احتل شهر رمضان مكانةً كبيرةً عند سلاطين الدولة العثمانية، وكانوا يشرفون بأنفسهم على جميع التجهيزات الخاصة باستقباله، فيمشي السلطان متخفيًا في الأسواق لمراقبة جودة السلع والأسعار، ويكتب بنفسه وثيقة التنبيهات، وهي التعليمات التي يجب أن يسير عليها الشعب خلال هذا الشهر.
كما حافظوا على زيارة غرفة الأمانات المقدسة بقصر طوب قابي التي تحوي بعض مقتنيات النبي محمد، مرتين في رمضان: الأولى في اليوم الثاني عشر من الشهر، والثانية في ليلة السابع والعشرين التي يعتقد أنها ليلة القدر، فكانت تغسل الغرفة بماء الورد وبعد ذلك يشعل العود والعنبر، ثم يأتي السلطان ويضع يده على قميص النبي أو ما يعرف بـ”خرقة السعادة” بعد إخراجه من صندوقه الفضي.
وإلى جانب هذا الطقس كانت هناك مراسم أخرى خاصة بليلة القدر يشارك فيها الجميع وعلى رأسهم السلطان نفسه، سواء تلك التي كانت تقام في الشوارع والمساجد أم في القصر.
موكب القدر
سيرًا على خطى السلطان محمد الفاتح الذي اعتاد أن يصلي التراويح بمسجد آيا صوفيا في ليلة القدر، واظب السلاطين العثمانيون من بعده على نفس العادة، وكان يتسابق الناس ليلتها لأداء التراويح هناك، لما كان يعتقد آنذاك أن الدعاء في آيا صوفيا ليلة القدر مستجابًا.
قبل الذهاب بالموكب إلى الصلاة كان يكلف السلطان العاملين بالقصر بتجهيز مائدة إفطار من أجل المدعوين، وموائد بالخارج للفقراء والمحتاجين
كان يتجه السلطان العثماني من قصر طوب قابي إلى مسجد آيا صوفيا، في موكبٍ مهيب يسمى “موكب القدر”، ولو صادف رمضان أحد شهور الصيف حيث يقيم السلطان وأركان الدولة في القصور الساحلية يجب أن يذهبوا للإفطار في بيت الأجداد بطوب قابي أولًا، ثم الخروج من هناك بالموكب للذهاب لأداء التراويح بآيا صوفيا.
واستمرت تلك العادة حتى بعد انتقال مقر قصر السلطان إلى دولما بهتشة الواقع على ساحل بشيكتاش، لكن بعض السلاطين في نهايات الدولة العثمانية كانوا يفضلون الذهاب من قصورهم إلى المساجد التي بنوها مثل مسجد حميدية يلدز، وبناءً عليه كان يتغير سير الموكب.
قبل تلك الليلة، يتم ترميم جميع الشوارع الموجودة بخط سير الموكب الذي يبدأ من “باب السعادة” – أحد أبواب قصر طوب قابي – وينتهي بمسجد آيا صوفيا، وطلاء الأبنية التي تطل على الطريق وتزيينها وإضاءتها بالقناديل والمشاعل، وكان يتم تخصيص أماكن للجلوس من أجل أن يشاهد الأهالي الموكب بأريحية، كما كانت هناك مساحة مخصصة لمقاعد الدبلوماسيين والسفراء الذين كانوا يدعون أيضًا إلى مشاهدة الصلاة من الطابق الأعلى لآيا صوفيا.
يحتشد الشعب في زحام شديد لرؤية السلطان وتفرق الحلوى وسط هتافات وتصفيق مصحوبة بأصوات الطلقات والمفرقعات الخاصة بالاحتفال، وكان يشارك كل رجال الدولة وجموع الشعب في هذا الموكب، حتى إن السلطانات والسيدات في الحرملك كن يخرجن في هذا اليوم من القصر ويشاركن في مشاهدة الموكب في المقاعد المخصصة لهن، ثم ينتظرن في عرباتهن حتى انتهاء التراويح التي كانت يقرأ القرآن بكل ركعة بها على مقام مختلف احتفالًا بليلة القدر، وبعدها يتجولن بالعربات التي تجرها الأحصنة في أنحاء المدينة لمشاهدة الاحتفالات.
تحت عنوان “موكب ليلة القدر الجليلة”، كتبت جريدة إقدام في 24 من ديسمبر/كانون الأول 1905: “ذهب السلطان عبد الحميد الثاني وبجانبه رضا باشا رئيس الجيش، إلى جامع حميدية يلدز، وكانت السفن الموجودة على ساحل قصر بشيكتاش مضاءة بالقناديل، وأغدق على الفقراء بالصدقات من قِبل خزينة الدولة وأقيمت لهم موائد الإفطار بطول الطريق بدايةً من مسجد سنان باشا ببشيكتاش وحتى قصر يلدز، وأمر السلطان بتوزيع الحلوى والشاي والسجائر على العساكر، بمناسبة ليلة القدر”.
ويحكي الكاتب والشاعر الإيطالي الذي عاش في إسطنبول أدمونو دي آميجيس (1846-1908) عن موكب ليلة القدر في مذكراته، قائلًا: “كانت هذه هي الليلة الوحيدة التي يخرج بها السلطان عبد الحميد للصلاة خارج القصر، وكان يقام موكب كبير من أجل ذلك، لقد حضرت مراسم آخر ليلة قدر له.
كان الطريق من قصر يلدز وحتى جامع حميدية مضاءً بالمشاعل، وأضيء الجامع بأكمله بقناديل زيتية صغيرة، وزين بالنقوش العربية والزخارف المعمارية، كانت تلك الأضواء المتناثرة في ظلام المدينة والميناء تشكل منظرًا رائعًا وكأنه أسطورة خيالية، كانت تلمع منارات السفن بضوء ذهبي خافت وفي تلك الأثناء جاء صوت الجوقة العسكرية، ورماحهم تتوهج تحت هذه الأضواء، وأتى صوت المؤذن من المسجد، تلاه عزف الجوقة الموسيقية لنشيد السلطان، حتى ظهرت عربة السلطانات يجرها حصانين مزينة بالمشاعل البيضاء تموج وسط الزحام، ثم حضر السلطان عبد الحميد في عربة تزينها الأضواء الذهبية والحمراء واضعًا على كتفه البالطو العسكري، واستقبله الناس بهتافات طافت الآفاق، يعيش السلطان، وأطلقت في تحيته المدافع أثناء أدائه للصلاة، ومن حين لآخر كان يأتي صوت عذب ينشد الإلهيات – أناشيد الشعائر الدينية -، وبعد ساعة ظهر عبد الحميد مرة ثانية، وهنا هتف الناس مرة أخرى: يعيش السلطان”.
بعد الانتهاء من موكب العودة من صلاة التراويح، تُشرب القهوة في القصر وبعد أن يأمر السلطان، يبدأ شيخ الإسلام وإمام مسجد السلطان بقراءة بعض من القرآن
مراسم القصر و”يومورتا همايون”
قبل الذهاب بالموكب إلى الصلاة كان يكلف السلطان العاملين بالقصر بتجهيز مائدة إفطار من أجل المدعوين، وموائد بالخارج للفقراء والمحتاجين، أما السلطان فكان يأكل البيض المحضر له خصيصًا من أجل هذا اليوم، وكان يسمى هذا الطقس “يومورتا همايون” أي أكلة البيض السلطانية، وقد بدأ هذا الطقس مع محمد الفاتح وظل حتى نهاية الدولة العثمانية.
وبحسب المصادر فإن هذا البيض كان يعد بشكل خاص ليفطر به السلطان في ليلة القدر، حيث يوضع البصل في زيت الزيتون الحلبي ثم توضع البسطرمة وقليل من الماء والخل والسكر ثم يوضع البيض ويترك على النار حتى ينضج.
بعد الانتهاء من طعام البيض، تجهز مائدة السلطان وكانت عادة ما تتكون من الكباب والديك الرومي والأرز، ثم تأتي حلوى الألماظية أو المهلبية وفي النهاية تأتي البامية ثم البقلاوة.
أما بعد الانتهاء من موكب العودة من صلاة التراويح، تُشرب القهوة في القصر وبعد أن يأمر السلطان، يبدأ شيخ الإسلام وإمام مسجد السلطان بقراءة بعض من القرآن، ثم تُقرأ “وسيلة النجاة” التي تعرف بالمولد الشريف، وهي منظومة شعرية تتكون من تسعة أقسام و732 بيتًا كتبها الإمام والشاعر التركي سليمان شلبي عام 1409 تتحدث عن سيرة النبي محمد.
ويستمر إحياء ليلة القدر هكذا حتى مطلع الفجر، ثم في نهاية الليل يزور سكان القصر بدايةً من السلطان وحتى العاملين “الخرقة الشريفة” للتبرك بها، ثم ينتهي الاحتفال ويتم توديع المدعوين بسلات الحلوى المزينة وماء الورد.