ترجمة وتحرير نون بوست
في 13 آذار/ مارس، حطم سعر البيتكوين رقما قياسيا جديدا متجاوزا 60 ألف دولار بعد أن كان أقل من 10 آلاف دولار السنة الماضية. يبدو أن أول عملة رقمية في العالم باتت أكثر من أي وقت مضى أداةً مضاربة تستجيب بشكل أساسي لمساعي البحث عن الثراء.
إن آلية عمل بيتكوين مختلفة بشكل جذري عن الأدوات النقدية والمالية البديلة القائمة على الاعتراف بفائدة الترابط بين الأنشطة الاقتصادية والجهات الفاعلة في المجتمع، على غرار أنظمة التبادل المحلي، والعملات المحلية التكميلية المتكافئة مع العملات الوطنية، أو العملات الفيدرالية، أو أنظمة الائتمان بين الشركات، أو العملات الضريبية.
تم إطلاق هذه العملة الرقمية في سنة 2009 في أعقاب الأزمة المالية، ويبدو أنها حادت عن تحقيق وعدها الأصلي المتمثل في إعادة القوة إلى المستخدمين من خلال ضمان إدارتها من خلال التكنولوجيا وليس من قبل سلطة مركزية (بنك مركزي، دولة، مؤسسة).
إن استخدام البرمجيات الحرة في تعدين البيتكوين لم يجعلها “مشاعا عاما”. ولعل ما يميز المشاع العام عن السلعة العامة هو حقيقة أن ملكيتها ليست جماعية (وهو ما يميزها عن السلعة الخاصة) كما أن استخدامها وطرق إدارتها تقتضي الاعتراف والمشاركة من جانب أصحاب المصلحة. بعبارة أخرى، يمكن القول إن بيتكوين مورد مشترك يخضع للإدارة الجماعية. وإلى جانب تزايد المضاربة نتيجة ارتفاع أسعارها خلال الأشهر الأخيرة، تُظهر العديد من الحجج أن عملة البيتكوين ليست مشاعا عاما.
منطق الانكماش المالي
تعد ندرة البيتكوين جزءًا من عملية تعدين العملة منذ البداية، وذلك يعود إلى صعوبة تعدينها بالكمبيوتر، وهو ما يفسّر ارتفاع سعر كل وحدة مُصدرة مقابل انخفاض عدد الوحدات المتاحة سنويًا.
إذا زاد الطلب على البيتكوين بسبب الندرة الناتجة عن طريقة تعدينها، وفي حال عمد من يملكونها إلى تخزينها دون إجراء معاملات لتبادل السلع والخدمات، يمكن أن يرتفع سعر وحدة البيتكوين من الناحية الهيكلية فقط. يعني ذلك أن البيتكوين تمثل جزءًا من منطق الانكماش المالي.
مع ارتفاع سعر البيتكوين، ينخفض سعر السلعة إذا جرى تقييمها بعملة البيتكوين لمعرفة المبلغ الذي يجب دفعه للحصول عليها. عند التفكير من منطلق البيتكوين، قد يولد ذلك لدينا انطباعا بانخفاض الأسعار، لكن عند تحويلها إلى الدولار أو اليورو، قد تظل الأسعار المطلقة والنسبية دون تغيير
استجابةً لهذا الانخفاض الاسمي وللتعبير عن أسعار أصغر بشكل متزايد، تم تقسيم فئة البيتكوين أيضا. ولكن من الواضح أن هذا الانخفاض لا يؤثر على الأسعار. قد لا يكون التأثير الانكماشي رمزيا لأن استثمارات البيتكوين باتت أكثر قوة. ولا يتم تعدين البيتكوين فقط بناء على الطلب من أجل استخدامها في التداول.
غالبًا ما تتم مقارنة ندرة بتكوين بالذهب، لكن هاتين القيمتين مختلفتان تمامًا.
غالبًا ما تتم مقارنة ندرة البتكوين بالذهب، لكن للمعدن الثمين استخدامات صناعية وحرفية محددة. ولا تعد عملة بيتكوين من العملات الملموسة، لذلك قد لا تكون هناك حدود لانهيارها على عكس المعادن الثمينة أو الأوراق المالية التي لها أثر ملموس في الواقع.
عملة استثمارية
لا تتمتع القروض الائتمانية التي تكون بهدف زيادة الاستهلاك والإنتاج بأي تأثير انكماشي. وهناك فرق كبير بين تعدين البيتكوين والائتمان المصرفي أو تمويل العجز العام. فعندما يتم استخدام الأموال المتحصل عليها عن طريق الائتمان لإنفاقها بغرض الاستثمار والاستهلاك، يؤدي ذلك إلى توزيع الإيرادات الذي قد يكون له أثر تضخمي إذا كان العرض الكلي للسلع والخدمات أقل من الطلب. ولكن لهذا الإنفاق تأثير في زيادة الطاقة الإنتاجية ومستوى النشاط والمبادلات التجارية.
في حالة البيتكوين، فإنه بصرف النظر عن إيرادات مزود الكهرباء والمنصات التي تجرى عن طريقها المعاملات بهذه العملة الرقمية – طالما يتم تحويلها وإنفاقها ولا يتم الاحتفاظ بها – فإن هذا لا يولّد أي دائرة اقتصادية ديناميكية مماثلة لتلك الخاصة بالائتمان المصرفي أو الدين العام. لذلك، من المستحيل أن تلعب البيتكوين دورًا في إنعاش الاقتصاد أو نموه.
مع البيتكوين، نحن نتبع بالأساس منطق أموال الاستثمار والشهرة التجارية من خلال ارتفاع الأسعار دون إحداث أي تأثير حقيقي وفوري في الاقتصاد؛ باستثناء توليد الثروة لمن يستثمر فيها. في المقابل، يمكن أن ينجر عن استنزاف الموارد وتركيزها في آليات المضاربة على حساب الاقتصاد الإنتاجي العديد من الآثار الانكماشية التي تطال النظام الاقتصادي بأكمله.
يُغذّي بيتكوين السيولة الزائدة للأنظمة المالية التي تحتفظ بها برامج البنك المركزي، وإصدار النقود من قبل البنوك التجارية. وكلما زاد وزن البيتكوين في منطق الاستثمار اكتسبت أهمية أكبر، وهذا ما سيؤدي بدوره إلى امتصاص السيولة التي تم إنشاؤها في مكان آخر، وهو ما سيزيد من تأثيرها الانكماشي.
عملة مشفرة ملوثة للغاية
يتم تعدين البيتكوين عن طريق أجهزة متخصصة في حلّ المعادلات التي تزداد تعقيدًا بمرور الوقت للحد من عدد وحدات العملة المتاحة، مع العلم أن عملية “التعدين” تنطوي على زيادة في استهلاك الكهرباء.
وفقًا لمؤشر كامبريدج لاستهلاك البيتكوين للكهرباء، يصل الاستهلاك السنوي للبيتكوين إلى 128 تيراواط في الساعة أي ما يعادل 0.6 % من استهلاك الكهرباء العالمي (وهو يساوي استهلاك بلد مثل النرويج أو الأرجنتين). بلغ استهلاك الكهرباء في شركة غوغل 12.2 تيراواط في الساعة في سنة 2019، بينما وصل استهلاك جميع مراكز البيانات حول العالم، باستثناء تلك التي تستخرج البيتكوين، حوالي 200 تيراواط في الساعة.
لا تكمن المشكلة في استهلاك الكهرباء في تعدين البيتكوين فقط، بل في حقيقة أنه يمكن استغلال هذه الكهرباء في إنتاج سلع وخدمات ذات أثر حقيقي، خاصة أن أكثر من 800 مليون شخص في العالم اليوم لا يحصلون على الكهرباء.
في إيران، على سبيل المثال، حيث تطور إنتاج البيتكوين بشكل غير قانوني، يُعتقد أن مزارع التعدين هي سبب الانقطاعات المستمرة في التيار الكهربائي، وهو نفس النشاط الذي قام به الجيش الفنزويلي مؤخرًا. وفي الصين، عندما تنضب الطاقة المتولدة من السدود خلال مواسم الجفاف يتحول الاعتماد إلى الكهرباء المنتجة في شمال البلاد من الفحم البني أو اللّيجنيت – وهو أحد أكثر أنواع الفحم المعروفة تلويثًا للهواء والذي يتسبب في معاناة الصينيين من نسب تلوث عالية.
يصل الاستهلاك السنوي للبيتكوين الآن إلى 128 تيراواط في الساعة، وهو ما يعادل استهلاك بلد مثل النرويج.
تخالف عملية إنتاج البيتكوين مبدأ تبادل المعرفة الذي تقوم عليه مبادئ إدارة الأملاك العامة، حيث تعتمد عملة البيتكوين على كفاءة مزدوجة مناسبة للبعض: تلك المتعلقة بالعالم المالي وتقنيات الكمبيوتر، ولا سيما الخاصة بتشفير المعلومات.
البيتكوين عملة حصريّة في أيدي قلة من الناس
على غرار التمويل المفرط المعاصر، فإن ملكية البيتكوين حصرية للغاية. يمكننا التحدث عن احتكارها في أيدي قلة. بحلول ربيع سنة 2021، من بين ما يقرب من 100 مليون مالك لبيتكوين، ستستأثر ثلاث محافظ على 7.18 بالمئة من جميع عملات البيتكوين الحالية. وما بين مليون ومليوني عملة بيتكوين تنتمي إلى منشئها الوحيد ساتوشي ناكاموتو (أو المجموعة المنشئة المتخفية وراء هذا الاسم).
يقال إنّ ما يزيد قليلاً عن 100 حساب فردي يمتلك 13 بالمئة من إجمالي حسابات البيتكوين (يبلغ إجمالي قيمتها حوالي 80 مليار دولار). وسيحوز ألف فرد أو كيان، يشار إليهم باسم الحيتان الكبيرة، 40 بالمئة من عملات البيتكوين (أي ما يعادل 240 مليار دولار). وتشير بعض المصادر إلى أن هذه الحيتان الكبيرة تتوافق مع 2500 حسابا. ملكية البيتكوين الحصرية هذه، التي يبدو من الصعب تغييرها، تتعارض مع أي فكرة لإدارة المشاعات للاستخدام المشترك.
يمكننا أيضًا أن نلاحظ أن ملكية جزء كبير من عملات البيتكوين تعود إلى عدد محدود من الأشخاص ما يمنحهم القدرة على المضاربة لرفع الأسعار أو خفضها، هذا إلى جانب أولئك الذين يضاربون من أجل عمليات الثراء الآجلة، بينما يفضل البعض الآخر انتظار تحقيق مكاسبهم لاحقًا، ولن يتغير ذلك إلا إذا اتخذت السلطات النقدية والمالية، بتحريض من السلطات السياسية، قرارات لتنظيم هذا السوق.
ربما تُعزى الزيادة الحادة الأخيرة في سعر البيتكوين إلى المساعدات التي وزعتها الحكومة الأمريكية على الأسر. بالنسبة للبعض، كان من الممكن لهذه المساعدة أن تلبي الاحتياجات الحقيقية: سداد ديونهم لقروض الرهن العقاري والنفقات الطبية والتعليم. لذلك، أسندت هذه المساعدة إلى النظام المالي، الذي كان سيتكبد خسائر كبيرة لولاها.
أما بالنسبة للآخرين، بعد أن انخفضت فرص إنفاقهم بسبب الإغلاق، سخّروا المبالغ التي تم توفيرها جزئيًا لتوسيع محافظ عملات البيتكوين؛ وهو ما ساعد على زيادة سعرها. وبناء على ذلك وحسب العديد من وجهات النظر الأخرى، لا تعد عملة البيتكوين تمويلًا بديلاً لأنها جزء جيد وحقيقي من إمبراطورية السيولة واضطراباتها الدورية.
المصدر: ذا كونفرسيشن