لم يسكت الجزائريون يومًا عن حقهم خلال احتلال فرنسا لأرضهم على مدار قرن ونصف، فلطالما تكررت الثورات وانطلقت المعارك من أجل تحرير البلاد من دنس الاستعمار، فقد جعلت فرنسا من الجزائر مستوطنة لها وتصرفت بها وبخيراتها وأذاقت أهلها ويلات العذاب، فقتلت وشردت مئات الآلاف من الجزائريين الذين لم يرتضوا بقائهم تحت ظل هذه الدولة العاتية.
ظل الجزائريون يقاومون حتى يوم استقلالهم، ولعل ما أفضى إلى هذا التحرر من قيد الفرنسيين تضحيات كبيرة قدمها الملايين، فقد خاض الشعب انتفاضة تلو انتفاضة، وفي هذا السياق تبرز ثورة الشيخ محمد المقراني التي كانت نقطةً فاصلةً في تاريخ الكفاح الجزائري، فيعدها الشيخ علي الصلابي “الحدث الكبير الثاني بعد ثورة الأمير عبد القادر”.
إذ يقول الصلابي في كتابه “كفاح الشعب الجزائري”: “وبالرغم من ضعف التخطيط والإعداد لثورة المقراني إلا أنها كانت الحدث الكبير الثاني بعد ثورة الأمير عبد القادر، وبسبب المشاركة الوطنية الواسعة فيها والخسائر الضخمة التي لحقت بالشعب في الأرواح والممتلكات تركت آثارًا عميقة في النفس الجزائرية توارثتها الأجيال لتظهر مستقبلًا في الأحداث”.
سيرة المقراني
تمر اليوم ذكرى وفاة محمد ابن الحاج أحمد المقراني، المنتسب إلى عائلة غنية لها أملاك واسعة من الأراضي في قلعة بني عباس، وكانت هذه العائلة ذات جاه واحترام من القبائل وشيوخها. عُين الحاج المقراني الأب سيدًا على جميع السكان الذين بايعوه تحت إشراف إدارة الاستعمار، ومع وفاة الأب عام 1853 خلفه في المنصب الحاج محمد الذي سيقود فيما بعد ثورة عارمة ضد الفرنسيين.
تربى المقراني الابن تربية إسلامية في كنف والديه بالإضافة إلى تأثره بعائلته التي تميزت بالجاه والقوة. حفظ المقراني القرآن وتعلم قواعد اللغة العربية، وهو الأمر الذي أتاح له المجال ليستطيع الجلوس على كرسي أبيه ويكون خليفةً على سكان منطقته، لكن فرنسا الاستعمارية عوضته بمنصب أقل منه قيمةً وهو منصب باشا آغا.
اعتبر المقراني التصرفات الفرنسية تجاهه إهانة له ولعائلته، ما اضطره لتقديم استقالته وعاد إلى أملاكه في مدينة بن عنكون قرب العاصمة الجزائر. كانت التصرفات الفرنسية بمثابة الشرارة التي أطلقت نداء الشيخ للجهاد وجمع الناس حوله من أجل الثورة على الفرنسيين، وإن كانت الإهانة الفرنسية للمقراني أحد الأسباب الدافعة للثورة، توجد أيضًا أسباب كثيرة جعلت الانتفاضة أمرًا محتومًا وإن كانت التجهيزات غير كافية.
أسباب ثورة المقراني
1- عدم رضى المقراني عن بروز قوة المستوطنين الذين أصبحوا يؤثرون على الحكومة في باريس ويستأثرون بالسلطة في الجزائر.
2- تلقى محمد المقراني توبيخًا عام 1864 من الجنرال دييفو بسبب تقديمه مساعدة للشيخ بوعكاز بن عاشور وهو أحد أصدقاء أبيه، الأمر الذي اعتبره المقراني إهانةً له ولعائلته ولسكان منطقته.
3- عدم ارتياح فرنسا للمقراني، إذ لجأت إلى إنشاء بلدية مختلطة في برج بوعريريج، وعينت على رأسها ضابطًا فرنسيًا يُدعى أوليفي، وكان هذا الإجراء بمثابة تقليص للنفوذ السياسي للمقراني في المنطقة، فدوره تراجع في المجلس البلدي ليغدو عضوًا بسيطًا لا رأي أو وزن له، وهنا قدم استقالته من منصبه كباش آغا لكنها رُفضت في 9 من مارس/آذار 1871 على أساس أنها غير مرفقة بتعهد منه يجعله مسؤولًا عن كل الأحداث التي ستقع بعد ذلك في المناطق الواقعة تحت نفوذه.
4- تعرضت المنطقة التي يقطنها المقراني لمجاعة كبيرة بين عامي 1867 و1868 وأودت بآلاف الضحايا من السكان الذين أعياهم المرض والجوع وقلة ذات اليد وكل ذلك أمام أنظار إدارة الاستعمار التي لم تحاول نجدة الأهالي، وهنا رأى المقراني أن سلطات الاستعمار لا تريد مصلحة الشعب.
5- استغلال الكنيسة للأوضاع الاجتماعية المزرية والمجاعات والفقر، فقد راحت تحمل الإنجيل في يد والمساعدات في اليد الأخرى، ما اضطر الأهالي إلى ترك أبنائهم في يد الأباء البيض للتنصير خوفًا عليهم من الموت، وفي هذا الصدد يذكر الشيخ علي الصلابي في كتابه “كفاح الشعب الجزائري” عن المقراني قوله لكبراء قرية بوجليل ببني عباس بعد توغل التنصير: “بعد أن تتوكلوا على الله ورسوله، تقدموا إلى الجهاد لنصرة دينكم عزمًا”، وهنا يقول الصلابي: “فلا غرابة أن تكون سياسة التنصير عاملًا في دقع الجزائريين إلى الثورة”.
6- النظام المدني الذي كان تكريسًا لهيمنة المعمرين الأوروبيين على الجزائريين وإمعانًا في إذلالهم، وهذا ما نص عليه مرسوم 24 من أكتوبر/تشرين الأول 1870، فقد تأكد المقراني أن هذا القانون سيزيد من معاناة الشعب الجزائري، خاصة تحت سلطة المستوطنين واليهود المجنسين، وفي سياق متصل قال المقراني قولته الشهيرة: “أريد أن أكون تحت السيف ليقطع رأسي، ولا تحت رحمة يهودي أبدًا” إثرها قرر أن يحتكم للسيف.
7- اقتراض المقراني من بنك الجزائر، بسبب المجاعة التي أهلكت سكان المنطقة، وكان القرض لمساعدة المحتاجين والمتضررين، ومع استلام النظام المدني الحكم في البلاد، رفضت إدارته الوفاء بتعهد المقراني، ما أوقعه في أزمة مالية خانقة، فاضطر من أجل سكان منطقته رهن أملاكه ليكون ضحية ابتزاز المستوطنين واليهود.
8- سياسة العنصرية التي طبقتها الإدارة الجديدة مع الجزائريين العاملين في مد الطرق بين الجزائر وقسنطينة، فقد كانت تفرق بينهم وبين بعض العمال الأوربيين الذين كانت أجورهم عالية ولا يقومون بالأعمال المتعبة، في حين كانت أجور الجزائريين منخفضة جدًا وهم الذين ينجزون الأعمال الشاقة.
انطلاق الثورة
بعد أن قدم المقراني استقالته من منصبه كباشا آغا للمرة الثانية في فبراير/شباط 1871، وإعادته شارة الباشا آغوية آنذاك إلى وزارة الحربية، عقد اجتماعات مع رجاله وكبار قادته ليبدأ في مارس/آذار من ذات العام، زحفه إلى مدينة برج بوعريريج على رأس قوة قدرت بسبعة آلاف مقاتل بقصد محاصرتها والضغط على الإدارة الاستعمارية الفرنسية الجديدة.
بعد إطباق الحصار على مدينة البرج، انتشرت الثورة إلى مناطق الشرق الجزائري، فوصلت إلى مناطق مليانة وشرشال وجيجل والقل والمسيلة وبوسعادة وغيرها من المدن والقرى، وهنا عمد المقراني إلى استمالة الشيخ الحداد وجماعة الإخوان الرحمانيين، وعن طريقه بدأت تعبئة السكان للجهاد.
وقد لعب ابن الشيخ محمد أمزيان بن علي الحداد دورًا مهمًا إلى جانب المقراني، فقد استطاع إقناع والده (الشيخ حداد) بإعلان الجهاد، وهو الأمر الذي جعل بعضًا من أتباع جماعة الإخوان الرحمانيين بالانضمام للثورة ويكونوا أحد الأعمدة الضاربة ضمن قواتها.
أثبتت معارك المقراني وأنصاره من الإخوان الرحمانيين وأخيه بومرزاق، لقادة الاستعمار توسع رقعة الثورة التي لم تكن محصورة إنما وصلت إلى مشارف العاصمة.
وصل عدد المجاهدين من أتباع الشيخ الحداد والإخوان الرحمانين أكثر من 120 ألف مجاهد ينتمون إلى 250 قبيلة، في الوقت الذي استطاع المقراني تجنيد 25 ألف فارس من قبائل مختلفة، وحققت الثورة انتصارات كبيرة أخافت الإدارة الاستعمارية وأصبحت تشكل خطرًا على مصالحها ومستوطنيها في المنطقة.
استشهاد القائد
لم يأخذ الشيخ المقراني خلال معاركه كل احتياطاته الأمنية لحماية نفسه، فعندما كان يؤدي صلاة الظهر مع رفاقه، لم يكن يعرف أن عددًا من جنود الفرنسيين يترصدون له فيما قال بعض المؤرخين إن عملاءً للفرنسيين أطلقوا النار عليه، وبينما هو يصلي أطلقوا عليه النار فسقط على الأرض شهيدًا يوم 5 من مايو/أيار 1871.
بعد استشهاد محمد المقراني، رفع أخوه بومزراق راية المقاومة وواصل الجهاد، وبعد خوضه عدّة معارك، أُنهِكت قوته ولم يستطع مجاراة الحرب ضد جيوش العدو خاصة بعد استسلام الشيخ الحداد الذي أثّر على معنويات بومزراق المقراني.
وهنا يقول الباحثون إن هذه الثورة لم تكن منظمة والدليل على ذلك أنه بعد استشهاد محمد المقراني انفرط عقدها وبدأت بالانحسار الفوري، وانهزم بومزراق في معركة بالقرب من قلعة بني حماد في أكتوبر/تشرين الأول 1871 ثم اتجه إلى الصحراء، لكن اكتشف أمره وألقي عليه القبض ونُفي إلى كاليدونيا الجديدة.
انتهت ثورة المقراني التحررية بعد كفاح كبير وآلاف الشهداء، كما أن بعد تلك الانتفاضة ليس كما قبله، فقد زاد الفرنسيون من بطشهم وظلمهم للجزائريين وقاموا بحملة انتقام شديدة فأعدموا الآلاف ونفوا الكثير واستولوا على أراضي من شارك بهذه الثورة، لكن لم يكن استشهاد المقراني وتوقف ثورته حجر عثرة أمام الثورات الجزائرية التي ستلحق بها وتحرر البلاد من نير الاستعمار وقيد العبودية مقدمةً مليون شهيد كالمقراني وغيره الذين لم يرتضوا إلا أن تُكتب أسماؤهم في سفر الخالدين.