في الـ 30 من أبريل/ نيسان الماضي، جدد الرئيس الفلسطيني محمود عباس أبو مازن طلبه المتكرر إلى الشعب الفلسطيني في الضفة الغربية المحتلة والقدس الشرقية بتفعيل المقاومة السلمية، وذلك كسبيل لمواجهة الاحتلال، وردًّا على تعنته في القبول بإجراء الانتخابات الفلسطينية في القدس الشرقية.
وكعادة الشعب الفلسطيني الذي عوّدنا على المفاجآت والتضحيات، جاء التفاعل مع هذه الدعوة الرئاسية على نحو لا يتوقعه أحد؛ إذ لم تكد تمر 48 ساعة على كلمة أبو مازن، حتى اشتعلت الضفة الغربية المحتلة وعجّت بقوات الاحتلال التي تسعى للقبض على أحد المقاومين بعد نجاحه في تنفيذ عملية فدائية جديدة.
ماذا حدث؟
وفقًا لرواية أحد المستوطنين الذي تصادف وجوده في مكان الحادث ثم تحدث إلى الإعلام راويًا شهادته عن الواقعة، فقد وقع الحادث في غضون الساعة السادسة تقريبًا بتوقيت “إسرائيل”، يوم الأحد الماضي، عند مفرق الزعترة، الذي يعدّ نقطة عبور من شمال الضفة الغربية المحتلة إلى جنوبها وإلى الأراضي المحتلة.
يروي المستوطن: “أذكر أننا كنا نتحدث مع بعض الأشخاص في المحطة، وفجأة سمعت ضجيجًا قويًّا لإطلاق النار. رأيت أصدقائي يسقطون على الأرض، وأذكر أنني طلبت الإسعاف بالفعل. حاول الجميع المساعدة. كنت مستدير الظهر ثم وقعت على رأسي، وعرفت لاحقًا أنهم أطلقوا علينا النار”.
في موقع الحادث، كان هناك قوات من وحدات النخبة الإسرائيلية التي تحمل اسم “سيرت جفعاتي”، بالإضافة إلى عناصر من جهاز الأمن العام “الشاباك”. ويعدّ هذا الموقع من المواقع المحصنة أمنيًّا بتكنولوجيا المراقبة والكوادر البشرية، نظرًا إلى أهميته الاستراتيجية كنقطة عبور، وفي ظل أحداث التصعيد الشعبية التي وقعت مؤخرًا ضد قوات الاحتلال في الضفة والقدس المحتلَّين.
على نحو عدد من العمليات المشابهة التي وقعت في السنوات الأخيرة، استطاع المنفذ النجاة بسيارته وعبور الحاجز الأمني، حيث تقول تقديرات الأمن اليهودي إنه اتجه إلى إحدى قرى جنوب نابلس.
وعلى الرغم من وجود هذه الجوقة العسكرية المستنفرة عند الموقع، تمكّن المنفذ الذي قاد السيارة مسرعًا من النزول إلى الحاجز، وتوجيه سلاحه الشخصي -من نقطة صفر- إلى المستوطنين، مسببًا 3 إصابات لشباب من طلاب إحدى المدارس العسكرية الدينية في “إيتمار”، أحدهم في حالة موت سريري، والثاني وصفت إصابته بالخطيرة، والثالث أصيب إصابة طفيفة.
نقلت نجمة داوود الحمراء (الإسعاف الإسرائيلي) المصابين إلى مستشفى بينسيليون في مستوطنة “بيتاح تكفا”، وعلى نحو عدد من العمليات المشابهة التي وقعت في السنوات الأخيرة، استطاع المنفذ النجاة بسيارته وعبور الحاجز الأمني، حيث تقول تقديرات الأمن اليهودي إنه اتجه إلى إحدى قرى جنوب نابلس.
ردُّ الجيش
بكل المقاييس، تعد هذه العملية فعلًا بطوليًّا وحدثًا استثنائيًّا من ناحية المنفذ، ومؤشرًا على بعض نقاط الضعف الموجودة في قوات الأمن الإسرائيلية من جهة أخرى؛ فهذه الحوادث باتت متوقعة وتدخل في نطاق المألوف بالنسبة إلى شواغل الأمن الإسرائيلي في هذه المنطقة، بعد ما تكررت كثيرًا في الأعوام الماضية.
فكما هو معروف، يتعلم الجنود من الضباط والخبراء أن لكل حيّز جغرافي طبيعة تهديدات معينة، وإجراءات احترازية تتلاءم مع هذه التهديدات، فما يحدث في قطاع غزة المحاصر جنوبًا لا يشابه الوضع الأمني في الضفة والقدس المحتلَّين أو ترتيبات جهة الشمال الملتهبة، وفي الوقت نفسه من المفترض أن قوات الأمن بالفعل في حالة استنفار، على وقع التحذيرات الأخيرة من اضطراب الأوضاع في المنطقة، إلى جانب حيوية موقع الحادث وأهميته.
توعّد الجيش الإسرائيلي على لسان وزير دفاعه بيني جانتس بسرعة القبض على الفاعل، أو الفاعلين، إذ لا تزال الأمور غير محسومة بخصوص عدد المنفذين، وأوكل إلى عدد من الوحدات والأجهزة مثل لواء السامرة وجهاز الشين بيت مهمة التوصل إلى الفاعل، وبدأت في الساعات الأخيرة القيادات الأمنية اليهودية مثل غانتس وكوخافي قائد أركان الجيش بالوفود إلى موقع الحادث، لمساندة الجنود معنويًّا ومتابعة جهود تتبع المنفذ.
وعلى الرغم من مرور أكثر من 48 ساعة على العملية، والدفع بكتيبتين إضافيتين إلى الضفة الغربية المحتلة، وتقدير محللين أمنيين مثل عاموس هرئيل من هآرتس أن اعتقال الفلسطيني لن يستغرق وقتًا طويلًا، بالنظر إلى ازدحام المكان، واكتظاظه بالكاميرات، وخبرة الأجهزة الأمنية في التعامل مع مثل هذه العمليات؛ فإن الجيش لم ينجح في أكثر من تحديد هوية السيارة المنفذة، وذلك بمعاونة أجهزة الأمن التابعة للسلطة الفلسطينية كما أكد مراسل القناة 13 العبرية، والتي خاطر الفلسطينيون بحرقها لطمس أي أدلة تؤدي إلى الفاعل، وما زالت قوات الأمن تمشط المنطقة بعد ترجيح أن المنفذ شخص واحد، يحمل مسدسًا شخصيًّا، وأنه مختبئ في أحد الأماكن بقرية حوارة، بالقرب من حاجز “تفوح”.
سياق مضطرب
تزامنت هذه العملية ونجاح المنفذ في الانسحاب من الموقع وتأخر قوات الاحتلال في الكشف عن هويته بشكل نهائي، مع حالة عامة من التشكيك مؤخرًا في قدرة أجهزة الأمن العبرية، سواء العسكرية أو أجهزة الأمن الداخلي أو قادة المستوى السياسي، على حماية أمن المجتمع الإسرائيلي بالشكل المطلوب.
فبعد أن تمكن صاروخ طائش من تجاوز منظومة الدفاع الجوي الإسرائيلية متعددة الطبقات، اختلف على مصدره وهويته، سوريًّا للدفاع الجوي أو إيرانيًّا باليستيًّا، ليسقط بالقرب من منطقة ديمونا النووية جنوبًا، وقعت كارثة إنسانية في “إسرائيل” يوم الجمعة الماضي، عندما توفي أكثر من 40 شخصًا خلال الاحتفال بإحدى المناسبات الدينية والتي عرفت باسم “حادثة ميرون”.
وضع هذا القرار بجانب عملية زعترة، والتصعيد المحتمل في حي الشيخ جراح، فإنها جميعًا تعد مؤشرات حقيقية على اضطراب الأوضاع في هذه المنطقة.
أعادت هذه الحادثة الجدل من جديد حول سردية ضعف المجتمع الإسرائيلي من الداخل، لا سيما عند الإشارة إلى العجز عن تشكيل حكومة مستقرة منذ وقت طويل، والاتجاه إلى جولة انتخابات جديدة محتملة؛ حيث تنصل محللون إسرائيليون مثل بارون لندن من شعوره بالانتماء تجاه الضحايا، وذلك على الأغلب بسبب ما كشف عن قبول الحكومة بضغط اليهود المتطرفين للاحتفال في هذا الجبل في ظل هذا الوقت المزدحم بالوباء والموقع غير المؤمن جيدًا، بالإضافة إلى رفض نتنياهو تشكيل لجنة تحقيق مستقلة بصفة قضائية، ونيته إسناد التحقيق لمراقب الحكومة المقرب منه.
من زاوية أخرى، فقد جاءت العملية مباشرة بعد قرار الرئيس الفلسطيني الصادم بتأجيل الانتخابات، وذلك لمصلحة مشتركة بينه وبين “إسرائيل”، كما تقول مصادر عبرية؛ إذ يخشى الإسرائيليون من تكرار تجربة عام 2006 التي أفرزت فوز حماس بالانتخابات التشريعية، ما قد يساعد إيجابًا في تعزيز محور المقاومة في هذا التوقيت، ويخشى أبو مازن أيضًا من خسارة الانتخابات على يد أي من خصومه، حماس أو دحلان أو البرغوثي.
لذلك، لجأ ابو مازن إلى التذرُّع بعدم إمكانية إقامة الانتخابات في موعدها الأصلي، 22 من مايو/ أيار الحالي، بسبب عدم وجود حكومة وحدة وطنية توافق على القرارات الدولية، ورفض الاحتلال تصويت أكثر من 6 آلاف فلسطيني مقيم في القدس الشرقية بالبريد، بعد استعداد القوى الوطنية الفلسطينية كافة لهذه الانتخابات.
وإذا وُضع هذا القرار بجانب عملية زعترة، والتصعيد المحتمل في حي الشيخ جراح نهاية الأسبوع على خلفية قرار “إسرائيل” إجلاء عدد من الفلسطينيين خارج بيوتهم وتسليمها للمستوطنين، بالإضافة إلى الاشتباكات المبكرة عند باب العمود، والتي استشعر الفلسطينيون خلالها قدرتهم على الفعل والإنجاز أمام قوات الاحتلال التي رضخت وأزالت الحواجز الأمنية موضع الخلاف؛ فإنها جميعًا تعد مؤشرات حقيقية على اضطراب الأوضاع في هذه المنطقة.
قادم الأيام
حتى مساء الثلاثاء، كانت معظم تقديرات المواقف الإسرائيلية ترجح أن حماس في قطاع غزة المحاصر تقف خلف التصعيد الأخير في الضفة الغربية المحتلة، بما في ذلك عملية حاجز زعترة التي قالت مصادر إسرائيلية إن تتبّع هوية مالك السيارة يشير إلى أنه منتمٍ إلى حماس تنظيميًّا.
ومع ذلك، كانت التقديرات نفسها تستبعد انخراط قطاع غزة المحاصر في التصعيد، بالنظر إلى اختلاف طبيعة هذا الانخراط إذا حدث، والذي يعتمد على الصواريخ والأسلحة الثقيلة، وهو ما يستبعد نظرًا إلى اطلاع حماس على الاعتبارات القومية في “إسرائيل” بعد حادث سقوط المستوطنين من أعلى الجسر، ما يعني أن أي تصعيد في هذا التوقيت قد يقابل بقوة مضاعفة من جيش الاحتلال.
بالإضافة إلى حديث تقارير عن إطلاق أبو مازن أذرعه الأمنية والتنسيقية، مثل حسين الشيخ وماجد فرج إلى الخارج، مصر وقطر تحديدًا، للضغط على حماس لمنع أي تصعيد في هذا التوقيت، فضلًا عن انتظار زيارة مرتقبة من الدبلوماسي القطري محمد العمادي إلى قطاع غزة المحاصر مصحوبًا بحقيبة المساعدات المالية للقطاع قبل العيد، ضمن التفاهمات الإقليمية لاحتواء قطاع غزة المحاصر.
هجوم الأحد على مفرق زعترة يشير إلى حقبة جديدة وبداية محتملة لزلزال يهز الحي بأكمله.
إلا أن هذه التقديرات تبخرت بعد دخول كتائب القسام، الجناح المسلح لحركة حماس والقوة العسكرية الأكبر في قطاع غزة المحاصر، خطَّ التصعيد قبل ساعات على لسان قائدها العام محمد الضيف، الذي أبرق بتحية إلى أهل الشيخ جراح الصامدين، ووعيد لقوات الاحتلال بالتدخل الميداني، إذا مضى الاحتلال في مخططاته لتهجير الحي.
أمام هذه التطورات، تقول تقديرات إن الاحتلال قد يتجه إلى التراجع النسبي المؤقت كما حدث عند باب العمود، وذلك عبر منع مسيرة الأعلام المتطرفة التي تخطط لاقتحام الأقصى بالتزامن مع يوم القدس، والتأثير على القرار القضائي بشكل يعطي مزيدًا من الوقت للسلطات في تنفيذ قرار إخلاء حي الشيخ جراح من الفلسطينيين.
فيما ذهب محللون عبريون مثل أليكس ڤيشمان من يديعوت أحرونوت بعيدًا في التنبؤ بالسيناريوهات السوداء، حيث قدر في تحليل نشر يوم الاثنين، أن “هجوم الأحد على مفرق زعترة يشير إلى حقبة جديدة وبداية محتملة لزلزال يهز الحي بأكمله (…) منذ اللحظة التي أعلن فيها أبو مازن تأجيل الانتخابات، وقد بدأ العد التنازلي في المجال السياسي والنشاط الاحتجاجي الفلسطيني لصراع الخلافة على سلطة عباس”.
وأنه على الاحتلال وفقًا للمحلل نفسه، “تجهيز خطط الطوارئ المعدة من جهاز الأمن العام والجيش للتعامل مع السيناريوهات المحتملة والبدء في تفعيل الإمكانات التي أعدتها “إسرائيل” ميدانيًّا خلال الأعوام الأخيرة، والتنسيق مع الغرب لبحث انتقال آمن للسلطة في اليوم التالي لرحيل أبو مازن”.