على عكس اليسار العالمي الذي ينافس على السلطة في أكثر من بلد، يعاني نظيره العربي من أزمة وجودية معقدة تحول دون انتقاله من موقع الفوضوية الفكرية والتنظير والشعارات إلى دوائر الفعل والبناء عبر برامج مستنبطة من الواقع وملائمة للتحولات الاجتماعية والاقتصادية محليًّا وعالميًّا.
في التقارير السابقة ضمن ملف اليسار العربي، أشرنا إلى أزمة اليسار كطرح سياسي لم يستوعب المتغيرات والأحداث لأسباب عقدية تاريخية وأخرى تنظيمية هيكلية، والأهم من ذلك لم يستمع إلى أصوات الإصلاح والتجديد من أصحاب الفكر الوازن والتاريخ النضالي الذين انتبهوا مبكرًا إلى أن أفكار اليسار التقليدي (اللينيني والقومي) عجزت عن التأقلم والتكيف مع البيئة العربية، على اعتبار أن نسق أدبياته أُغلق أمام محاولات التعديل.
يساريون ضد اليسار
يبدو أن ثورات الربيع العربي كشفت عورات اليسار بمختلف عائلاته الفكرية، ماركسية قومية واشتراكية، الذي عجز عن استثمار الفرصة التاريخية من أجل قيادة التغيير في البلدان التي عرفت حراكًا جماهيريًّا، ومثلت هزيمتهم وانتكاستهم في الانتخابات أولى المؤشرات عن تراجع هذا المكون شعبيًّا.
هذه الهزيمة تعود أولًا إلى الطرح السياسي الذي لم يعد مناسبًا أو مماهيًا للتغيرات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وإلى اقتصار اليساريين على استعداء الإسلاميين في برامجهم الانتخابية وبياناتهم، ورفضهم الوقوف معهم على أرض واحدة تقطع مع منطق الإقصاء الذي يهيِّئ لإعادة إنتاج الدكتاتوريات.
دوغمائية اليسار العربي والخصومة الأيديولوجية التي يروج لها، ساهمت بشكل لا يدع مجالًا للشك في التفاف السواد الأعظم من شعوب الربيع العربي بالإسلاميين وصعود أسهمهم في الانتخابات، وهي خطوة حذّر منها بعض اليساريين المتنورين عبر مناداتهم بضرورة إرساء قواعد التعايش ولما لا التحالف الجزئي والمرحلي.
من جهة ثانية، إن غياب المراجعات النقدية للفكر والممارسة اليسارية في المنطقة العربية كان سببًا في جمود هذا التيار السياسي في المنطقة، والذي انحسرت دائرة فعله في استهلاك ما أنتجه الأوائل من المنظرين والمفكرين، فحتى ثورات الربيع العربي عجز عن استثمارها في إحياء مشروعه السياسي واعتبر الحركة الجماهيرية وتضحية الشعوب مؤامرة إمبريالية تقودها أميركا لتغيّر وجه العالم.
جلبار نقاش
أحد الذين واجهوا النظام التونسي منذ ستينيات القرن الماضي، قضى عقودًا في منفاه بفرنسا محاصَرًا من قبل أجهزة بورقيبة ثم من قبل بن علي، وعاد إلى البلاد بعد الثورة عام 2011، ليكون أول شاهد في جلسات استماع هيئة الحقيقة والكرامة حيث اتهم الرئيس الراحل الباحي قائد السبسي بالإشراف شخصيًّا على تعذيبه، وذلك عندما تولى الأخير مهام وزير الداخلية.
جلبار النقاش كان شابًّا تونسيًّا من أصول يهودية، تأثر بالفكر الماركسي، وانخرط في حركة اليسار الجديد، فتصدى مع رفاقه لهيمنة الحزب الدستوري على الدولة والمجتمع، ورفض زعامة بورقيبة والحكم الفردي.
نشاطه السياسي في الجامعة ورفضه لممارسات بورقيبة الدكتاتورية والسلطوية جعلاه محل مطاردة مستمرة لأجهزة البوليس إلى أن حكم عليه في 16 سبتمبر/ أيلول 1968 بـ 14 سنة قضى منها 10 سنوات في زنزانة تعرض خلالها لشتى أنواع التعذيب النفسي والجسدي، وفي السجن استغل المناضل التونسي فترة وجوده الطويلة لكتابة أولى مؤلفاته “كريستال” على أغلفة علب سجائر لعلامة كريستال التونسية، فكان أولى مؤلفات أدب السجون في تونس.
كما تعرض جلبار للتعذيب والتنكيل خلال حكم زين العابدين بن علي، قبل أن يتم نفيه إلى فرنسا، التي بقي فيها حتى قيام الثورة التي أطاحت بحكم بن علي عام 2011.
وصفه المحلل السياسي التونسي صلاح الدين الجورشي بأنه لم يكن يساريًّا جامدًا أو سلفيًّا مقيدًا بنصوص النظرية الماركسية، لهذا لم يتردد (كما فعل الكثيرون) في القيام بمراجعات أخضع من خلالها النظرية وممارسات فصائل اليسار للنقد والتصحيح، وهو ما جعل جزءًا من رفاقه يوجهون إليه انتقادات لاذعة.
هذه المراجعات دفعت جلبار نقاش إلى أن يكون أقل توترًا في فهمه لصعود الحركة الإسلامية في بلد مثل تونس، وجعلت علاقته بالإسلاميين مختلفة مقارنة بغيره من اليساريين، وهو ما دفع بحركة النهضة إلى أن تصدر بيانًا اعتبرت فيه الفقيد “أحد أهم مناضلي الحريات وحقوق الإنسان على مدى عقود، وشخصية وطنية كان لها السبق في مواجهة الاستبداد”.
توفي جلبار نقاش الذي عُرف بمواقفه المعادية لـ”إسرائيل” وللصهيونية كحركة استعمارية عنصرية، وتنديده خلال عقود بالانتهاكات المتكررة لدولة الاحتلال ضد الفلسطينيين، 26 ديسمبر/ كانون الأول 2020.
سلامة كيلة
ولد كيلة في بلدة بير زيت في الضفة الغربية المحتلة عام 1955، وحصل على البكالوريوس في العلوم السياسية من كلية القانون والسياسة في جامعة بغداد عام 1979، لينتقل سنة 1981 للعيش في سوريا، واشتهر في العقود الثلاثة الأخيرة بكتاباته وتحليلاته الماركسية ونشاطه في أطر يسارية عربية وفلسطينية.
في عام 1992، سجن كيلة لمدة 8 سنوات في سجون النظام السوري بتهمة “مناهضة أهداف الثورة” وتعرض لتعذيب شديد، ليغادر سوريا بعد انطلاق الثورة وطرده من قبل النظام بعد تعرضه للتنكيل والتعذيب.
يعد سلامة كيلة الذي أصدر 30 كتابًا في السياسة والاقتصاد والنظرية الماركسية، من أهم المناصرين للثورات العربية التي ساندها بجوارحه وكلماته، فوصف الحراك الجماهيري بثورة فكر دفعت الشباب الذي لم يعرف السياسة والثقافة عمومًا إلى الانخراط فيها، وهو تطور حاسم.
ويراهن كيلة على أن السنوات القليلة القادمة سوف تشهد التعبير الحقيقي عن هذه الثورات، على اعتبار أن الوعي الذي يتراكم وكذلك الخبرات ستشكل في نهاية المطاف إنتاجًا فكريًّا وسياسيًّا استلهم من الواقع، وسيعالج الأزمات الحقيقية سواء الاجتماعية أو الاقتصادية.
كريم مروة
شخصية المفكر اللبناني تعد وازنة ومتميزة على الصعيدين المحلي والعربي، ولها مكانة في أوساط سياسية وثقافية يسارية وديمقراطية دوليًّا، وعُرف مروة في الساحات السياسية والفكرية والثقافية العربية عضوًا قياديًّا بارزًا في الحزب الشيوعي اللبناني على مدى أربعة عقود، وكاتبًا منظرًا مجتهدًا في قضايا الفكر والسياسة والثقافة والاجتماع من مواقع الفكر والمنهج الماركسيَّين.
أما كتاباته، فما زالت تحظى باهتمام واسع بالنظر إلى ما تحمله من أفكار تتسم بالرصانة والعمق، إلى جانب الجرأة في طرح الجديد منها وانتقاد بعض مما كان سائدًا، وهي في مجملها أفكار تحفز على التغيير وتجاوز الركود والجمود وإنتاج معرفة متأصلة اجتماعيًّا وثقافيًّا.
أما فيما يخص الربيع العربي، فالمفكر اللبناني كريم مروة مال إلى صفوف الثوار ووصف الحراك الشعبي بالحدث التاريخي، ودافع عنه ضد من رفضوا الاعتراف به وصنفوه على أساس المؤامرة، كما أصّل مروة لفكرة أن الثورة هي دعوة جماهيرية في لحظة تاريخية معينة، تثابر للانتقال من وضع بائس قائم في اتجاه شروط أفضل تحرِّر الإنسان من الواقع الذي هو فيه، وهو الواقع الذي فرضته الأنظمة الاستبدادية عليه قهرًا وظلمًا، والذهاب في الثورة نحو مستقبل آخر تتحقق فيه الحرية والتقدم والعدالة الاجتماعية.
وفي سياق ذي صلة، يصنف كريم مروة من مفكري اليسار النادرين الذي أعلن، في وقت مبكر نسبيًّا، اختلافه مع بعض أفكار ماركس ولينين، ورأيه أن بعضها قد شاخ ويجب تجاوزه، ويذهب في قوله إلى أن الأحزاب الشيوعية، واليسار بصورة أشمل، لم تمارس المراجعة والنقد الحقيقيَّين على صعيد الفكر والممارسة، وإن أفكار ماركس وإنجلز ولينين أُحيطت بنوع من التقديس، ما أسّس لحالة الجمود وغياب التحديث والتجديد، التي عانت منها الحركة الشيوعية ومن ثم اليسار على مدى عقود.
أفكار النقاش ومروة وكيلة التنويرية المتجددة التي تلامس أوجاع الشعوب التي أنهكها استبداد وتسلط الأنظمة الشمولية، لم تؤسس لوضع جديد على اعتبار أن المدرسة الفكرية التي ينتمون إليها صدت أبوابها أمام أصوات الإصلاح والمراجعات، وواصلت انحيازها إلى الأنظمة (بشار والسيسي) واستقواءها بالخارج بحجة مقاومة الرجعية والأصولية.
بالمحصلة، إن اليسار العربي من سوريا إلى تونس مرورًا بمصر ولبنان، الذي قدّم نفسه في السابق نصيرًا للبروليتاريا والمهمشين، كشف عن وجهه الحقيقي بتخليه عن مطالب المفقرين وتخلفه عن مقاومة الاستبداد والحكم الشمولي، بل الأنكى من ذلك كله قد قدم اليسار المصري الثوار قربانًا على مذبح حكام العسكر، لذلك كان الربيع العربي لحظة كشف الحقائق ووضع الشاهد على قبر حُفر منذ عقود وكتب عليه: “هنا يرقد اليسار العربي دون سلام”.