في الـ3 من مايو/آيار الحاليّ تداول عدد من رواد مواقع التواصل الاجتماعي صورًا تكشف تغيرًا واضحًا في صياغة اللوحات الإرشادية المؤدية إلى المدينة المنورة، فقد أزيلت عبارة “للمسلمين فقط” التي كانت تتعلق بمنع دخول المدينة لغير المسلمين، واستبدلت بعبارة أخرى “حدود الحرم”.
الصور المنشورة أثارت العديد من التساؤلات عن مستقبل المدينة المقدسة التي تحتضن قبر النبي عليه السلام ومسجده وعشرات المآثر النبوية، التي كانت تعتبر الديانة الإسلامية شرطًا أساسيًا للدخول على غرار مكة المكرمة، فضلًا عن تأثير ذلك على قيمتها ومكانتها الروحية لدى المسلمين.
البعض تعامل مع الأمر على أنه تحرك يأتي في إطار سياسة انفتاح المملكة على الثقافات الأخرى، وهي الإستراتيجية التي وضع ولي العهد، محمد بن سلمان، لبناتها الأولى منذ 4 سنوات، في محاولة لتقديم صورة جديدة لنفسه، كونه الأمير الإصلاحي القادم من بعيد ليطمئن الغرب بشأن المخاوف التي تساوره حيال ما يسميه “التشدد الديني”.
الإعلام السعودي حاول تبرير ما حدث بالإشارة إلى أن الحظر التاريخي لغير المسلمين مفروض فقط على حدود الحرم المدني، حيث دُفن النبي صلى الله عليه وسلم وعدد من صحابته وعائلته، أما بقية مناطق المدينة فيمكن دخولها من الجميع، مستشهدًا بعدد من المناطق المفتوحة أمام غير المسلمين منها العلا وينبع ومهد الذهب.
وبعيدًا عن الموقف الشرعي من هذه الخطوة، فإن إزالة تلك العبارة الشهيرة، ذات المغزى الديني والمجتمعي، بعد عشرات السنين من الإبقاء عليها، والتخلي عن خصوصية المدينة وفتحها أمام الجميع، رسالة تحمل الكثير من الدلالات وتجعل الباب مفتوحًا أمام خطوات شبيهة.
تغيير صياغة اللوحات الإرشادية على طريق المدينة المنورة في المملكة العربية السعودية من اللافتة الحمراء المكتوب عليها ( للمسلمين فقط) لتصبح لافتة باللون الأخضر التقليدي مكتوب عليها ( إلى حد الحرم). ويُفهم من ذلك أن كل المناطق متاحة لغير المسلمين عدا حدود الحرم فقط. pic.twitter.com/dd7SZmHLbQ
— ahmed elbaz (@ahmedelbaz25) May 4, 2021
البداية
إرهاصات هذه الخطوة تعود إلى عام 2019 حين دعت السعودية عددًا من مواطني 49 دولة لزيارة مناطقها التراثية، غالبيتهم دول غير مسلمة، كإحدى إستراتيجيات الترويج السياحي والتعريف بمقومات المملكة، لكن كانت هناك معضلة، كيف يمكن لهؤلاء دخول المناطق التراثية بالمدينة على سبيل المثال؟
اللوحات الإرشادية التي كانت موضوعة وقتها كانت تخصص طرقًا محددةً للمسلمين فقط وأخرى مفتوحة أمام الجميع، وكان الطريق المسموح به لغير المسلمين يطلق عليه في القديم “طريق الخواجات” ويقود إلى خارج حدود الحرم النبوي بمسافة قدرها الفقهاء بنحو 3 كيلومترات.
ومن هنا بدأ الحديث عن الصورة السلبية التي يمكن أن تصدرها تلك العلامات التي تخصص مناطق معينة لا يجوز دخولها إلا للمسلمين، وضرورة إعادة النظر في تلك اللوائح والتنظيمات التي تحدد هذا الأمر، من أجل تصحيح الصورة المشوهة عن المملكة والاتهامات التي تتعرض لها بدعوى التشدد والتطرف الديني.
ثلة من الباحثين الليبراليين العرب وبعض الداعمين لهم داخل المملكة بدأوا في الترويج لضرورة إزالة تلك اللوحات، تعزيزًا لروح التسامح الذي تنشده السعودية في السنوات الأخيرة، وعليه جاءت الفتاوى والآراء الدينية من كبار العلماء بجواز دخول المدينة لغير المسلمين.
خلال السنوات الأخيرة منذ تولي ابن سلمان مقاليد الأمور الفعلية عقب الإطاحة بولي العهد السابق، محمد بن نايف، شهدت المملكة تغييرات اجتماعية خطيرة وإصلاحات أثارت الكثير من الجدل
فها هو الداعية السعودي صالح المغامسي، يرى أن منع دخول غير المسلمين للمدينة ليس من قواعد الشريعة الإسلامية، بل أمر مستحدث لا يعدو كونه تنظيمًا إداريًا لأسباب قديمة، بعضها لم يعد موجودًا اليوم، قائلًا في حديث له “لم يقل أحد فيما أعلم أنه لا يجوز دخول غير المسلمين المدينة، لأنه لا يوجد دليل منع”، الرأي ذاته ذهب إليه عضو هيئة كبار العلماء الشيخ صالح الفوزان، الذي أجاب عن سؤال بشأن حكم دخول غير المسلم حرم المدينة، بالقول: “لا باس أن يدخلوا، إنما منعوا من الدخول في الحرم المكي”.
كما استدعى أنصار هذا التوجه فتاوى سابقة لعلماء المملكة الراحلين، منهم فتوى الشيخ محمد ابن عثيمين في الفروق بين حرم مكة والمدينة، حيث قال: “سادسًا: تحريم دخوله من الكافر والمشرك، فلا يجوز أن يقرب المشركون المسجد الحرام، بخلاف المدينة فإنه يجوز أن يدخلها الكافر، وقد مات النبي – صلى الله عليه وسلم – ودرعه مرهونة عند يهودي في نفس المدينة”.
كذلك فتوى مفتي السعودية الأسبق الشيخ عبد العزيز ابن باز في كتابه “مجموع الفتاوى” حين قال: “لا حرج في دخول الكافر المسجد إذا كان لغرض شرعي وأمر مباح، كأن يسمع الموعظة أو يشرب من الماء أو نحو ذلك، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أنزل بعض الوفود الكافرة في مسجده، ليشاهدوا المصلين ويسمعوا قراءته وخطبته عليه الصلاة والسلام، وليدعوهم إلى الله من قريب، ولأنه ربط ثمامة بن أثال الحنفي في المسجد لما أتي به إليه أسيرًا”.
الأمير المنفتح
تيار ليس بالقليل بدأ في الترويج إلى أن إنهاء ممارسة عشرات العقود من منع غير المسلمين دخول المدينة خطوة تحسب لولي العهد الذي استطاع في وقت قصير أن يطوع الدعوة بما تنسجم مع التسامح الديني والانفتاح على العالم، وهي الفلسفة التي تقوم عليها عالمية الإسلام، وفق معتقد أنصار هذا التيار.
خلال السنوات الأخيرة منذ تولي ابن سلمان مقاليد الأمور الفعلية عقب الإطاحة بولي العهد السابق، محمد بن نايف، شهدت المملكة تغييرات اجتماعية خطيرة، وإصلاحات أثارت الكثير من الجدل، كونها تهدم المرتكزات الوطنية التي استندت إليها البلاد منذ نشأتها.
فتح المدينة أمام غير المسلمين لن تكون الخطوة الأخيرة التي يخطوها ابن سلمان لتأكيد صورته الإصلاحية الانفتاحية لمخاطبة ود الغرب، الأمر ربما يتجاوز ذلك إلى المقدسات، سواء في مدينة الرسول أو مكة المكرمة
نجح الأمير الشاب خلال الأعوام الثلاث الأخيرة تحديدًا، في تقليم أظافر المؤسسة الدينية المتمثلة في “هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر” التي كانت تتمتع بنفوذ كبير في السابق، فأعاد هيكلتها وزج بكبار العلماء والمشايخ في السجون والمعتقلات، ووضع على رأس الهيئة من يضمن ولاءهم وعدم خروجهم عن السياق العام الذي رسمه بنفسه.
الإصلاحات وإن كان ظاهرها السماح للنساء بقيادة السيارات ودخول ملاعب كرة القدم وفتح دور السينما والسماح بإقامة الحفلات الغنائية الصاخبة وتقزيم دور ونفوذ الهيئة الدينية، إلا أنها تحمل في مضمونها رسالة أعمق من ذلك، فالأمير الذي يتعرض لانتقادات داخلية وإقليمية ودولية حادة، يريد أن يرسم صورة تجميلية له، على أمل أن تمحو معها آثار الانتهاكات الحقوقية التي يمارسها في الداخل والخارج.
متى تفتح مكة أبوابها لغير المسلمين؟
بات واضحًا أن ابن سلمان يتعامل مع حكم المملكة بطريقة ميكافيللية بحتة، فكل الطرق مباحة، ولا حرج في تقديم التنازلات، حتى لو كان ذلك على حساب مكانة البلاد إقليميًا ودوليًا، فالكرسي هو الغاية التي تُبرر لأجلها الوسائل كافة، ومن ثم فالحديث عن الثوابت درب من الخيال في عقيدة ولي العهد الجديدة.
استمدت السعودية ثقلها الدولي من كونها بلاد الحرمين وعاصمة المسلمين “السنة تحديدًا”، كما كان يعزف الكثير من حكامها وعلمائها على وتر أنها “قبلة العالم الإسلامي” و”رمانة ميزانه” “وكان شيوخها قبلة طلاب العلم من كل بلدان العالم الإسلامي.
لكن الوضع لم يعد كما كان، إذ أطاح ابن سلمان بتلك المرتكزات، فقزم المؤسسة الدينية، أحد أبرز أضلاع المملكة، وضرب بجدران المحافظة والتدين عرض الحائط، هذا بخلاف تورطه في بحار من دماء المسلمين التي سالت بسبب سياساته، سواء في الداخل عبر ملاحقة المعارضين له كما هو الحال مع جمال خاشقجي، أم في الخارج كما هو الوضع في اليمن.
وأمام تلك الأجواء السوداوية لم يجد الأمير الطامع في الكرسي حرجًا في مواصلة السير في هذا الاتجاه، بهدف تقديم أوراق اعتماده لدى حكومات الغرب، ففتح خزائن المملكة أمام إدارة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب لحمايته من الانتقادات والملاحقات الموجهة ضده، وها هو اليوم يواصل تقديم قرابين الولاء والطاعة للحاكم الجديد الذي كشر عن أنيابه مبكرًا، فوضع ولي العهد في حجمه كوزير للدفاع وليس حاكمًا فعليًا للبلاد كما كان يتعامل سلفه.
فتح المدينة أمام غير المسلمين لن تكون الخطوة الأخيرة التي يخطوها ابن سلمان لتأكيد صورته الإصلاحية الانفتاحية لمخاطبة ود الغرب، الأمر ربما يتجاوز ذلك إلى المقدسات، سواء في مدينة الرسول أم مكة المكرمة، في ظل منظومة دينية تدعم كل تحركاته وتصبغها بصبغتها الدينية.