فرضت التغيرات السياسية الأخيرة في المشهد الليبي التي أسفرت عن انتخاب مجلس رئاسي وحكومة وحدة وطنية مؤقتة، خلال تصويت مباحثات جنيف، فبراير/شباط الماضي، برعاية الأمم المتحدة، على جميع الأطراف الفاعلة في هذا الملف إعادة النظر في سياساتها الخارجية حيال التراب الليبي في ضوء تلك المستجدات.
وتأتي القاهرة على رأس تلك القوى الفاعلة، لا سيما بعد اختيار الدبلوماسي السابق محمد المنفي، رئيسًا للمجلس الرئاسي الموقت، وعبد الحميد الدبيبة للحكومة، عقب فشل القائمة التي يترأسها عقيلة صالح المدعوم من النظام المصري في جمع الأصوات الكافية.
التشكيل الرئاسي الجديد للدولة الليبية يميل في معظمه – سياسيًا – إلى حكومة الوفاق المعترف بها دوليًا، الخصم اللدود لفريق اللواء المتقاعد خليفة حفتر، المدعوم من القاهرة وأبو ظبي، الأمر الذي وضع الجانب المصري في مأزق سياسي بشأن التعامل مع تلك التغيرات الجديدة.
وتبذل مصر – بنظرة برغماتية بحتة – جهودًا حثيثة لتعزيز واستعادة نفوذها في ليبيا الجديدة، وذلك من خلال توسيع منافذ الانخراط داخل مفاصل الدولة، على مختلف المسارات، فالأمر لم يعد مقتصرًا على الجانب الأمني فقط، وهو الذي كان يتشدق به نظام السيسي تبريرًا لدعمه لحفتر في مواجهة الحكومة الشرعية.
المصريون يسابقون الزمن لوضع أكبر قدر ممكن من الأقدام فوق التراب الليبي قبل إجراء الانتخابات المقرر لها أواخر العام الحاليّ 2021، تحسبًا لما هو قادم في ظل تعدد الأطراف الفاعلة في هذا الملف الذي يمثل تهديدًا للأمن القومي المصري من الناحية الغربية.
دعم مبكر
رغم خسارة المرشح المدعوم قاهريًا في التصويت، فإن مصر أعلنت دعمها الكامل للحكومة الجديدة بعد أن منحها البرلمان الليبي الثقة، وأعربت عن استعدادها للعمل معها لإخراج البلاد من الأزمة الممتدة طيلة العقد الماضي، من أجل تحقيق الأمن والاستقرار في المنطقة.
وفي خطوة لها دلالتها السياسية، اختار الدبيبة القاهرة كأول محطة خارجية له بعد تعيينه رئيسًا للحكومة، فزارها بعد أيام قليلة من توليه منصبه، فيما جاءت كمحطة ثانية بعد باريس لرئيس المجلس الرئاسي، الذي حل ضيفًا عليها في مارس/آذار الماضي.
وفي الـ20 من أبريل/نيسان الماضي زار وفد مصري رفيع المستوى برئاسة رئيس الحكومة مصطفى مدبولي، العاصمة طرابلس، حيث التقى الدبيبة وعددًا من المسؤوليين الليبيين، وأكد الجانبان أهمية التنسيق والتعاون لعبور تلك المرحلة الحرجة في تاريخ ليبيا.
تسعى القاهرة مع الحكومة والمجلس المؤقتين لتعزيز التعاون الأمني من خلال تقوية الجيش الليبي ودعمه بالخبرات التدريبية والتسليحية المصرية، حتى إن تباينت الرؤى والأهداف بين الجانبين
اللقاء أسفر عن إعلان مشترك من الطرفين تطرق إلى عدد من القضايا ذات الاهتمام المشترك، بجانب التأكيد أن مجلس الرئاسة وحكومة الوحدة الوطنية، التي أفرزتها نتائج الانتخابات في اجتماع الحوار السياسي الليبي، هما السلطة التنفيذية الشرعية الوحيدة في البلاد.
القاهرة أعلنت دعمها الكامل لأي تحركات من شأنها الحفاظ على سيادة ليبيا على أراضيها ووحدتها السياسية، مع الميل نحو إنهاء حالة الانقسام التي عانت منه البلاد طويلًا، وكانت الإمارات وقوده الأبرز، فيما أكد الجانبان أهمية توحيد موقف البلدين حيال مختلف القضايا الإقليمية والدولية.
إستراتيجية جديدة
التطورات الأخيرة دفعت القاهرة للتعامل مع الملف الليبي عبر ثلاثة مسارات متوازية، تهدف في مجملها إلى تعزيز النفوذ المصري في تلك البقعة الإستراتيجية للأمن القومي المصري، الأول ما يتعلق بالبعد الأمني، حيث التنسيق والتعاون العسكري المتبادل بين البلدين.
ويعد هذا المسار هو الأكثر حضورًا منذ الأزمة، فقد وضع الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، جيش بلاده على أهبة الاستعداد في دعم ومساعدة ميليشيات حفتر خلال معركتها ضد حكومة الوفاق، ورغم خسارة الحليف الليبي في معركته بطرابلس، وهي المعركة التي أطاحت بالجنرال مؤقتًا من المشهد، فإن الحضور المصري لم يغب.
تسعى القاهرة مع الحكومة والمجلس المؤقتين لتعزيز التعاون الأمني من خلال تقوية الجيش الليبي ودعمه بالخبرات التدريبية والتسليحية المصرية، حتى إن تباينت الرؤى والأهداف بين الجانبين، إلا أن الوجود العسكري المصري – تحت أي مسمى – أحد أبرز إستراتيجيات التعاطي المصري مع هذا الملف.
المسار الثاني يتعلق بالعمالة المصرية وإعادتها للأراضي الليبية مرة أخرى، وهو ما تم الاتفاق عليه خلال زيارة رئيس الوزراء المصري لطرابلس، إذ يتوقع وصول الدفعة الأولى من العمال المصريين إلى ليبيا، خلال النصف الثاني من مايو/أيار الحاليّ، فور اكتمال إجراءات إعادة فتح السفارة المصرية والقنصلية العامة في طرابلس.
الحكومة المصرية وضعت خطة لعودة العمالة لمعدلاتها التي كانت عليها قبل 2011 التي كانت تتجاوز 2.8 مليون عامل مصري، قبل أن تشهد تراجعًا ملحوظًا في ظل الظروف السياسية والأمنية التي عانت منها ليبيا خلال السنوات العشرة الماضية، حسبما نقلت صحيفة “الوطن” المصرية عن مصادر خاصة بها.
الزيارات المتبادلة بين القوى أطراف الصراع في ليبيا والحكومة الجديدة تذهب إلى أن كل دولة من هذه الدول تسعى أن تظهر أنها داعمة للمسار السياسي وللمجلس الرئاسي
الصحيفة أشارت إلى أن المستهدف من خلال تلك الخطة أن يصل عدد العاملين المصريين في ليبيا إلى 3 ملايين عامل في كل المجالات، خلال المرحلة المقبلة، مستعرضة أبرز عناصر تلك الخطة وعلى رأسها: “تنظيم ملف العمالة، بما يسمح بالاستفادة القصوى للجانب الليبي من من العمالة المصرية، ومهاراتها في كل المجالات”.
بجانب “وضع الضوابط والآليات المطلوبة مع شركات إلحاق العمالة للخارج، بحيث يكون سفر العامل المصري الراغب في التوجه لسوق العمل الليبي وفقًا لهذه الضوابط، وكذلك عدم تعرضه لأي مشاكل مع هذه الشركات” مع “وضع خطوط عريضة لإمداد سوق العمل الليبي بالتخصصات والمهن المطلوبة من العمالة المصرية”، مع التأكيد على ضرورة “وضع كل الضوابط التي تحمي العمالة المصرية في الخارج وتحافظ على حقوق المالية والاجتماعية في بلد العمل”.
أما المسار الثالث للإستراتيجية المصرية الجديدة في ليبيا فيتعلق بالبعد الاقتصادي، فقد أبرمت حكومتا البلدين 11 اتفاقية خلال زيارة مدبولي، في مجالات النقل والإسكان والبنية التحتية، وكذلك في مجالات الصحة والقوى العاملة والكهرباء.
هذا بخلاف الدور الذي تطمح به مصر في مشروعات إعادة الإعمار المقرر أن تبدأ خلال الفترة المقبلة، وتأمل القاهرة أن يكون لشركاتها النصيب الأكبر بها، بجانب النفط الذي ظل هدفًا محوريًا للتدخل المصري على خط تلك الأزمة السنوات الخمسة الأخيرة.
ماذا عن حفتر؟
لا شك أن الزيارات المتبادلة بين القوى أطراف الصراع في ليبيا والحكومة الجديدة تذهب إلى أن كل دولة من هذه الدول تسعى أن تظهر أنها داعمة للمسار السياسي وللمجلس الرئاسي، وعليه فلا يمكن لأي من تلك القوى أن تبقي على أجندتها السابقة، ومن ثم كان العودة خطوة وأحيانًا خطوات للوراء قليلًا.
الانخراط المصري في المسار السياسي والدعم الكامل الذي أبدته القاهرة للتشكيل الجديد دفع البعض للذهاب إلى أن الجانب المصري ابتعد كثيرًا عن المسار الإماراتي الداعم على طول الخط – حتى كتابة هذه السطور – لفريق حفتر وميليشياته.
التفسير الأسرع للأذهان عقب التحول الواضح في الموقف المصري كان إلقاء ورقة حفتر بصورة نهائية، فيما فتحت القاهرة قنوات اتصال عدة مع حكومة الوفاق، ذهابًا وإيابًا، تناغم ذلك مع التوتر في العلاقات مع أبو ظبي بسبب تعارض المصالح حيال بعض الملفات ومن بينها الملف الليبي الذي تتعامل معه السلطات المصرية بمبدأ برغماتي بحت.
تتركز الجهود المصرية – بحسب الخطة الموضوعة – على تحشيد رأي عام موحد في مناطق ترهونة، جنوب طرابلس، ومناطق صبراتة وصرمان والعجيلات ورقدالين والجميل والرجبان والزنتان، بوصفها تمثل حاضنة جيدة لحفتر لدعمه في الماراثون الانتخابي القادم
غياب الجنرال الليبي عن الأضواء الفترة الماضية، ودعمه – الظاهري – للحكومة الجديدة، أثار الكثير من التساؤلات عن مستقبل الرجل السياسي، لكن هل يعني ذلك أن القاهرة ألقت بتلك الورقة بشكل رسمي؟ المؤشرات تذهب إلى أنه من المبكر لأوانه الحديث عن طلاق موثق بين الحليفين.
بعض المصادر السياسية والإعلامية أشارت إلى خطة مصرية تم وضعها مؤخرًا لاستعادة الهيمنة على الساحة الليبية في الشرق والغرب على حد سواء، قبل حلول موعد الاستحقاق الانتخابي في 24 من ديسمبر/كانون الأول القادم، بهدف تمهيد الأجواء للدفع بحفتر على منصب الرئيس، وفق ما ذهب “عربي بوست“.
الموقع نقل عن مصادر خاصة به قولهم إن الرئاسة المصرية تمارس ضغوطًا مكثفةً على الأطراف الليبية لإجراء الانتخابات الرئاسية في موعدها المقرر، يتوازى ذلك مع تحركات مستمرة “لاستقطاب عدة مناطق بالمنطقة الغربية لصالح خليفة حفتر، وذلك بعدما عقدت مصر اتفاقات مع حكومة الوحدة الوطنية”.
وتتركز الجهود المصرية – بحسب الخطة الموضوعة – على تحشيد رأي عام موحد في مناطق ترهونة، جنوب طرابلس، ومناطق صبراتة وصرمان والعجيلات ورقدالين والجميل والرجبان والزنتان، بوصفها تمثل حاضنة جيدة لحفتر لدعمه في الماراثون الانتخابي القادم، رغم خضوعها حاليًّا لسلطة الحكومة الجديدة.
وبحسب ما نقل الموقع عن مصدر مقرب من القيادة العامة التابعة للجنرال الليبي، فإن القاهرة عازمة على دعم حفتر للترشح للانتخابات الرئاسية الليبية المقبلة، فيما وقع الاختيار على رئيس الأركان التابع لبرلمان طبرق الفريق عبد الرزاق الناظوري، لتعيينه حاكمًا عسكريًا بديلًا عنه.
القاهرة تحاول جاهدة تعزيز تعاونها مع حكومة الوحدة الوطنية لا سيما في طرابلس والوسط والجنوب، وهي المناطق التي تمثل كتلة تصويتية كبيرة، قادرة على ترجيح كفة أي مرشح، بهدف الحصول على دعم قبائل ومشايخ تلك المناطق لدعم حفتر رئيسًا للبلاد.
هناك فريق ذهب إلى أن غياب الجنرال الليبي عن الساحة السياسية منذ التشكيل الجديد، والاكتفاء بمهامه العسكرية فقط، جزء من تلك الخطة التي تستهدف تجنيب وضع القاهرة في موقف حرج، وإظهارها في موقف الداعم له رغم الجرائم التي ارتكبها مؤخرًا والهزائم المتتالية التي تلقاها على أيدي حكومة الوفاق التي كان لها تأثيرها في تراجع شعبيته ونفوذه وتقليص الدعم الدولي له.
وفي الأخير فإن الإستراتيجية المصرية الجديدة في الداخل الليبي تشير إلى رغبة قوية في تقوية النفوذ القاهري واستعادة الثقل المفقود مؤخرًا، أما ما يتعلق بتباين وجهات النظر بشأن دعم حفتر رئيسًا للبلاد، فهي مغامرة محفوفة المخاطر بالنسبة للجانب المصري.. فهل يقع المصريون في الفخ مرة أخرى؟