لا يقتصر فعل الخير والبذل على تقديم المال أو المواد العينية التي تساهم في عمليات الإغاثة، فقد تعددت الأوجه التي يمكن للإنسان أن يعطي ويقدّم من خلالها للمحتاجين، ومثال ذلك العطاء والعون في الأمور الطبية والصحية، التي تزداد الحاجة إليها يومًا بعد يوم، خاصة في أيامنا هذه وقد دخلنا العام الثاني وجائحة كورونا ترافقنا.
لعل التبرع في المجالات الطبية والصحية من أسمى أشكال العطاء التي يمكن للإنسان أن ينخرط بها، خاصة أنها تساعد في إنقاذ حياة الأشخاص عبر التبرع بالدم أو الأعضاء أو العناية بمريض والتكفل بعلاجه وما إلى ذلك، والأمثلة على ذلك كثيرة، وتاريخنا يروي كيف أن أجدادنا برعوا في هذا القسم من عمل الخير من خلال إقامة المشافي والرعاية بالمرضى والعناية بهم.
لم تقتصر الأوقاف الإسلامية قديمًا على المساجد والتعليم، فبرزت الأوقاف التي تُعنى بالأمور الطبية، إذ أُقيمت “البيمارستانات” وهي بمثابة المستشفيات في أيامنا هذه، وكان لهذه الأوقاف أهمية كبيرة، كما أنها كانت متطورة في شكل البناء والتجهيزات ودور الأطباء فيها، وكان الإنفاق عليها مستمرًا لسد رواتب الأطباء العاملين بها ومساعديهم، ولعلّ أبرزها البيمارستان المنصوري الذي أنشأه السلطان المملوكي المنصور قلاوون في القاهرة سنة 1284.
وفي وصفه للبيمارستان آنف الذكر قال ابن بطوطة: “يعجز الواصف عن محاسنه، وقد أعدّ فيه من المرافق والأدوية ما لا يُحصر، ويُذكر أن مجباه (إنفاقه) ألف دينار كل يوم”، وليس بعيدًا عن هذا فتذكر لنا كتب التاريخ أن بعض الأوقاف الطبية اعتنت بالصحة النفسية لمرضاها حيث توجد وظيفة يقوم بها شخصان يقفان بالقرب من باب المريض الميئوس من حالته، ويتكلمان مع المريض وأنه يتماثل للشفاء وأن حالته ليست مستعصية.
بالطبع فما زالت إلى الأيام فكرة المشافي الخيرية قائمة ويُعتنى بها، لكن مع مرور الوقت وتطور الحياة أصبح للعطاء الطبي أشكالًا نذكر منها:
التبرع بالأعضاء
في خمسينيات القرن الماضي تمت أول عملية تبرع بالأعضاء، فقد أعطى شخص كليته لأخيه، ومع الوقت بات هذا الأمر مألوفًا بل وأصبح من ضمن تشريعات الدول التي تسمح بهذا الأمر، ذلك بأن هذه العمليات تساهم في إنقاذ حياة الناس، والتبرع بالأعضاء يكون إما في حياة الإنسان، فيستطيع أن يتبرع بأعضاء محددة كالكلى وأجزاء من الكبد وغيرها وتتوسع قائمة الأعضاء في حال كان المتبرع قد أوصى بمنح بعض أعضاء جسمه بعد وفاته.
تتعدد ضرورات التبرع بالدم، منها الضرورة الاجتماعية، إذ تعد عمليات التبرع الاختياري المصدر الوحيد للدم
لكن إلى الآن تُعد ثقافة التبرع بالأعضاء عند بعض المجتمعات مرفوضة وكل ذلك بحجج وإشاعات مغلوطة، ولعلّ أهم الأفكار المغلوطة هي الحكم الشرعي والديني، فيعتقد البعض أن هذا الأمر من المحرمات، وفي هذا السياق وصف الشيخ يوسف القرضاوي التبرع بالأعضاء بعد الوفاة بأنه من “أعظم الصدقات عند الله تعالى”، مشيرًا إلى “جواز أن يقوم أهل المتوفى بالتبرع بأعضائه”، مشددًا في الوقت نفسه على ضرورة احترام وصية الميت سواء بالتبرع أم عدمه.
كما أكد القرضاوي أن “شراء الأعضاء البشرية من المؤسسات بغرض زرعها في أجساد المرضى المحتاجين جائز ولا حرج فيه”، لكنه شدد على “عدم جواز شراء الأعضاء من الأفراد، ووضح أنه يجوز زراعة الرحم ولا يجوز زراعة الأعضاء التي تحمل صفات وراثية مثل الخصية والمبيض”، إضافة إلى تناول مجمع الفقه الإسلامي، التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي، في قراره رقم (26) موضوع “انتفاع الإنسان بأعضاء جسم إنسان آخر، حيًا كان أو ميتًا”.
كما أنه لا يوجد سن نهائي محدد للتبرع بالأعضاء، ويستند قرار استخدام الأعضاء الخاصة بالشخص على معايير طبية صارمة، وليس على العمر فقط.
في ذات السياق، يوصي بعض الأشخاص بأن يتم التبرع بجثثهم بعد وفاتهم لمراكز الأبحاث والجامعات للاستفادة منها في الجانب البحثي والعلمي وعمليات التشريح، تبدو هذه الفكرة غريبة ومخيفة للبعض، لكنها فكرة سامية، وعلى الرغم من أن الشريعة الإسلامية تكرّم جثة الإنسان بعد وفاته وتعطي شروطًا واضحة للتعامل مع الجثث، فإن الفتاوى الصادرة تحلل استخدام الجثث بغرض الأبحاث العلمية.
وننقل هذه الفتوى هنا: “في تشريح الجثة لأغراض التعليم مصالح عظيمة وعامة فإنه سبب في إنقاذ حياة الناس والمحافظة على صحتهم وغير ذلك، وعليه فيجوز للمسلم أن يتبرع بجثته لهذا الغرض، وهذا الجواز يتفق مع القواعد الإسلامية العامة فإنها مبنية على رعاية المصالح الراجحة وتحمل الضرر الأخف لجلب مصلحة تفويتها أشد من هذا الضرر”.
التبرع بالدم
تعدّ عملية التبرع بالدم من أفضل أعمال الخير والعطاء ومنتهى العطاء من الإنسان إلى أخيه الإنسان، وطبعًا تختلف المجتمعات في التعاطي مع ثقافة التبرع بالدم، ولأهمية هذا الموضوع فقد أُنشئت بنوك للدم كان أولها عام 1936 وتعد هذه البنوك مخازن لجمع الدم من المتبرعين لحين تقديمه للمرضى في المشافي.
وتتعدد ضرورات التبرع بالدم، منها الضرورة الاجتماعية، إذ تعد عمليات التبرع الاختياري المصدر الوحيد للدم، ويقوم بها الأفراد من تلقاء أنفسهم لضرورات إنسانية علاجية وطبية، والضرورات الاجتماعية تحتم على الإنسان أن يتبرع من أجل من حوله من أسرته ومعارفه، إضافة إلى وجود ضرورات إنسانية وصحية وإغاثية عاجلة.
في كل ركن من أركان العمل الطبي والصحي مجالٌ واسع للبذل والعطاء
التكفل بالأطراف الصناعية
كانت آثار الحروب التي اشتعلت في منطقتنا كارثيةً، فخلقت ندوبًا لا يمكن شفاؤها ومن أصعب القصص والحالات أولئك الذين بُترت أطرافهم وباتوا بلا يد أو قدم، وعلى سبيل المثال في سوريا قال رئيس رابطة الأطباء الدوليين مولود يورت ستفن: “نسب إصابات الساق وبتر الأذرع في سوريا هي الأكبر في العالم منذ الحرب العالمية الثانية”.
ومع ازدياد الحالات يومًا بعد يوم عملت بعض المنظمات والهيئات على تأمين الأطراف الصناعية للأشخاص المصابين، خاصة أن تكلفة الطرف الصناعي مرتفعة جدًا ولا يستطيع الإنسان العادي أن يدفع ويكفل نفسه، ولا ننسى أن التبرع لهذا الأمر يساعد إنسانًا على استعادة جزء من حركته وتجاوز الإعاقة التي ستلازمه طول حياته، من أجل ذلك كان التبرع لمشاريع الاهتمام بالأطراف الصناعية من أهم أشكال العطاء الإنساني.
عيادات الخير
في كل منطقة من هذا العالم يوجد أطباء حملوا على عاتقهم حمل مهنتهم وتطبيقها بوجهها الأمثل، وتقديم النفع والدواء للناس دون مقابل أو بمقابل زهيد، كما يوجد أطباء لديهم سجلات للمرضى الفقراء، فلا يأخذون منهم أجرة بل يمنحوهم مالًا في بعض الأحيان، وفي عالمنا العربي أمثلة كثيرة كان أبرزها “طبيب الغلابة” في مصر محمد مشالي الذي ذاع صيته في الآفاق.
في تقرير سابق لـ”نون بوست” سردنا قصة طبيب الغلابة في سياق تأبينه بعد وفاته، وكانت العبارة التي أثرت بمشالي هي “استوص بالفقراء خيرًا”، كانت هذه الوصية التي وصاها الوالد لولده الذي تخرج حديثًا في كلية الطب، وبينما كانت أسعار الكشف في العيادات الأخرى تتجاوز الـ100 جنيه، كان الرجل ممسكًا على جمر الوصية رغم حرارتها الشديدة في هذا التوقيت الصعب، فبدأ عيادته الخاصة بكشف رمزي يبلغ 5 قروش، زادت بعد سنوات طويلة لتصل إلى 10 جنيهات، ومجانًا لغير القادرين.
الأمر تجاوز رمزية الكشف إلى تقديم يد العون والمساعدة للمحتاجين، فتحولت عيادته إلى جمعية خيرية يقصدها كل من يعاني من عوز أو حرمان، وكان لا يترك سائلًا إلا وجبر بخاطره على قدر استطاعته، هذا بجانب منحه الدواء للعديد من المرضى دون مقابل.
في كل ركن من أركان العمل الطبي والصحي مجالٌ واسع للبذل والعطاء، ولعل التبرع في المجالات الطبية أسمى أنواع الخير لما فيه من إنقاذ للأنفس وحفظ لحياة أشخاص آخرين، وبذلك تتحقق ذروة العطاء الإنساني.