رمضان موسم تزدهر فيه الطاعات وتتنوع فيه أصناف عمل الخير قبل أن يكون شهر أصناف الطعام، فهو شهر “خير من ألف شهر”، وفي العشر الأواخر من شهر العطاء يتسابق الصائمون في تقديم الصدقات والزكاة لمستحقيها عبر الجمعيات والمنظمات الخيرية أو من خلال الوصول للمحتاجين عبر المعارف والعلاقات الفردية، لكن هناك تساؤل يشغل بال كل متبرع مفاده: كيف يمكن للمتبرع أن يصل إلى المحتاج الحقيقي والأكثر عوزًا؟
تحديد حجم الاحتياج
يسرد المدير التنفيذي للهيئة العالمية للإغاثة والتنمية (أنصر) حمزة العبد الله كيفية تتبع أولويات العمل الإغاثي في المناطق الساخنة، والتي تكون بوجود فريق ميداني على الأرض أو مكتب في المنطقة المنكوبة، بينما في المناطق البعيدة يوجد شركاء محليون، ثم ترسل المنظمة بعثة متخصصة لديها خبرة بالإغاثة العاجلة سواء كانت كارثة أو نزوح، ليتم مسح الاحتياجات التي يصدر من مؤسسات رسمية أو محلية موجودة في المنطقة المعنية.
ويضيف: “بناء على الأرقام يتم التحرك إلى المناطق لتقييم الاحتياجات الإنسانية الأساسية ثم يتم التدخل العاجل للفئة المستهدفة حسب الأولويات”.
آليات معرفة المحتاج الحقيقي
“اختيار المستفيدين موضوع جدًّا حساس لأنهم محور عمل المؤسسة الخيرية”، هذا ما يراه العبد الله عند الإجابة عن آلية معرفة المحتاج الحقيقي التي تخضع لآليات ومعايير تختلف من مشروع لمشروع، ورغم ذلك هناك محددات عامة توضع مع دراسة المشروع تحدد ما هي الآليات التي تضمن وصول الخدمة إلى مستحقيها.
وكما يؤخذ بعين الاعتبار معايير الضعف التي تعطي أولوية للفئة المستهدفة في المشاريع الإغاثية، مثل: عدم وجود معيل، المرأة هي المعيل، عائلات تضم أيتامًا، كثرة عدد أفراد عائلة واحدة، وجود مرضعات أو حوامل، أفراد من ذوي الاحتياجات الخاصة، وجود عجزة.
ويضيف العبد الله أنه يتم جمع بيانات المستهدفين بناء على هذه المعايير، ضمن استبيانات أو أدوات قياس يتم بعدها اختيار الأكثر أولوية.
المراقبة والتقييم
بالتوازي مع تنفيذ المشروع هناك فرق للمراقبة والتقييم، تبدأ قبل البدء في المشروع وتنتهي بعد انتهائه، ما يسهم في دقة الوصول إلى المحتاج الحقيقي، وهذا ما تقوم به سلام محمد مسؤولة المراقبة والتقييم في إحدى المنظمات العاملة في ريف إدلب الشمالي، ومن أبرز مهامها: جمع البيانات المتعلقة بتنفيذ أنشطة المشروع وأدائه، مراقبة تنفيذ أنشطة المشروع، جمع البيانات وإجراء المقابلات مع مختلف المستفيدين وأصحاب المصلحة، التحقق من الآراء والمساهمة في حل الشكاوى، المساعدة في تقييم الاحتياجات وإعداد تقارير المراقبة والتقييم.
كما هناك خطوات بعد تنفيذ المشروع، مثل: جمع المعلومات والدروس المستفادة من تنفيذ المشروع، وإجراء المقابلات الشفهية وجلسات المناقشة المركزة، ومراجعة البيانات، بالإضافة إلى المساعدة في تحليل البيانات.
تبين سلام أنه قد تقع حالات يحصل فيها المحتاج على أكثر من حقه، ويتم معرفة ذلك من خلال: كشوفات الأسماء التي تعتمد على دفتر العائلة والأوراق الثبوتية، عن طريق المشاهدة والملاحظة على أرض الواقع بمتابعة الأعداد وكميات التسليم، وإن تم اكتشاف وجود زيادة في الكمية بالنسبة إلى العدد يتم تقليل الكمية وفق الحاجة.
أسباب التوزيع العشوائي غير المنظَّم
وعلى صعيد آخر، بعض المنظمات الخيرية لا تحرص على تكافؤ الفرص في توزيع التبرعات بين المحتاجين، ولهذا الأمر أسباب كثيرة وضحها الإداري في العمل الخيري والإغاثي محمد رشيد الرشيد، وهي: ضعف خبرة المنظمة القائمة على تنفيذ المشروع، عدم وجود بيانات كافية للمحتاجين، المحاباة بين المستفيدين من حيث قربهم للأفراد القائمين على المنظمة أو صلة تعود لانتماء جَهوي أو عرقي أو حزبي أو فكري، حيث التبرع يكون مبنيًّا على أمر غير صحيح أو دقيق أو يكون توزيعًا غير عادل.
نتائج الجهل بالمحتاج الحقيقي
ومما لا يحمد عقباه هو الآثار المترتبة على عدم معرفة المحتاج الحقيقي، كما وضحها الرشيد: ضياع الفرصة التي تأتي من المتبرع للمحتاج المستحق، عدم إقدام المتبرع على مواصلة تبرعه لهذه المنظمة التي تبرع لها سابقًا، وجود فئات عديدة من المحتاجين الحقيقيين لم تغطيها التبرعات ما يبقي الحاجة موجودة نظرًا إلى انصراف هذه المساعدات لجهات غير محتاجة، وأيضًا تستخدَم التبرعات استخدامًا سيئًا وموظفًا توظيفًا غير مناسب لغاية التبرع، ما يربط التبرع بمصالح شخصية وتحقيق غايات غير صحيحة للتبرع.
إذًا ما هو الحل؟
يدعو الرشيد إلى إثراء الوعي لدى المتبرعين الحريصين بهدف وصول المساعدة لمستحقيها، والتي تكون عبر عدة أمور هي: سمعة المنظمة والخبرة في مجال عملها، وجود الكادر من ذوي الخبرة والمصداقية، وجود خطط مسبقة لتنفيذ المشاريع المتنوعة، وأيضًا وجود المنظمة في مكان المشروع وألا تكون بعيدة عن مكان التنفيذ حتى نضمن معرفتها بالمكان والأشخاص المراد التعامل معهم.
كما يؤكد الرشيد على ضرورة وجود بيانات ودراسات اجتماعية من خلال البحث الميداني للمستفيدين، تكون مقنعة وحيادية وموضوعية في اختيار المستفيدين ووضع الأولويات المطلوبة في تنفيذ العمل الخيري والإنساني، وأن تملك المنظمة الشفافية في التنفيذ بخصوص الأمور المالية والإجرائية ما يعزز الثقة لوصول المساعدة إلى أصحابها.
بناء الثقة بين المنظمة والمتبرِّع
قد تؤدي التجارب غير الإيجابية إلى فقدان المتبرع الثقة بالمؤسسات الخيرية كلها، وهذا يستدعي إعادة بناء الثقة كي يستمر المتبرع بالعطاء بعد أن يطمئنّ أن أمواله ستصرف في المكان الصحيح دون تغوّل، ويحدث ذلك كما أوصى الرشيد من خلال توجيه المتبرع إلى المجال الأفضل لتبرعه، سواء نقديًّا أو عينيًّا، وإن كان لدى المتبرع رغبة محددة يجب على الجهة توضيح المجالات التي ستنفّذ فيها تبرعاته أو تقديم النصح له في توجيه التبرع إلى المكان الأصوب. وكذلك اطلاع المتبرع على خطوات تنفيذ المشروع وغيرها من الإجراءات الضامنة لتنفيذ الأفضل للمشروع من الناحية المالية.
ويتفق العبد الله مع الرشيد حيث يقول: “علاقة المتبرع مع المنظمة تكاملية، فمن المهم تعزيز الشفافية فيما يخص الأرقام والحسابات، وما تأخذه المؤسسة من اقتطاعات إدارية وما توصله للمستفيدين، بالإضافة إلى التقارير والتوثيقات المستندية المالية، والتوثيقات الإعلامية، والتقارير الشاملة عن تنفيذ المشروع للمتبرع”.
كما يدعو العبد الله إلى التنسيق مع المنظمات الأخرى على أكثر من مستوى ومؤسسة، لأن “التنسيق قيمة عليا يحفظ الأرواح، ويختصر المسافات، ويعمل على ترشيد الموارد والتقليل من ازدواجية التنفيذ والوصول بشكل أكبر للمحتاجين، وتعظيم الأثر للمساعدات الإنسانية للمحتاجين”.
تجربة فردية لمعرفة المحتاج الحقيقي
عبد الوهاب محمد (اسم مستعار) ناشط في المجال الإغاثي والإعلامي له تجربة في رصد احتياجات أهل منطقته بريف إدلب في شمال غرب سوريا، يقول: “عندما أزور صديقي صاحب البقالة، أنتبه أن هناك أشخاصًا يشترون بعض حاجياتهم الأساسية مثل الشاي والسكر والزيت والسمنة بمبالغ قليلة جدًّا تعادل 10 سنتات من الدولار، هذه الطريقة توضح لي أن هذا الشخص محتاج، فلو كان معه قيمة الكيلو لاشترى بكل تأكيد”.
يكمل تجربته: “المشتري المحتاج لا يعلم إني أوزع إغاثة، وأقوم بسؤاله عن عمله واحتياجاته، فيتضح لدي تفاصيل قاسية في معيشته مثل بيت مهترئ أو وجود نساء أرامل، وقد اكتشفتت وجود نساء يعشن وحدهن دون والدين”.
ثم يضيف: “أقوم بتسجيل أسمائهم وكذلك هم يدلونا على أشخاص آخرين محتاجين، كما أنني ابن المنطقة ما يجعلني أعرف الأشخاص الذين هم محتاجين أم يدّعون الحاجة، وأتأكد من ذلك في الحي الذي يقيم فيه المحتاج قبل توزيع أي إغاثة”.
ويؤكد عبد الوهاب أن هناك تضاربًا في المعرفة الحقيقية للمحتاج مع المنظمات الإنسانية التي تعمل في المنطقة: “هناك بعض المناطق غير مغطاة بالمساعدات الإنسانية، بالإضافة إلى ذلك وجود حالات من المحتاجين يعملون باليوم بأجر لا يتجاوز 1.5 دولار، ولديهم أكثر من 10 أطفال لكن لا تعطيهم المنظمات الإنسانية مساعدات غذائية أو غيرها لأنهم بنظرهم ليسوا بحاجتها، على اعتبارهم يقيمون في منازلهم ولديهم عمل”.
ويلفت عبد الوهاب النظر إلى أن المساعدات الفردية لها أثرها ضمن إطار العلاقة الاجتماعية في الرقعة الجغرافية الصغيرة، حيث يمكن معرفة المحتاجين الأكثر حاجة إلى ضروريات العيش.
يضاعف الله مثوبة الأعمال الصالحة في رمضان، على أن المرء إن فاته البذل في الشهر الفضيل لظرف أو ضائقة، فثمة 11 شهرًا تضج أيامها بالمحتاجين والمستحقين، ينتظرون بدورهم أولائك الذي يسارعون بالخيرات، في كل شهر.