ترجمة وتحرير: نون بوست
في أواخر الشهر الماضي، أجرى وليّ العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان مقابلة مطوّلة استمرت لـ 90 دقيقة على قناة “روتانا” المملوكة للدولة مع الإعلامي عبدالله المديفر. وخلال هذه المقابلة، تحدّث ولي العهد بإسهاب عن الإنجازات التي حققها حتى الآن وما يجب القيام به مستقبلا، وقد كان حديثه بشأن تطوير كفاءة الوزارات والهيئات الحكومية السعودية مثيرا للإعجاب.
ولا يختلف اثنان على أن الدولة السعودية بحاجة إلى إصلاحات إدارية جذرية لتتمكن من تنفيذ الخيارات الحكومية بكفاءة أكبر. تحدث الأمير محمد بن سلمان أيضا عن التوجهات الدينية في خضم الإصلاحات التي يعتزم القيام، مؤكدا أن دستور المملكة يقوم على القرآن والأحاديث النبوية وهو ما ينص عليه النظام الأساسي للمملكة.
وفي سياق شرح السياسة الدينية المستقبلية للبلاد، تحدث ولي العهد عن أمرين فاجأ بهما على الأرجح المؤسسة الدينية التقليدية في البلاد.
أولا، قوله إن الدولة رغم التزامها بالسنة النبوية، إلا أنها لا تأخذ دستوريا إلا بالأحاديث المتواترة، أي تلك التي تم تداولها من قبل عدد كبير من الرواة عبر الأجيال لدرجة أنه من غير الممكن أن تكون موضوعة.
وخلافا لذلك، فإن الأحاديث التي لا ترقى إلى هذا المستوى من اليقين، لن تطبقها الحكومة إلا بالقدر الذي يخدم مصالح الشعب السعودي.
أما التصريح الثاني الذي من المؤكد أنه أثار حفيظة المؤسسة الدينية التقليدية، فهو إعلانه أن المملكة لن تكون ملزمة بعد الآن بالتقيد بالمدرسة الوهابية. ودون انتقادها بشكل صريح، أكد ولي العهد أن التمسك بالوهابية يتعارض مع مبادئ الشريعة الإسلامية، حيث أن الإسلام لا يعترف بأي وسطاء بين البشر والخالق ولا يمنح مكانة خاصة لآراء وفتاوى أي عالم دين، بل ذهب إلى القول بأن مؤسس الوهابية لو كان على قيد الحياة اليوم، لكان أول من رفض فكرة غلق باب الاجتهاد والالتزام الصارم بآرائه.
التقيد بالأحاديث المتواترة
رغم أن هذه الآراء قد لا تبدو مهمة بالنسبة لشخص غير مطلع على مذاهب الفقه الإسلامي واللاهوت، فإنها تشكل وجهة نظر ثورية، وفي الآن ذاته قد لا يكون لها أي تأثير عملي.
عندما يتحدث ولي العهد عن التقيد بالأحاديث المتواترة التي لا تقل في درجة صحتها عن النص القرآني، فإنه يتجاهل حقيقة أنه لم يتم تناقل أي حديث على نطاق واسع إلى درجة تضاهي تواتر نقل القرآن.
ولهذا السبب، ميّز الفقهاء بين نوعين من الأحاديث المتواترة: الأحاديث التي نُقلت لفظها على نطاق واسع، والأحاديث التي نُقل معناها على نطاق واسع.
لتقديم مثال بسيط على ذلك، يتعلم كل مسلم حديث “إنما الأعمال بالنيات”، ولكنه لم يكن بصيغته المعروفة حديثا متواترا، بل نُقل من راوٍ واحد فقط، ثم من قبل راوٍ آخر خلال الجيل التالي، ثم أصبح منتشرا على نطاق واسع في الجيل الثالث وما بعده.
في الواقع، تؤكد أحاديث وآيات قرآنية كثيرة على أهمية النية الحسنة في الإسلام، لكن الفقهاء يصنفون هذا الحديث ضمن أحاديث الآحاد المتواترة تواترا معنويا وليس لفظيا، أي التي لم تثبت نسبتها بلفظها إلى النبي بشكل قاطع، رغم أن معناها صحيح.
ودون توضيح ما إذا كانت الدولة السعودية ستلتزم فقط بالأحاديث المتواترة تواترا لفظيا، فمن المرجح أن ولي العهد يريد القول إن السنة النبوية قد فقدت فعليا أي دور في نظام الحكم السعودي، أو بعبارة أخرى، أن المملكة ستلتزم فقط بالمبادئ العامة للسنة النبوية.
التخلي عن الدعوة الوهابية
يقودنا ذلك إلى نقطة مهمة أخرى في حوار بن سلمان، وهي طبيعة العلاقة بين الدولة السعودية والدعوة الوهابية، وهي في الأساس حركة دينية كانت تدعو للتوحيد الخالص الذي لا تشوبه شائبة.
ومن أخطر ما كرسته المدرسة الوهابية، هو تحويل كل خلاف ديني، مهما بدا صغيراً، إلى قضية إيمان وكفر. وقد اعتقد أتباع الفكر الوهابي أن عدم الأخذ بالنصوص الدينية – حسب فهمهم لها – يرقى إلى درجة الشرك بالله.
على هذا النحو، قام “الوهابيون” بتكفير الغالبية العظمى من المسلمين، وتبنوا عقيدة “الولاء والبراء”، والتي تعني معاداة الكفار ومن والاهم من المسلمين.
لقد تسبب تعصب الحركة الوهابية في إثارة الكثير من الفوضى في العالم الإسلامي، وإذا كانت الحكومة السعودية ترغب حقًا في طي صفحة الوهابية، فلا بد لها أن تبذل جهودا أكثر وضوحا في النأي بنفسها عن هذه العقيدة التي ترفض مبدأ التعددية بين المسلمين، ناهيك عن رفضها بقية الأديان.
لا تتوافق الرؤية الحداثية التي يدعو إليها ولي العهد في القضايا الدينية – والتي كان رواد حركة الإصلاح مثل رشيد رضا، أول من دعا إليها ورأوا في المملكة مكانًا مناسبا لتحقيقها مع أسلوبه الاستبدادي في إدارة الحكم
سيكون التخلي عن الفكر الوهابي – إذا تم تنفيذه – أمرا جيدا بلا شك، لكن الكثيرين يريدون أن تكون هناك مقاربة أشمل لنبذ تلك المذاهب التي ترفض التعايش مع “الآخر” من مسلم وغير مسلم.
رؤية حديثة
أخيرًا، يبدو أن هناك نوعا من التناقض بين دعوة ولي العهد السعودي لتجديد الخطاب الديني والحد من الالتزام بالنصوص النبوية لفائدة المصلحة العامة، وبين التضييق على الحقوق الشخصية والحريات السياسية. لقد طالب الحداثيون في العالم الإسلامي منذ أكثر من قرن من الزمان بتجديد الخطاب الديني، لكن مع اختلاف جوهري واحد مع نظرة بن سلمان، وهو أن تلك المقاربة كانت تتضمن أيضا مشاركة أكبر لعامة الناس في الحياة السياسية من خلال تطبيق الديمقراطية.
في الواقع، كانت الأنظمة العربية المستبدة على استعداد لقبول الطرح الحداثي في شقّه الديني، إلا أنها أصرّت على رفض الدعوات المستمرة لإرساء الديمقراطية. وقد انتهى الأمر بالكثير من علماء الدين الذين تبنوا سابقا الرؤية التي أشار إليها ولي العهد، إما وراء القبضان أو متهمين بدعم الإرهاب، لأنهم كانوا متمسكين في الآن ذاته بمطلب الإصلاح السياسي.
ولا يختلف نهج الأمير محمد بن سلمان في الحقيقة عن نهج الحكام العرب المعاصرين، حيث يسعى لتنفيذ إصلاحات اجتماعية دون توفير مساحة للمشاركة العامة في الحياة السياسية، ولا يبدو أنه يدرك أن حلمه ببناء دولة سعودية حديثة تقود شعبها إلى الازدهار لا يمكن تحقيقه إلا من خلال المشاركة الفعالة للمواطنين السعوديين في إدارة شؤون البلاد.
وعلى الرغم من اعترافه بأن نجاح رؤية 2030 يقتضي مشاركة فاعلة من الشعب السعودي، إلا أنه لم يدرك أهمية الدور الحاسم الذي تلعبه المؤسسات الديمقراطية في خلق التوافق الاجتماعي المطلوب لتنفيذ هذه الرؤية الطموحة على أرض الواقع.
على صعيد عملي، لا تتوافق الرؤية الحداثية التي يدعو إليها ولي العهد في القضايا الدينية – والتي كان رواد حركة الإصلاح مثل رشيد رضا، أول من دعا إليها ورأوا في المملكة مكانًا مناسبا لتحقيقها – مع أسلوبه الاستبدادي في إدارة الحكم.
في النهاية، لن نستطيع أخذ هذه الدعوات على محمل الجد إلا بعد اعتراف الأمير محمد بن سلمان بحق المسلمين في أن يحكموا أنفسهم بأنفسهم سياسيًا.
المصدر: ميدل إيست آي