تتجه النقابات العمالية في الجزائر إلى تصعيد احتجاجاتها عقب تشكيك رسمي في حقيقة الإضرابات التي تقوم بها، واتهامها بأنها تخدم أجندات مشبوهة، وهو ما لم تتقبله النقابات المسنودة من آلاف العمال الحانقين على تدهور القدرة الشرائية لديهم.
وإذا كانت الحكومة قد اعتادت على مسيرات الحراك الشعبي الأسبوعية، وأصبحت لا تشكل لها إزعاجًا كبيرًا كما كان في السابق، فإن انتفاضة الجبهة الاجتماعية في الأسابيع الماضية قد تتحول إلى عبء كبير، بالنظر إلى أن طابعها المنظم والمهيكل وقانونيتها يجعلان منها مطلبًا مشروعًا لا يمكن تجاهله تحت أي مبرر.
إصرار
قررت 12 نقابة في قطاع التربية مواصلة إضراباتها التي بدأتها في شهر أبريل/ نيسان المنقضي، وذلك بإعلانها تنظيم إضراب وطني أيام 9 و10 و11 مايو/ أيار الجاري ردًّا على عدم تجاوب الحكومة مع مطالبها.
ودعا التكتل النقابي إلى تنظيم وقفات احتجاجية أمام مديريات التربية عبر مختلف ولايات الجزائر، للتأكيد على مشروعية مطالبها.
وتتضمن قائمة المطالب تحسين القدرة الشرائية، واسترجاع الحق في التقاعد النسبي من دون شرط السن، وإصلاح المنظومة التربوية ومراجعة البرامج والمناهج، وحل ملف خريجي المدارس العليا للأساتذة، وتوفير السكن الوظيفي، ونزع تسيير المدارس الابتدائية من البلديات وإلحاقها بوزارة التربية مثلما هو الأمر مع المرحلتين الإعدادية والثانوية.
وتشكل إضرابات قطاع التربية صداعًا للحكومة، بالنظر إلى أن قرابة 10 ملايين تلميذ معني بالملف مع عائلاتهم، إضافة إلى أنه يوظف أكثر من 600 ألف عامل بين أساتذة ومعلمين وإداريين وعمال مهنيين.
يعزز خطاب تبون ما ورد في الاجتماع الأخير للحكومة، حينما أشار الوزير الأول عبد العزيز جراد إلى أن مصالحه لاحظت في الآونة الأخيرة تزايدًا للاحتجاجات النقابية.
وإن كانت إضرابات الأساتذة ليست بالأمر الجديد في الجزائر، إلا أن تزامنها مع احتجاجات في قطاعات أخرى كالبريد والحماية المدنية وقبلها السكك الحديدية يجعل منها أكثر تأثيرًا، خاصة أن خطاب الحكومة بتلبية مطالب الأساتذة والدراية بانشغالاتهم أصبح لا يقنع الطبقة العاملة التي تتراجع قدرتها الشرائية عامًا بعد عام.
تحذير
لا تنكر الحكومة المطالب التي ترفعها مختلف النقابات في عدة قطاعات، بالنظر إلى أنها معلومة من الجميع ولا يمكن التهرب من شرعيتها، إلا أنها تحاول العزف على وتر إمكانية استغلال إضرابات العمال من قبل جهات سياسية لتحقيق أهداف أخرى.
وقال الرئيس عبد المجيد تبون في رسالة له بمناسبة الاحتفال باليوم العالمي للعمال، إن “كل أشكال التعبير المطلبي في مختلف القطاعات، ينبغي أن تراعي مصالح المواطنين… وأن تكون تحت سقف قوانين الجمهورية… وأن لا تكون مطية تندس من خلالها نوايا الاستغلال المشبوه“.
ويعزز خطاب تبون ما ورد في الاجتماع الأخير للحكومة، حينما أشار الوزير الأول عبد العزيز جراد إلى أن مصالحه لاحظت في الآونة الأخيرة “تزايدًا للاحتجاجات النقابية، والتي تقف خلف بعضها أحيانًا تنظيمات نقابية غير معتمدة، رافعة بعض المطالب التي يدرك أصحابها يقينًا أنها غير قابلة للتحقيق، مبرزة بذلك حالة الإهمال التي عرفتها العديد من القطاعات لأزيد من 15 سنة”.
وحسب الوزير الأول، فإن “معظم المشاكل والصعوبات التي يتم المطالبة بمعالجتها في إطار هذه الاحتجاجات سبق للرئيس تبون أن تناولها خلال مختلف تصريحاته وحواراته مع وسائل الإعلام، والتزم بالعمل على إيجاد الحلول المناسبة لها، بل إن معظمها مدرجة ضمن الالتزامات التي أعلن عنها عند انتخابه”.
وانتقدت وزارة الداخلية أيضًا احتجاجات أعوان الحماية المدنية، واعتبرتها مدبرة ومفتعلة من أطراف تحمل حقدًا على الجزائر.
وإن كان الدستور الجزائري يضمن الحرية النقابية وممارستها، إلا أن جراد يعتقد أن “الإفراط والتعسف في استغلاله لن تكون له إلا نتائج عكسية”.
وهاجم الوزير احتجاجات النقابات، حيث ذهب بعيدًا في انتقاده بالقول “إن الإصرار على اتباع هذا النهج المبالغ فيه لا يفهم منه إلا أنه يخدم أهدافًا واضحة وإن كانت غير معلنة، ترمي إلى تعكير مناخ التغيير الذي شرعت فيه السلطات العمومية، ولا سيما عبر تنصيب المؤسسات الجديدة في إطار مشروع بناء الجزائر الجديدة التي يجد فيه كل مواطن الظروف المواتية للقيام بواجباته والتمتع بحقوقه”.
وبدوره حذّر مكتب مجلس الأمة مما وصفه بـ”اختراق المندسين لهذه الحركات الاحتجاجية بتصويب أحكامهم الهدامة الجاهزة على الرف بعبارات التقزيم والإنقاص والاستنكار، وإلى إدخال الشك والبلبلة في صفوف الطبقة العمالية بل وعامة المواطنين”.
ونصح مجلس الأمة العمال بـ”تغليب المصلحة العليا على أية مصلحة أخرى، والنأي بها عن إكراهات اللحظة، وعدم الانصياع إلى الأطراف التي تريد جرّ البلاد نحو الفوضى عبر نشر الإشاعات والأخبار المزيفة والأكاذيب بصفة مستمرة في مختلف المنصات والوسائط”.
رغم الظروف الاقتصادية والمالية الصعبة التي تمر بها البلاد، تولي السلطات العمومية حرصًا بالغًا لتحسين الظروف المهنية، المادية والاجتماعية للعمال في مختلف القطاعات.
ولم تتقبل معظم النقابات الخطاب الجديد للسلطة تجاه احتجاجات الجبهة الاجتماعية، حتى تلك التي لم تشارك فيها، بالنظر إلى أن هذه الإضرابات على الأقل التي يعرفها قطاع التربية تمّت في إطار قانوني، وبعد إشعار السلطات، إضافة إلى أن ما تتحدث عنه الحكومة إن حدث فيبقى في حالات شاذة ومعزولة ولا يمكن تعميمه، لأن الطبقة العاملة في الجزائر أثبتت على الدوام التزامها بالقانون رغم التضييق الذي تعرضت له.
تبريرات ووعود
أوعزت الحكومة هجومها الحاد ضد بعض الاحتجاجات العمالية إلى عدم مراعاتها للجهود المبذولة من طرفها لتحسين القدرة الشرائية للمواطن، رغم الظروف التي تمر بها البلاد جراء جائحة كورونا.
وحسب الوزير الأول عبد العزيز جراد، فإنه “رغم الظروف الاقتصادية والمالية الصعبة التي تمر بها البلاد، خاصة بسبب تداعيات الأزمة الصحية العالمية وانعكاساتها السلبية على أداء الاقتصاد الوطني، إلا أن السلطات العمومية تولي حرصًا بالغًا لتحسين الظروف المهنية، المادية والاجتماعية للعمال في مختلف القطاعات”.
ورفع الرئيس تبون الأجر الوطني المضمون من 18 ألف دينار (138 دولارًا) إلى 20 ألف دينار (154 دولارًا)، إضافة إلى إعفاء الأجور التي تقل عن 30 ألف دينار (230 دولارًا) من الضرائب في 2020، إلا أن هذه الإجراءات بحسب كثير من النقابات لا تحل مشكلة تدني أجور الجزائريين مقارنة بنظرائهم في المنطقة العربية والمغاربية، إضافة إلى أن هذه الزيادات لم تمس الطبقة المتوسطة المهددة ربما بالزوال في حال استمر لهيب أسعار المواد الاستهلاكية، وواصل الدينار الجزائري تهاويه أمام العملات الأجنبية.
وإضافة إلى الرفع البسيط في الأجر الوطني المضمون، يقول الرئيس تبون إن حكومته استطاعت المحافظة على مناصب الشغل على الرغم من إكراهات الأوضاع الناجمة عن الحالة الوبائية، إضافة إلى إدماج العمال المتعاقدين في وظائف دائمة بمؤسسات حكومية.
وإن كان هذا الوضع حقيقة موجودة في القطاع الحكومي، إلا أن القطاع الخاص عرف تسريحًا للعمال، خاصة المؤقتين منهم، كما فقد العمال المهنيون المياومون وظائفهم جراء إجراءات الحجر الجزئي التي اتخذتها الحكومة، فقد أكد مسؤول بتكتل أرباب العمل لـ”نون بوست” أن القطاع الخاص عرف تسريح قرابة نصف مليون عامل جراء جائحة كورونا ومتابعة عدد من رجال الأعمال بتهم فساد.
وفي اجتماع مجلس الوزراء المنعقد يوم الأحد الماضي، شكّل ملف الاحتجاجات جانبًا مهمًّا من الملفات التي بحثها الرئيس تبون مع أعضاء الحكومة، إذ أمر وزيرَي الصحة والتربية بمباشرة حوار مع الشركاء الاجتماعيين قصد تحسين وضعيتهم المهنية والاجتماعية، كما أمر بمراجعة القانون الأساسي للأستاذ، وهو من أهم مطالب نقابات التربية، لأن مراجعته ستترتب عنها آليًّا زيادات في الأجور.
اقتصاد جديد؟
رغم المشاكل التي يغرق فيها العامل الجزائري بسبب نسب التضخم العالية والعجز في الميزانية التي تسجلها البلاد سنويًّا، إلا أن الرئيس تبون يرافع لنجاعة خطة الإنعاش الاقتصادي التي أتى بها، والتي من شأنها أن تقلص البطالة وتوفر مناصب شغل لبلد يمثل الشباب فيه أكثر من 70٪ من عدد السكان.
وقال تبون بمناسبة عيد العمال: “نحن نتجه تدريجيًّا لاستيعاب أعداد من شبابنا البطال في مناصب الشغل بوضع آليات لدعم المؤسسات الاقتصادية المدعوة للمساهمة في امتصاص اليد العاملة، وإلى التخفيف من نسبة البطالة عبر مقاربات تتلاءم مع مقتضيات اقتصاد المعرفة، لا سيما عبر المؤسسات الناشئة الصغيرة والمتوسطة”.
مهما كانت الحكومة جادة في تنفيذ وعودها الاقتصادية، فإنها تظل غير قادرة على إقناع طبقة عمالية غاضبة، ومواطن حانق على تدهور قدرته الشرائية، ما يشكل حملًا ثقيلًا على إدارة الرئيس تبون.
وأضاف تبون: “وقد بدأت بوادر مساهمة الشباب في خلق الثروة، ومناصب الشغل تُعطي النتائج المرجوة… الأمر الذي يوجب المزيد من التشجيع والتحفيز على الانخراط في نمط اقتصادي جذاب، يتحمل جزءًا من أعباء البطالة، التي نسعى بكل الوسائل والإمكانيات المتاحة للتخفيف منها”.
ويسعى تبون حسب ما يردد في خطاباته إلى التأسيس لاقتصاد جديد يرمي الممارسات البيروقراطية وسلوكيات الفساد التي ميزت عهد الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة خلفه، وذلك بتسريع الإنعاش الاقتصادي، حيث ألغى قاعدة 51/49 المتعلقة بالاستثمار الأجنبي التي تمنح الأفضلية للمتعامل المحلي، وحصر تطبيقها إلا في القطاعات الاستراتيجية وفي مقدمتها النفط الذي تمثل عائداته أساس اقتصاد البلاد.
وإن كان تبون قد شرع حقًا في تنفيذ بعض جوانب خطته الاقتصادية كتشجيع الزراعة الصناعية والزيتية بجنوب البلاد، والشروع في استغلال المعادن التي تزخر بها البلاد كالذهب والحديد والفوسفات، إضافة إلى العمل على تسريع إنشاء مشروع ميناء الحمدانية بولاية تيبازة المجاورة للعاصمة الجزائر، والذي يستهدف السوق الإفريقية، إلا أن هذا يبقى ربما غير كافٍ، بالنظر إلى تجذر الذهنيات والممارسات الكابحة للمبادرة الفردية داخل الإدارة الجزائرية، وكذا في ظل تأخر الإفراج عن قانون الاستثمار والنصوص التطبيقية المتعلقة بقانون المحروقات، واعتماد اليد المرتعشة في الفصل في ملفات عديدة مثل قطاع السيارات.
ومهما كانت الحكومة جادة في تنفيذ وعودها الاقتصادية، فإنها تظل غير قادرة على إقناع طبقة عمالية غاضبة، ومواطن حانق على تدهور قدرته الشرائية، ما يشكل حملًا ثقيلًا على إدارة الرئيس تبون الباحث بكل الطرق عن العصا السحرية التي توقف مسيرات الحراك الشعبي وإقناعه بالجلوس إلى طاولة الحوار، والاقتناع بجديته في تنظيم انتخابات تشريعية نزيهة تحدث القطيعة مع كل ما حدث في عهد بوتفليقة.