلاحي الجديد.
اللقاء تضمن انقلابًا مكتمل الأركان على فكر ابن عبد الوهاب، حيث قال: “متى ما ألزمنا أنفسنا بمدرسة معينة أو بعالم معيّن معناه ألّهنا البشر. الشيخ محمد بن عبد الوهاب لو خرج من قبره ووجدنا نلتزم بنصوصه ونغلق عقولنا للاجتهاد ونؤلهه أو نضخمه لعارض هذا الشيء، فلا توجد مدرسة ثابتة ولا يوجد شخص ثابت، القرآن والاجتهاد مستمران.. وكل فتاوى حسب كل زمان ومكان”.
عكست المقابلة تحولًا ملحوظًا في توجه المملكة حيال الملف الإيراني برمته، فقد تضمنت عددًا من التصريحات والرسائل الإيجابية ربما تكون الأولى من نوعها بشأن العلاقات السعودية الإيرانية
وأضاف “اليوم لا يمكننا التقدم مع وجود الفكر المتطرف في المملكة”، لافتًا أن ذلك سيعوق النمو الاقتصادي والتنمية، كما حذر من أن أي سعودي لديه آراء متطرفة، حتى لو لم يرتكب جريمة بعد، هو “مجرم”، بجانب دعوته إلى الاجتهاد وعدم الاعتماد على النصوص الدينية غير الواضحة، قائلًا: “في الشأن الاجتماعي والشخصي فقط ملتزمون بتطبيق النصوص المنصوص عليها في القرآن بشكل واضح.. الحكومة ملزمة بالحديث المتواتر في الأمور الشرعية وتنظر في حديث الآحاد ولا تنظر للخبر إلا في حالات خاصة”.
وقد اتخذ ابن سلمان منذ توليه مقاليد الأمور قبل 5 أعوام حزمة من الإجراءات في هذا الشأن منها السماح للمرأة بقيادة السيارة، وكبح قوانين ولاية الرجل المقيدة لحرية النساء، كما فتح الباب على مصراعيه أمام حفلات الموسيقى والترفيه ودور السينما، فضلًا عن تأكيده المتواصل على ليبرالية الدولة وتوجهاتها الانفتاحية الجديدة.
الأمر تجاوز فكرة تخفيف وطأة القيود الدينية إلى اعتقال رموز الدين ورجاله، فزج بكبار العلماء داخل السجون والمعتقلات دون تهم واضحة، في رسالة ترهيب واضحة لبقية العلماء الذين انخرطوا سريعًا في ركبه، وباتوا الفرشاة التي يعيد رسم صورته المحدثة من خلالها.
العلاقات مع إيران
عكست المقابلة تحولًا ملحوظًا في توجه المملكة حيال الملف الإيراني برمته، فقد تضمنت عددًا من التصريحات والرسائل الإيجابية ربما تكون الأولى من نوعها بشأن العلاقات السعودية الإيرانية، فقد أوضح أن “إيران دولة جارة وكل ما نطمح إليه أن تكون لدينا علاقة طيبة ومميزة مع إيران، لا نريد وضع إيران أن يكون صعبًا بالعكس، مزدهرة وتنمو لدينا مصالح فيها ولديهم مصالح في المملكة العربية السعودية لدفع المنطقة والعالم للنمو والازدهار”.
وعن محاور الخلافات بين الرياض وطهران، وهي الخلافات التي تتقاطع في أكثر من مسار في عدة ملفات، فقد اختصرها ولي العهد السعودي في إشكاليات ثلاثة: “برنامجها النووي أو دعمها لميليشيات خارجة عن القانون في بعض دول المنطقة أو برنامج الصواريخ البالستية”، مبينًا أن بلاده تعمل لإيجاد حلول لهذه الإشكاليات، وأن تكون العلاقة طيبة وقوية وفيها منفعة للجميع.
أما عن الوضع في اليمن، وهو النقطة المرتبطة بشكل كبير بالملف الإيراني كذلك، فقد أكد ابن سلمان أن مبادرة السلام – تضمنت وقفًا شاملًا لإطلاق النار وتخفيف قيود شحنات الوقود المتجهة إلى ميناء الحديدة وفتح مطار صنعاء – التي طرحتها المملكة قبل فترة ما زالت قائمة، موجهًا دعوته لجماعة الحوثي من أجل الجلوس على مائدة المفاوضات بغية التوصل إلى سلام.
وتابع “نتمنى أن يجلس الحوثي على طاولة المفاوضات مع جميع الأقطاب اليمنية للوصول إلى حلول تكفل حقوق الجميع في اليمن، وتضمن مصالح دول المنطقة”، وعن علاقة الجماعة بطهران قال: “أعتقد أن الحوثي له علاقة قوية بالنظام الإيراني، لكن الحوثي في الأخير يمني ولديه نزعة عروبية، أتمنى يراعي مصالحه ومصالح وطنه قبل أي شيء آخر”.
وتعكس تلك التصريحات تحولًا كبيرًا في موقف ابن سلمان السابق إزاء طهران، ففي عهد دونالد ترامب قال ولي عهد المملكة إنه مستعد لنقل الصراع إلى داخل إيران، وشكك وقتذاك في جدوى التفاوض معها، وهي التصريحات التي كانت تتماشى حينها مع التوجهات الأمريكية.
امتصاص الاحتقان الشعبي
حاول ابن سلمان خلال مقابلته امتصاص الغضب الشعبي المتصاعد جراء سياسة التقشف التي تتبناها المملكة، وموجات الضرائب والرسوم التي أرهقت كاهل المواطنين طيلة الأعوام الثلاث الماضية، في ظل ارتفاع معدلات البطالة والعجز المستمر في الموازنة العامة للمملكة.
ولي العهد حاول تبرير الإجراءات القاسية التي اتخذها ضد السعوديين بالإشارة إلى الأهداف التي يسعى لتحقيقها من خلال رؤيته 2030، لافتًا إلى أن “معدل الوظائف الجيدة المقدر بنحو 50% من إجمالي الوظائف في المملكة، سيرتفع إلى 80%، كما أن تملك السعوديين للمساكن ارتفع من 47% إلى 60% وتعهد بإطلاق ثلاثة ملايين وظيفة في قطاع السياحة”.
كما أشار إلى استهدافه خفض البطالة من 15.9% في منتصف 2020 إلى 7% عام 2030، فيما كشف بلوغ استثمارات صندوق الاستثمارات العامة هذا العام 160 مليار ريال (4.2 مليار دولار) وأنه يهدف إلى إنشاء 10 تريليونات دولار في 2030 كأصول في الصندوق ذاته.
وتعهد ابن سلمان بتخفيف معدلات الضرائب المفروضة على الشعب خلال الفترة القادمة، لافتًا إلى أنها “قرار مؤقت” يستمر من عام إلى خمسة أعوام، ثم يتم تخفيضه بعد ذلك إلى ما بين 5 و10%، منوهًا أن هذا القرار رغم صعوبته كان ضروريًا “لتجنب الكارثة وخلق الفرص”.
خبراء ذهبوا إلى أن اللقاء برمته لا يعدو كونه فيلمًا تسجيليًا دعائيًا يقدم فيه ولي العهد نفسه للداخل والخارج في محاولة لتصحيح الصورة المشوهة منذ سنوات بسبب الانتهاكات الممارسة، سواء بحق المعارضين أم ضد اليمنيين من خلال قوات التحالف التي تقودها المملكة.
منذ تكشير إدارة بايدن عن أنيابها بشأن إعادة ضبط وتقييم العلاقات مع بعض حلفاء إدارة الرئيس السابق دونالد ترامب، ويحاول ابن سلمان جاهدًا تقديم أوراق اعتماده بحزمة من الإجراءات
مغازلة إدارة بايدن
حديث ابن سلمان منذ الوهلة الأولى والتغير الواضح في الخطاب العام حيال بعض الملفات الحساسة يستهدف بحسب خبراء الولايات المتحدة في المقام الأول، ومحاولة استمالة الإدارة الأمريكية الجديدة لإعادة نظر في موقفها السلبي حيال الأمير الطامع في الحكم.
أكد ولي العهد تصدير صورة إيجابية عن العلاقات مع واشنطن مؤكدًا “الولايات المتحدة شريك إستراتيجي للمملكة منذ أكثر من 80 عامًا، وهناك توافق سعودي مع إدارة الرئيس بايدن بنسبة 90% من الأفكار”، منوهًا “مع أي إدارة أمريكية قد يزيد هامش الخلاف أو يقل، لكن مع إدارة الرئيس جو بايدن هناك أقل 10% من الخلافات نعمل على تقليلها وحلها”.
الأمير الشاب يعتبر أن هامش الخلاف مع الإدارة الأمريكية الجديدة في حدوده الطبيعية، موضحًا “ليس هناك أي اتفاق 100% بين الدول” ومن ثم يسعى لتحسين العلاقات بين البلدين في ضوء الروابط الوثيقة والمصالح المشتركة والممتدة لسنوات طويلة على حد قوله.
وانقسمت الآراء حيال الرسائل الإيجابية التي حملتها مقابلة ابن سلمان، فقد ذهب فريق إلى أنها دعاية ورسائل مغازلة تنظيرية، صعب ترجمتها على أرض الواقع، في ظل الخلافات الأصولية بين طهران والرياض من جانب، وتأصل التيار الوهابي في أعماق المجتمع السعودي من جانب آخر.
أما الفريق الآخر فأشار إلى أن رغبة ولي العهد في الاحتفاظ بفرصه القوية لخلافة والده في ضوء التحديات التي تواجهه خلال الفترة الماضية، قد تدفعه لأن يعيد النظر في المرتكزات الثابتة لبلاده منذ نشأتها، التي قد لا يجد حرجًا في نسفها من جذورها إذا كان هذا هو الطريق الوحيد لدعم الغرب له في تحقيق حلمه.
وفي الأخير يمكن القول إنه منذ تكشير إدارة بايدن عن أنيابها بشأن إعادة ضبط وتقييم العلاقات مع بعض حلفاء إدارة الرئيس السابق دونالد ترامب، ويحاول ابن سلمان جاهدًا تقديم أوراق اعتماده بحزمة من الإجراءات، لكنها لم تحقق الهدف المنشود حتى اليوم، الأمر الذي دفعه لإعادة المحاولة مجددًا عبر تقديم مزيد من التنازلات خلال مقابلة الثلاثاء الماضي.. فهل تنجح هذه المرة؟