بني شنقول.. السودان يستدعي التاريخ للضغط على إثيوبيا

دخلت العلاقات السودانية الإثيوبية مرحلة جديدة من تعكير الأجواء جراء تباين وجهات النظر بشأن مفاوضات سد النهضة التي وصلت إلى طريق مسدود في ظل تمسك القاهرة والخرطوم بموقفيهما الذي يتهم أديس أبابا بالتعنت لكسب المزيد من الوقت لإنهاء عملية البناء وجعل السد أمرًا واقعًا.
الأيام الماضية بدأ السودانيون في التلميح بإمكانية اللجوء إلى إعادة النظر في سيادة الإثيوبيين على إقليم “بني شنقول” الذي يقام عليه سد النهضة، الذي كان يتبع السودان منذ عهد الدولة المهدية، في القرن التاسع عشر وحتى سقوطه في أيدي الإثيوبيين حين اقتحموا الإقليم واحتلوه عام 1898.
أثارت هذه الخطوة حفيظة أديس أبابا التي وصفت تلك التصريحات بـ”العدائية”، منوهة إلى أنها تأتي في إطار الضغط الممارس على إثيوبيا لإثنائها عن موقفها من مسار التفاوض بشأن الملء الثاني للسد المقرر يوليو/تموز القادم وفق ما أعلنت الخارجية الإثيوبية رسميًا.
استدعاء الخلافات التاريخية بين السودان وإثيوبيا والسجال الإعلامي والسياسي المشتعل بين الدولتين، في ظل تمسك كل طرف بموقفه حيال ملف السد، يضع كل الاحتمالات على طاولة النقاش، وينقلها من حاجز التهديد والضغط الضيق إلى ما هو أوسع وأكبر من ذلك.
“بني شنقول”.. معركة خلافية جديدة
وصف مسؤولون إثيوبيون تمسك السودان ومصر باتفاقات المياه الموقعة قديمًا، بأنه إصرار على الالتزام بـ”اتفاقيات استعمارية” في إشارة إلى اتفاقيتي الحدود 1902 ومياه النيل 1959، وهو ما أثار غضب رئيس مفوضية الحدود السودانية، معاذ تنقو، الذي قال إن عدم اعتراف إثيوبيا بحدود 1902، قد يدفع بلاده إلى التفكير مرة أخرى في استعادة إقليم “بني شنقول” الذي كان تحت سيادته قبل عملية ترسيم الحدود.
الخارجية السودانية دخلت هي الأخرى على خط الأزمة، فقد أصدرت بيانًا رسميًا قالت فيه: “لا نحتاج إلى أن نذكّر إثيوبيا بأن التهاون غير الرشيد في استخدام مثل هذه الدعاوى المضللة والتنصل من الاتفاقيات السابقة، يعني كذلك المساس بالسيادة الإثيوبية على إقليم بني شنقول الذي انتقلت إليها السيادة عليه من السودان بموجب بعض هذه الاتفاقيات بالذات”.
يتهم السودانيون جيرانهم بالتورط في مخطط لتعبئة الرأي العام الداخلي ضد السلطات السودانية، محذرين من أن تلك التوجهات ستسمم مناخ العلاقات الدولية
وأشارت إلى أن ادعاء أديس أبابا بأن تلك الاتفاقيات “إرث استعماري” هو مغالطة صريحة للتاريخ وحقائقه، فقد كانت إثيوبيا وقت توقيع تلك المعاهدات دولة مستقلة ذات سيادة، بينما كان السودان خاضعًا للاستعمار، الأمر الذي يلزم أديس أبابا بما وقعته حين كانت عضوًا في المجتمع الدولي.
وحذرت الخرطوم من أن التوجه الإثيوبي الرامي إلى التنصل من كل الالتزامات التاريخية تحقيقًا لأهداف دعائية سياسية وشعبية، نهج محفوف بالمخاطر، وربما يكون له أبعاد سلبية تعرقل التوصل لاتفاق مرضي لجميع الأطراف، وتدفع بالأمور إلى تجاوز الحدود المقبولة.
السودانيون يتهمون جيرانهم بالتورط في مخطط لتعبئة الرأي العام الداخلي ضد السلطات السودانية، محذرين من أن تلك التوجهات ستسمم مناخ العلاقات الدولية، وتسهم بشكل كبير في إشاعة الفوضى بما يقوض مقومات ومبادئ حسن الجوار التي تأسست عليها العلاقات بين البلدين.
يذكر أن “بني شنقول” وهو الإقليم الذي يحتضن “سد النهضة” كان تحت السيادة السودانية حتى نهاية القرن التاسع عشر حين احتلته إثيوبيا بجانب مناطق أخرى ملاصقه، غير أن الإنجليز الذين كانوا يحتلون الأراضي السودانية في ذلك الوقت توصلوا مع ملك إثيوبيا، منليك الثاني، لاتفاق عرف باسم “معاهدة أديس أبابا 1902” بموجبها يحتفظ الإثيوبيون بالإقليم فيما ينسحبون من بقية المناطق الأخرى التي تم احتلالها.
تلك المعاهدة نصت بشكل صريح على تعهد الإمبراطور الإثيوبي بعدم تشييد أي سدود على النيل الأزرق وبحيرة تانا أو نهر السوباط، يكون من شأنه منع جريان المياه إلى النيل إلا بالاتفاق مع الحكومة البريطانية وحكومة مصر بالسودان، وهي المعاهدة التي تسعى إثيوبيا للتنصل منها والعزف على وتر اتفاقية جديدة لترسيم الحدود بين الجارتين.
إثيوبيا تواصل التعنت
لم يتأخر الرد الإثيوبي كثيرًا، ففي مؤتمر صحفي للمتحدث باسم الخارجية الإثيوبية، دينا مفتي، قال فيه: “ما زالت التصريحات السودانية العدائية مستمرة ولم يكتف السودان بالاعتداء على الأراض الإثيوبية بل انتقل إلى الادعاء بتبعية إقليم سد النهضة”.
مفتي لفت إلى أن “تصريحات السودان بشأن تبعية إقليم بني شنقول أمر مؤسف ونرفضه تمامًا وسنصدر بيانًا مفصلًا حوله”، رافضًا التلويح المصري السوداني بتدويل ملف السد قائلًا: “ما زلنا وسنظل نتمسك بقيادة الاتحاد الإفريقي ولن نقبل بتحركات السودان لربط مسألة الحدود بسد النهضة”.
وكان رئيس الوزراء الإثيوبي، آبي أحمد، قد تعهد مجددًا، بـ”تمسك بلاده بالملء الثاني لسد النهضة خلال موسم المطر المقبل”، مطمئنًا شعبه بقدرته على تجاوز “التحديات التي تواجه بلاده”، معتبرًا خلال رسالة تهنئة بعث بها لمسيحيي إثيوبيا بمناسبة أعياد القيامة أن “منافسي بلاده ومناهضي السلام – على حد وصفه – يحاولون عرقلة أديس أبابا عن نهضتها” دون تحديد هوية المنافسين، وإن كانت التلميحات تشير إلى دولتي المصب.
ورغم التحفظات والمناشدات المصرية السودانية بإرجاء خطوة المرحلة الثانية من ملء الخزان لحين الوصول إلى اتفاق مرضي، فإن الحكومة الإثيوبية أكدت عزمها على الملء بنحو 13.5 مليار متر مكعب منتصف العام الحاليّ، وذلك بعد الانتهاء من المرحلة الأولى التي كانت في يوليو/تموز الماضي، بنحو 5 مليارات متر مكعب.
تستند إثيوبيا في تصعيدها بشأن ملف السد إلى اتفاقية إعلان المبادئ الموقعة عام 2015، التي بموجبها حصلت أديس أبابا على اعتراف رسمي من دولتي المصب ببناء السد، وهو التحرك القانوني الذي يعزز موقفها دوليًا
وساطات دولية
تصارع وتيرة السجال بين مصر والسودان من جانب وإثيوبيا من جانب آخر، دفع بعض القوى للوساطة بهدف التوصل إلى حلول قبل إفلات الزمام واللجوء إلى السيناريوهات الخشنة التي إن تم الدفع لها ستتجاوز تداعياتها النطاق الجغرافي الضيق لأطراف الأزمة.
بالأمس وصل الرئيس الإريتري، أسياس أفورقي، إلى العاصمة السودانية الخرطوم، لمناقشة آخر المستجدات مع السلطات السودانية والبحث عن حلول عاجلة لتبريد درجة سخونة الموقف الملتهب، لا سيما أن تلك الزيارة تتزامن مع تصريحات تصعيدية سودانية تشير إلى أن الخرطوم “تتعامل مع الملء الثاني لسد النهضة باعتباره قضية أمن قومي، تؤثر على حياة ملايين السودانيين”.
تزامنًا مع ذلك، هناك زيارة مرتقبة اعلنتها الخارجية الأمريكية لمبعوثها الخاص للقرن الإفريقي، جيفري فيلتمان، خلال الأسبوع الحاليّ، من المقرر أن تشمل مصر وإريتريا وإثيوبيا والسودان، لبحث تسوية سلمية في المنطقة، وعلى رأسها ملف السد الذي يتصدر بؤرة الاهتمام خلال الآونة الاخيرة.
ورغم العلاقات الجيدة التي تربط بين واشنطن وأديس أبابا، فإن الأخيرة ترفض الوساطة الرباعية التي طالبت بها دولتا المصب وتشمل الاتحاد الإفريقي والأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، بعدما وصلت المفاوضات إلى طريق مسدود، معلنة تمسكها بالوسيط الإفريقي فقط، وهو ما تتحفظ عليه القاهرة والخرطوم معًا.
هل ترضخ أديس أبابا؟
تستند إثيوبيا في تصعيدها بشأن ملف السد إلى اتفاقية إعلان المبادئ الموقعة عام 2015، التي بموجبها حصلت أديس أبابا على اعتراف رسمي من دولتي المصب ببناء السد، وهو التحرك القانوني الذي يعزز موقفها دوليًا، ويعيق أي تحركات مناهضة من الخرطوم والقاهرة حيالها.
وزير الخارجية الإثيوبي ديميكي ميكونين بعث الأسبوع الماضي، رسالة إلى مجلس الأمن الدولي يتهم فيها مصر والسودان بالسعي إلى زعزعة الاستقرار، بحسب وسائل الإعلام الإثيوبية التي أشارت إلى تضمين الرسالة توقيع البلدين اتفاقية عسكرية مشتركة “تتجاوز التهديد بالحرب” بهدف الضغط على أديس أبابا من أجل تدويل الملف عبر تعطيل مسار مفاوضاته.
وعليه أعلنت وزارة الخارجية الإثيوبية “رفض أي محاولات للحفاظ على اتفاقيات الحصة المائية غير العادلة واحتكار دول المصب للنيل”، داعية إلى إنهاء المفاوضات الثلاثية بين أطراف الأزمة وفقًا لاتفاقية إعلان المبادئ، وهو ما كان بمثابة صدمة كبيرة للمفاوض المصري على وجه التحديد.
اللجوء إلى المنصات الدولية ليس الحل الأمثل للقاهرة للحفاظ على حقوقها المائية في ظل الشرعية القانونية التي استمدها المفاوض الإثيوبي منذ 2015، وهو ما دفع السلطات بالتعاون مع الخرطوم للبحث عن وسائل ضغط أخرى أكثر تأثيرًا بعيدًا عن المحافل الدبلوماسية، طويلة الأمد، لا سيما في ضوء عامل الوقت الذي يمثل هو الآخر نقطة ضعف في هذا المسار.
يرى رئيس الحكومة الإثيوبية في مشروع السد القشة التي ستعبر به إلى شاطئ الأمان في ظل تصاعد موجات المعارضة الداخلية والاحتقان الشعبي جراء الأوضاع السياسية والاقتصادية والأمنية المتردية
تراهن إثيوبيا على عامل الوقت لإنهاء المرحلة الثانية من الملء، بحيث يكون السد أمرًا واقعًا، ومن ثم فإن الحديث عن استهدافه عسكريًا حينها سيكون دربًا من الخيال لما قد يترتب عليه من كوارث، لا سيما على السودان، وهو ما يعيه الإثيوبيون جيدًا، لذا فإن سياسة المماطة والتسويف التي أتت أكلها على مدار السنوات العشرة الماضية ستكون الورقة الرابحة لحين الانتهاء من الملء الثاني والثالث.
ردود الفعل الرسمية سواء في الخرطوم أم القاهرة تؤكد التعايش المرحلي مع الأزمة، فقد بدأت تطفو على السطح العديد من التقارير الإعلامية والتصريحات المسؤولة التي تبثها وسائل الإعلام المحلية تحث على التعامل مع الموقف من خلال ترشيد الاستهلاك المائي، والبحث عن بدائل عبر محطات التحلية ومعالجة مياه الصرف الصحي، وهي المؤشرات التي فسرها البعض بأنها قبول ضمني للأمر الواقع.
بعيدًا عن التلويح باستخدام الخيار العسكري حيال التعنت الإثيوبي، وفق الخطاب الشعبي على منصات التواصل الاجتماعي، إلا أن تبعات هذا الخيار ربما تدفع السلطات المصرية للتفكير فيه مليًا، الأمر الذي دفع البعض لاستبعاده مرحليًا من قائمة السيناريوهات رغم استدعائه بين الحين والآخر، لدوافع متباينة.
تستند حكومة آبي أحمد في موقفها المتعنت إلى الدعم الدولي الذي تتلقاه من القوى والكيانات المشاركة في تمويل السد، هذا بجانب ما تمتع به من ثقل قاري خلال السنوات الأخيرة على حساب القاهرة، وهو ما يقلص الخيارات أمام الأخيرة للحفاظ على حقوقها المائية التي تمثل لها مسألة أمن قومي.
يرى رئيس الحكومة الإثيوبية في مشروع السد القشة التي ستعبر به إلى شاطئ الأمان في ظل تصاعد موجات المعارضة الداخلية والاحتقان الشعبي جراء الأوضاع السياسية والاقتصادية والأمنية المتردية، ومن ثم فإن الحديث عن تخليه عن هذه الورقة مسألة صعبة في ظل المعطيات الحاليّة، إن لم يكن هناك بديل قادر على أداء نفس الدور، ومن ثم فإن أي تهديد عسكري من دولتي المصب سيعزز من شعبية أبي أحمد ويقوي جبهته الداخلية التي تعاني بطبيعة الحال من تشوهات وشروخات عدة.
وفي الأخير فإن القاهرة والخرطوم باتا في موقف متأزم أمام التعنت الإثيوبي الواضح، الأمر الذي يدفع إلى ضرورة البحث عن آليات أخرى لإجبار أو إقناع حكومة آبي أحمد بالتعاطي الإيجابي مع التحفظات المصرية في عملية تشغيل السد قبل موعد الملء الثاني على أقصى تقدير.. فهل ينجح الشقيقان العربيان في علاج خطأهما السابق والحفاظ على حقوقهما المائية؟