جاءت زيارة الوفد التركي رفيع المستوى للعاصمة الليبية طرابلس بشكل مفاجئ مساء الاثنين 3 مايو/ أيار، بعد عدد من التطورات التي شهدها الملف الليبي محليًّا وإقليميًّا. وضم الوفد وزيرَي الخارجية مولود تشاووش أوغلو والدفاع خلوصي أكار ورئيس جهاز الاستخبارات هاكان فيدان، بالإضافة إلى رئيس هيئة الأركان وقادة في الجيش التركي.
وتهدف هذه الزيارة إلى إيصال رسائل معينة لأطراف خارجية وداخلية في ليبيا حول عزم أنقرة تثبيت دورها وتواجدها لدعم الشرعية، بعد الانشقاقات في الرأي التي تشهدها حكومة الوحدة الوطنية الليبية، خصوصًا بعد انضمام وزيرة الخارجية الليبية نجلاء المنقوش إلى الأصوات المطالبة بخروج القوات التركية من الأراضي الليبية.
وأكد وزير الخارجية التركي، مولود تشاووش أوغلو، أن زيارة الوفد التركي جاءت لتبين استمرار الدعم التركي للمجلس الرئاسي الليبي، ولمتابعة سير عمل الاتفاقيات التي وقِّعت خلال اجتماع مجلس التعاون الاستراتيجي رفيع المستوى، الذي استضافته أنقرة الشهر الماضي، بالإضافة إلى ترتيب عودة الشركات التركية للعمل في ليبيا.
حماية المصالح التركية
قدمت تركيا من جانبها وما زالت تقدم كافة أشكال الدعم السياسي والعسكري من أجل مساعدة وتقوية الحكومة الشرعية لبسط سيطرتها على عموم ليبيا، حيث تدرك أنقرة أهمية الدور الذي لعبته قواتها العسكرية على الأراضي الليبية ودورها الحالي في حماية المشروع السياسي الليبي حديث الولادة. وكما تدرك دورها الأساسي في منع سقوط طرابلس بيد قوات حفتر ومرتزقته سابقًا، وهي اليوم الضامن الوحيد لردع حفتر وقواته حال عودته للتهديد مجددًا.
وإبان فترة حكومة الوفاق الليبية، المدعومة دوليًّا، جرى تثمين الدعم التركي للشرعية في ليبيا من خلال توقيع اتفاقيتين استراتيجيتين غاية في الأهمية نهاية عام 2019، الأولى كانت في ترسيم الحدود البحرية بين تركيا وليبيا، التي أثارت حفيظة اليونان والاتحاد الأوروبي، والثانية في مذكرة التفاهم العسكري لتدريب القوات العسكرية والأمنية الليبية من أجل مجابهة تحركات اللواء حفتر الرامية إلى إسقاط الحكومة الشرعية واحتلال طرابلس.
تراقب تركيا عن كثب تحركات حكومة الوحدة الوطنية الليبية ومساعيها في التواصل مع جميع الأطراف الإقليميين والدوليين اللاعبين على الساحة الليبية.
وخلال زيارة وفد ضخم من الحكومة الوطنية الليبية الجديدة لأنقرة الشهر الماضي، أبدت الحكومة الجديدة التزامها الكامل باتفاقيتَي التعاون الأمني وترسيم الحدود البحرية، وهو ما يمثل ضرورة قصوى لتركيا التي تريد أن تحافظ على اتفاقيتها البحرية مع ليبيا، والتي تشكل ورقة ضغط مهمة في صراع الغاز شرق المتوسط في مجابهة اليونان وحلفائها.
كما تراقب تركيا عن كثب تحركات حكومة الوحدة الوطنية الليبية ومساعيها في التواصل مع جميع الأطراف الإقليميين والدوليين اللاعبين في الساحة الليبية، حيث زار رئيس الوزراء الليبي عبد الحميد دبيبة الإمارات العربية المتحدة بعد انتخابه بوقت قصير، وأبدت الحكومة الوطنية الشهر الماضي انفتاحها للحوار مع اليونان بشأن ترسيم الحدود البحرية بينهما، بالإضافة إلى زيادة الحضور المصري في المشهد الليبي، من خلال الزيارة التي قام بها رئيس الحكومة المصرية مصطفى مدبولي رفقة 11 وزيرًا الشهر الماضي لطرابلس، توجت بتوقيع عدد من الاتفاقيات.
عقبة المرتزقة
تسعى حكومة الوحدة الوطنية الليبية الجديدة لتحقيق الهدف الرئيسي الذي شكلت بناءً عليه، والرامي إلى تجهيز المناخ الملائم من أجل عقد الانتخابات في موعدها المقرر نهاية العام، بالإضافة إلى تنفيذ بنود الاتفاقيات التي جرى التوافق عليها مسبقًا، بدءًا من خارطة برلين الدولية الموقعة في 19 يناير/ كانون الثاني 2020 مرورًا باتفاق الحوار الليبي في تونس يوم 15 نوفمبر/ تشرين الثاني 2020، وانتهاءً باتفاق جنيف الموقع في 5 فبراير/ شباط 2021.
وفي وقت سابق، وخلال خطبة وزيرة الخارجية الليبية، نجلاء المنقوش، أمام لجنة الشؤون الخارجية في مقر مجلس النواب الإيطالي، نهاية الشهر الماضي، طالبت الحكومة الإيطالية للعب دور أكبر في حلحلة الأزمات المتتالية التي تعرضت لها بلادها بما يضمن ويعزز استقلال القرار الليبي وتحرير الإرادة الوطنية من كافة التدخلات السلبية الخارجية، والمساعدة في خروج وإخراج كافة القوات والمرتزقة الأجانب، بحسب البيان الذي نشرته وزارة الخارجية الليبية عبر صفحتها على فيسبوك.
وتزامنًا مع خطاب المنقوش، طالبت اللجنة الرباعية بشأن ليبيا، والتي تضم كلًّا من جامعة الدول العربية والأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي والاتحاد الإفريقي، بانسحاب فوري لجميع القوات الأجنبية من ليبيا. وبلغ عدد المقاتلين الأجانب في ليبيا أكثر من 20 ألفًا، بحسب تقديرات الأمم المتحدة.
ويذكر أن العديد من فرق المرتزقة القادمة من عدة دول وجبهات، كانت قد شاركت في الصراع العسكري الليبي الذي خمد “مؤقتًا” بعد تشكيل الحكومة الوطنية الجديدة، أحد مخرجات خارطة الطريق الصادرة عن ملتقى الحوار السياسي الليبي. وتشارك إلى جانب قوات اللواء المتقاعد خليفة حفتر العديد من فرق المرتزقة، أبرزها فرقة فاغنر الروسية، بالإضافة إلى المرتزقة القادمين من السودان ودول عربية وإفريقية أخرى. في المقابل، قدمت تركيا دعمًا عسكريًّا وفق اتفاقية تعاون عسكري مع حكومة الوفاق الليبية، المعترف بها دوليًّا، قلبَ موازين الصراع في ليبيا، وحال دون سقوط طرابلس بيد قوات حفتر.
وجود تركي وفق اتفاقية تعاون عسكري
وقعت تركيا مع حكومة الوفاق الليبية السابقة في 27 نوفمبر/ تشرين الثاني 2019، مذكرة تفاهم لمساعدتها على تطوير قدرات قواتها العسكرية والأمنية، وقد غيّرت الاتفاقية المبرمة بين الطرفين موازين القوى العسكرية لصالح الحكومة الليبية الشرعية، وساعدت في وقف الاقتتال الداخلي وحث جميع الأطراف للجلوس حول طاولة الحوار لحل الخلاف بشكل سياسي عوضًا عن الحل العسكري.
جاويش أوغلو: هناك من يساوي وجودنا القانوني مع مجموعات المرتزقة الأجنبية التي تقاتل في هذا البلد من أجل المال.
وخلال الزيارة الأخيرة التي قام بها رئيس حكومة الوحدة الوطنية الليبية الجديدة، عبد الحميد الدبيبة، لأنقرة، رفقة وفد وزاري كبير ضم 14 وزيرًا، أكد البلدان على استمرار العمل باتفاقيتَي التعاون الأمني وترسيم الحدود البحرية، والتي جرى توقيعهما أواخر عام 2019 مع حكومة الوفاق السابقة.
ورفض المجلس الأعلى للدولة الليبية برئاسة خالد المشري، تصريحات المنقوش أمام مجلس النواب الإيطالي المطالبة بخروج القوات التركية من الأراضي الليبية، وقال: “ليس من اختصاص هذه الحكومة إلغاء أية اتفاقيات شرعية سابقة أو تعديلها”، وتابع المشري قائلًا: “نؤكد على احترامنا للاتفاقية الموقعة مع الدولة التركية بشقيها، كما نحترم أية اتفاقيات سابقة في أي مجال وقّعت مع دولٍ أخرى”، وأضاف: “بخصوص تواجد قوات أجنبية على الأراضي الليبية، فهذا مبدأ مرفوض جملةً وتفصيلًا، ولا يجب أن يكون محل نقاش أو مزايدة من أحد، غير أن الجميع يجب أن يعي جيدًا الفرق بين المرتزقة ووجود قوات بناءً على هذه الاتفاقيات المبرمة”.
وفي المؤتمر الصحفي الذي عقد عقب اجتماع المنقوش بنظيرها التركي، الاثنين 3 مايو/ أيار، دعت المنقوش مجددًا “تركيا للتعاون فيما يتعلق بتنفيذ اتفاق وقف إطلاق النار ومخرجات مؤتمر برلين بما في ذلك إخراج القوات الأجنبية والمرتزقة من الأراضي الليبية في إطار دعم سيادة ليبيا”.
وردًّا على تصريحات المنقوش، قال وزير الخارجية التركي مولود تشاووش أوغلو: “إن القوات التركية كانت في ليبيا كجزء من اتفاق تدريب تم التوصل إليه مع إدارة سابقة في ليبيا”، وأضاف: “هناك من يساوي وجودنا القانوني مع مجموعات المرتزقة الأجنبية التي تقاتل في هذا البلد من أجل المال”.
ختامًا
جاءت زيارة الوفد التركي رفيع المستوى (سياسيًّا وعسكريًّا واستخباراتيًّا) للعاصمة الليبية بشكل مفاجئ، بعد عدد من التطورات التي شهدها الملف الليبي محليًّا وإقليميًّا، من أجل تأكيد الحضور التركي في المشهد الليبي، وذلك للحفاظ على مصالح أنقرة الاستراتيجية في ليبيا الممتدة لمنطقة الصراع التركي اليوناني في شرق المتوسط، وذلك بعد تزايد التحركات اليونانية الأخيرة المطالبة بإلغاء اتفاقية ترسيم الحدود البحرية بين تركيا وليبيا، بالإضافة إلى الحضور المتزايد لمصر في الملف الليبي.
كما تهدف الزيارة إلى إخماد الأصوات المطالبة بخروج القوات التركية من الأراضي الليبية، خصوصًا بعد انضمام وزيرة الخارجية الليبية نجلاء المنقوش إلى هذه الأصوات، الأمر الذي ينذر بحدوث انشقاقات داخل الحكومة الوطنية الجديدة، ووجود داعمين لحفتر داخل صفوف حكومة طرابلس.
وأرادت أنقرة من خلال وفدها إيصال رسائل تركية حاسمة لبعض الأطراف المحلية والدولية، وللتذكير باستمرار الدعم السياسي والعسكري للحكومة الليبية الشرعية، الضامن الوحيد لعملية السلام، تزامنًا مع تحركات حفتر المشبوهة التي قد تقود ليبيا مجددًا إلى صراع عسكري داخلي بدعم دولي وإقليمي.