ترجمة وتحرير: نون بوست
قبل أسبوعين، هزت أعمال العنف القدس حيث اجتاحت مجموعات من المتطرفين الإسرائيليين الأحياء الفلسطينية في القدس الشرقية، وهم يهتفون “الموت للعرب“. وشق المتطرفون طريقهم عبر المدينة ورشقوا منازل الفلسطينيين بالحجارة واعتدوا على المارة المشتبه في كونهم عربا أو يساريين، حتى أنهم أوقفوا السيارات على طول الطريق الرئيسي بين الشمال والجنوب الذي يفصل القدس الغربية عن القدس الشرقية للتحقق مما إذا كان السائقون يهودا أم عربا، حيث تعرّض السائقون العرب لضرب مُبرح.
اندلعت الاضطرابات في 13 نيسان/ أبريل، أي في بداية شهر رمضان، عندما أغلقت السلطات الإسرائيلية الأبواب المؤدية إلى باب العامود الشهير في المدينة القديمة في القدس الشرقية الفلسطينية. وقد أدت هذه الخطوة التعسفية على ما يبدو إلى اندلاع اشتباكات استمرت عدة أيام بين المتظاهرين الفلسطينيين وقوات الأمن الإسرائيلية.
تسبب قرار الإغلاق في اندلاع موجة غضب عارمة في صفوف الفلسطينيين في القدس الشرقية، الذين تعرضوا لسنوات من التهميش والتجريد من الجنسية على يد الحكومة الإسرائيلية ولم يتبق لهم سوى القليل من المساحات في مدينة أصبح فيها القضاء المنهجي على المؤسسات الوطنية والمدنية والثقافية الفلسطينية بمثابة سياسة حكومية. كانت الحملة القمعية التي شنتها الشرطة، بشكل غير مفاجئ، من جانب واحد، مما أدى إلى اعتقال وضرب العديد من الشباب الفلسطينيين بينما أفلت المُعتدون اليهود إلى حد كبير من العقاب.
من جهته، أدان وزير الأمن العام الإسرائيلي أمير أوحانا، عضو حزب الليكود الذي يتزعمه رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، الهجمات التي يشنها الفلسطينيون على اليهود. في المقابل، لم يشر إلى قيام متطرفين إسرائيليين يهود بمهاجمة الفلسطينيين في القدس. في الواقع، تُذكرنا هذه المشاهد بموجة الهجمات التي شنها مستوطنون إسرائيليون يهود متطرفون في وقت سابق من هذه السنة على الفلسطينيين في الضفة الغربية المحتلة، التي وقف خلالها الجنود الإسرائيليون مكتوفي الأيدي.
كان رد فعل واشنطن تجاه أعمال العنف صامتا بشكل ملحوظ. ففي الوقت الذي هاجم فيه المتطرفون الإسرائيليون اليهود الفلسطينيين في القدس، أصدرت وزارة الخارجية الأمريكية بيانا عاما صدمت به كلا الجانبين، حيث رفضت “خطاب المتظاهرين المتطرفين الذين كانوا يرددون شعارات حاقدة وعنيفة” ودعت فيه إلى التزام الهدوء. في المقابل، فشلت وزارة الخارجية الأمريكية في تحديد هوية المتطرفين أو أهدافهم.
تستلهم كل من منظمة لاهافا وحزب عوتسما يهوديت تعاليم مئير كاهانا، الحاخام المتطرف المولود في بروكلين الذي تحول إلى سياسي إسرائيلي، والذي دعا إلى طرد الفلسطينيين
ومن المثير للدهشة أيضا أنه لا يكاد يكون بوسع عضو واحد في الكونغرس حشد إدانة عامة للعنف الذي يرتكبه المتطرفون اليهود الإسرائيليون، ولا سيما بالنظر إلى ردود فعلهم المعتادة عندما تندلع أعمال العنف من قبل الفلسطينيين. في المقابل، لا شيء من ذلك كان مفاجئا. في الواقع، مازالت واشنطن تنكر بشدة تنامي اتجاه التطرف في السياسة والمجتمع الإسرائيليين، وهو الواقع الذي أدى إلى تمكين وتأجيج هذا الاتجاه. كان المحرضون الرئيسيون على الحشد المتطرف في القدس ينتمون إلى منظمة “لاهافا” الصهيونية، وهي منظمة يهودية متعصبة أصبحت أكثر نشاطا خلال العقد الماضي.
بعد تحريض من أعضاء الكنيست المتطرفين، وهم ايتمار بن جبير وبتسلإيل سموتريش من حزب عوتسما يهوديت (القوة اليهودية) وحزب الصهيونية الدينية، نزلت عصابة لاهافا إلى الشوارع “لاستعادة الكرامة اليهودية”، على حد تعبيرهم، من خلال مهاجمة العرب واليهود اليساريين. في الحقيقة، تستلهم كل من منظمة لاهافا وحزب عوتسما يهوديت تعاليم مئير كاهانا، الحاخام المتطرف المولود في بروكلين الذي تحول إلى سياسي إسرائيلي، والذي دعا إلى طرد الفلسطينيين من “إسرائيل”.
قبل اغتياله في سنة 1990، وقع حظر حزب كاهانا السياسي، المعروف باسم كاخ، وفروعه المختلفة في “إسرائيل” بسبب التحريض على العنصرية، كما صنّفته وزارة الخارجية الأمريكية على أنه منظمة إرهابية أجنبية. في المقابل، يخطط متطرفون يهود إسرائيليون للقيام بأعمال التحريض السنوية في احتفال “يوم القدس العالمي” في المسجد الأقصى هذا الأحد، في ليلة القدر، التي تُعدّ أقدس ليلة في التقويم الإسلامي. ومن المتوقع أن يأتي ما يصل إلى 25 ألف شخص إلى الموقع المقدس، حيث تتجمع أعداد غفيرة من المصلين الفلسطينيين المسلمين عادة في الأيام الأخيرة من شهر رمضان.
لقد تحولت السياسة الإسرائيلية بشكل مطرد إلى اليمين لسنوات عديدة، وهو اتجاه أصبح أكثر وضوحا مع كل جولة من الانتخابات. ولولا النفوذ الاستقطابي لنتنياهو نفسه، لكان الكنيست الحالي يتمتع بأغلبية يمينية ساحقة لا تقل عن 72 مقعد من أصل 120 مقعد. في الواقع، كانت “إسرائيل” تخطط بشكل دائم لإجراء الانتخابات طيلة السنتين الماضيتين، بالتزامن مع محاربة نتنياهو من أجل الحفاظ على مكانته السياسية، حيث لم تُفض سوى إلى سيطرة اليمين على السياسة الإسرائيلية.
في واشنطن و”إسرائيل”، تلاشى التصور التقليدي لليسار الإسرائيلي بسبب العنف المكثف للانتفاضة الثانية، وهي الانتفاضة الفلسطينية التي استمرت من سنة 2000 إلى مطلع سنة 2005. ولكن، كان صعود اليمين الإسرائيلي في طور التكوين لفترة طويلة. ومنذ عودة نتنياهو إلى السلطة في سنة 2009 بعد أن تولى رئاسة الوزراء في التسعينات، تحركت الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة على نحو مطرد إلى اليمين، حيث أصبح رئيس الوزراء الإسرائيلي المحاصر يعتمد أكثر فأكثر على النفوذ المتزايد لأحزاب اليمين المتطرف والمؤيدة للاستيطان للحفاظ على ائتلافه الحاكم.
في شأن ذي صلة، توسط نتنياهو نفسه في الصفقات التي أعادت الأعضاء الموالين لحزب كاهانا المحظورين في السابق إلى البرلمان بين سنتي 2019 و2021. وأصبح المتطرفون الذين كانوا في يوم من الأيام على هامش السياسة الإسرائيلية يتولون الآن مناصب السلطة في الكنيست والحكومة. ويتبع الرأي العام الإسرائيلي اتجاهات مماثلة. فقد وجد استطلاع أجراه مركز بيو للأبحاث سنة 2016 أن 48 بالمئة من اليهود الإسرائيليين يوافقون على عبارة “يجب طرد العرب أو نقلهم من إسرائيل”.
كان التأييد مرتفعا بشكل خاص في صفوف الأرثوذكس (71 بالمئة) والمتدينين (59 بالمئة). وتنعكس هذه اللا ليبرالية المتزايدة أيضا في إقرار قانون الدولة القومية لسنة 2018، وهو إجراء شبه دستوري ينص على أن الحق في تقرير المصير في “إسرائيل” يخص اليهود فقط، مما يعزز مكانة 1.2 مليون مواطن فلسطيني في إسرائيل كمواطنين من الدرجة الثانية حتى لا يُبدوا ردة فعل إزاء 4.5 مليون فلسطيني الذين يعيشون تحت الحكم الإسرائيلي في الأراضي المحتلة دون التمتع بأية حقوق مدنية أو سياسية على الإطلاق.
مسؤولي الولايات المتحدة في حقبة ما قبل ترامب كانوا يستنكرون بلهجة معتدلة مثل هذه الإجراءات. في المقابل، كان البيت الأبيض يعطي فعليًا عمليات الإخلاء الضوء الأخضر من خلال تفضيل عدم التدخل
في الحقيقة، تعد جرائم العنف التي تُرتكب في القدس مجرّد تذكير بأن لهذه السياسات انعكاسات على الحياة الواقعية. ففي ظلّ حكم نتنياهو، تضخّم عدد سكان المستوطنات الإسرائيلية من 490 ألف شخص إلى أكثر من 700 ألف شخص خلال السنوات الاثني عشر الماضية. بكل الطرق، تحاول الحكومات اليمينية المتعاقبة الملتزمة بتحقيق حلم “إسرائيل الكبرى”، إغلاق الباب أمام كل فرص حلّ الدولتين المتفاوض عليه، وترسيخ واقع الدولة الواحدة القائمة بين نهر الأردن والبحر الأبيض المتوسط، وهو ما يعد بمثابة إمكانية لفرض إسرائيل سيطرتها على حوالي خمسة ملايين فلسطيني عديمي الجنسية والمحرومين من حقوقهم.
دفع هذا الأمر بمنظمات حقوق الإنسان الإسرائيلية والدولية إلى استنتاج أن “إسرائيل” مذنبة بارتكاب جرائم فصل عنصري. في الوقت نفسه، تُحرز المشاريع التي كانت تعتبر في السابق خطوطا حمراء، مثل ما يسمى بمستوطنات “يوم القيامة” في القدس وإزالة مجتمعات بأكملها في القدس وأجزاء من الضفة الغربية، في الوقت الراهن تقدما جيّدا. خلال هذا الأسبوع، أُجبر حوالي 87 فلسطينيًا من 18 عائلة على الخروج من منازلهم عُنوة في حي الشيخ جراح في القدس الشرقية، مما أدى إلى اندلاع جولة أخرى من العنف التي استغلّها المتطرفون الإسرائيليون مرة أخرى. بينما أدان المسؤولون الأوروبيون والبريطانيون عمليات الإخلاء الوشيكة، التزمت إدارة بايدن الصمت بشكل مريب.
من المحتمل أن مسؤولي الولايات المتحدة في حقبة ما قبل ترامب كانوا يستنكرون بلهجة معتدلة مثل هذه الإجراءات. في المقابل، كان البيت الأبيض يعطي فعليًا عمليات الإخلاء الضوء الأخضر من خلال تفضيل عدم التدخل. عموما، لطالما لعبت الولايات المتحدة دورا مركزيا في نمو اليمين الإسرائيلي المؤيد للاستيطان والمناهض للفلسطينيين.
بالإضافة إلى ذلك، وُلد كل من كاهانا والحركة التي أنشأها في الولايات المتحدة. كما كان أشهر تلاميذ كاهانا، باروخ غولدشتاين، ذلك الطبيب اليهودي المولود في بروكلين، الذي ارتكب سنة 1994 مذبحة المسجد الإبراهيمي في مدينة الخليل الفلسطينية، التي أودت بحياة حوالي 29 فلسطينيًا. وفي الوقت الراهن، يعلّق بن غفير صورته في على جدران منزله.
اليوم، ترتبط منظمة ليهافا الإسرائيلية، التي لا تزال مصادر تمويلها غير معروفة وغامضة، بالمثل بشبكات الدعم في الولايات المتحدة. مع ذلك، على الرغم من الروابط الشخصية والمؤسسية والمالية القوية بين حزب القوة اليهودية ومنظمة ليهافا وحركة كاخ، فقد تمكنت المجموعتان حتى الآن من الإفلات من أي تدقيق جاد من قبل سلطات إنفاذ القانون الأمريكية.
على الرغم من أن الاتجاهات السياسية الإسرائيلية لطالما كانت تنعكس على السياسة الأمريكية المحلية، إلا أن التوافق المتزايد بين اليمين الإسرائيلي المتشدد والأمريكي متين بشكل خاص. ولم يكن ذلك واضحا بشكل جيد سوى خلال إدارة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، التي عملت بجد للتخلص من الأعراف الدولية وتعزيز استمرار احتلال إسرائيل للضفة الغربية ومستوطناتها هناك.
على سبيل المثال، لم يخف السفير الأمريكي السابق لدى إسرائيل، ديفيد فريدمان والمهندس الرئيسي لسياسات ترامب، دعمه للمستوطنات الإسرائيلية، بما في ذلك في أكثر المناطق الحساسة في القدس الشرقية. كما أنه لم يخف ولاءه الأيديولوجي للمستوطنين المتطرفين. كان استعداد الإدارة السابقة للنظر في حرمان حوالي 250 ألف مواطن فلسطيني في القرى المتاخمة للضفة الغربية من حقوقهم كجزء من خطة ترامب المقترحة للسلام، وهو المطلب الذي لطالما نادى به اليمين الإسرائيلي المتطرف، والذي يهدف بالأساس إلى تقليص الأثر الديموغرافي العربي في البلاد، مثيرا للاستياء.
شجّع عدم وجود أيّة قيود أو عواقب مجدية للسلوك الإسرائيلي القادة الإسرائيليين على اتخاذ مواقف متطرفة ومتشددة بشكل متزايد
من جانب آخر، لعب الكونغرس دورًا في إضفاء الشرعية على الأصوات الإسرائيلية المتطرفة، سواء من خلال الفشل في إدانتها أو محاسبتها، كما يفعلون بشكل روتيني مع الفلسطينيين، أو من خلال الترحيب بقادة المستوطنين الإسرائيليين في مبنى الكابيتول هيل. وتضفي حقيقة مشاركة المتطرفين المرتبطين بحركة كاخ في الانتخابات الإسرائيلية، وانتخابهم للكنيست، دون ظهور أية ردّ فعل من أي شخص في الكابيتول هيل، الشرعية بشكل مباشر على المتطرفين الإسرائيليين وموافقهم.
لا تزال الأصوات المتطرفة، سواء في السياسة الإسرائيلية أو الأمريكية، قادرة على تشكيل السياسة والخطاب السياسي من خلال تغيير مرمى الأهداف السياسية والدبلوماسية للولايات المتحدة حتى عندما لا يقع إشراكهم في عملية صنع السياسات. على سبيل المثال، بات يُنظر إلى القضايا التي كانت مسألة إجماع من الحزبين خلال إدارتي كلينتون وجورج دبليو بوش مثل إنهاء الاحتلال الإسرائيلي والتأكيد على مركزية خطوط 1967 كأساس للمفاوضات، من قبل الكثيرين على أنها مثيرة للجدل إلى حد كبير أو خارج حدود ما هو مقبول.
يمكن أن تفسر هذه الاتجاهات صمت بايدن النسبي وعزوفه عن إيجاد حلّ للقضية الإسرائيلية الفلسطينية. في الوقت الراهن، هناك تكاليف سياسية متزايدة مرتبطة باتخاذ مواقف لم تكُن تعتبر ذات يوم مثيرة للجدل. في هذا الصدد، أثار قرار إدارة بايدن الأخير بإعادة حزمة مساعدات الولايات المتحدة المتواضعة إلى حد ما والتي تخضع للتدقيق الشديد بالنسبة للفلسطينيين وتعد ضئيلة نسبيا مقابل الأموال الأمريكية المخصصة لـ “إسرائيل”، عاصفة غضب الجمهوريين في الكونغرس.
باعتبارها أكبر مموّل لـ “إسرائيل”، ينبغي على الولايات المتحدة أن تتخذ المزيد من الإجراءات لمكافحة التطرف المتنامي في “إسرائيل”. ويمكن أن تشمل الإجراءات المحتملة إصدار إدانة عامة بسيطة لبدء تحقيقات لإنفاذ القانون في الجماعات المتطرفة الإسرائيلية وشبكات دعمها في الولايات المتحدة. إذا لزم الأمر، يمكن لواشنطن أن تُصنف رسميًا مجموعات مثل ليهافا والشركات التابعة لها على أنها من المنظمات الإرهابية، والحرص على ضمان عدم استفادتهم من الإعفاء الضريبي على الصعيد المحلي.
في المقابل، يتمثّل أهم شيء يمكن أن تفعله واشنطن في التوقف عن منح القادة الإسرائيليين الضوء الأخضر لأنشطتهم الاستيطانية. فقد غذّى عزوف واشنطن عن تحميل “إسرائيل” المسؤولية عن أيّة تجاوزات، سواء فيما يتعلق بانتهاكات حقوق الإنسان ضد الفلسطينيين أو التوسع الاستيطاني المستمر أو هدم المنازل أو الإخلاء أو غير ذلك من الانتهاكات، مع الاستمرار في حماية “إسرائيل” من تكاليف وعواقب أعمالها على المستوى الدولي والشعور بالإفلات من العقاب لدى القادة الإسرائيليين والمتطرفين اليمينيين المتطرفين الذين تعزز نفوذهم وتنامت مُباهاتهم بالانتصار.
بقدر ما يمكن للمستوطنين الإسرائيليين المتشددين مهاجمة الفلسطينيين دون خوف من العقاب، شجّع عدم وجود أيّة قيود أو عواقب مجدية للسلوك الإسرائيلي القادة الإسرائيليين على اتخاذ مواقف متطرفة ومتشددة بشكل متزايد. ولكي تتغير كل هذه المعطيات، سيحتاج المسؤولون الأمريكيون إلى إجراء بعض البحث الجاد حول الدور الذي يضطلعون به في تأجيج نيران الكثير من الصراعات.
المصدر: فورين بوليسي