يقترب التوتر المتصاعد في حي الشيخ جراح بالقدس من الانفجار في خضم معركة قضائية محتدمة بشأن مصير عائلات فلسطينية مهددة بالإجلاء لصالح مستوطنين إسرائيليين لم تتوقف استفزازتهم بحق أهالي الحي منذ بداية شهر رمضان.
كان من المقرر أن تصدر المحكمة العليا الإسرائيلية، الخميس، قرارًا نهائيًا بخصوص إجلاء 4 عائلات فلسطينية من الحي لصالح مستوطنين يدعون ملكيتهم للأرض، إلا أنها أعلنت عقد جلسة جديدة، الإثنين القادم.
وحتى اليوم، تلقت 12 عائلةً فلسطينيةً بالحي قرارات بالإخلاء، صدرت عن محكمتي الصلح والمركزية الإسرائيليتين، ويشهد حي الشيخ جراح، منذ أكثر من أسبوع، مواجهات شبه ليلية، بين الشرطة الإسرائيلية وسكان الحي الفلسطينيين والمتضامنين معهم.
ويحتج الفلسطينيون على قرارات صدرت عن محاكم إسرائيلية بإجلاء عائلات فلسطينية من المنازل التي شيدتها عام 1956، وتزعم جمعيات استيطانية إسرائيلية أن المنازل أقيمت على أرض كانت مملوكة ليهود قبل عام 1948.
وكانت المحكمة المركزية في القدس قد قضت في وقت سابق من العام الحاليّ بإخلاء أربعة منازل يسكنها فلسطينيون يقولون إن لديهم عقود إيجار معطاة من السلطات الأردنية التي كانت تدير شرق القدس بين 1948 و1967، تثبت ملكيتهم للعقارات في الحي.
وجاء ذلك دعمًا لمطالبة مستوطنين يهود بملكية هذه المنازل بدعوى أن عائلات يهودية عاشت هناك وفرت في حرب عام 1948 عند قيام دولة “إسرائيل”.
وأثار قرار المحكمة غضب الفلسطينيين الذين طعنوا فيه، وأدت احتجاجاتهم في كثير من الأحيان إلى صدامات مع الشرطة، وطلبت المحكمة من الطرفين التوصل إلى تسوية.
كانت وزارة الخارجية الأردنية قد نشرت وثائق تخص 28 عائلةً في الحي الذي كان يخضع للسيادة الأردنية كسائر شرق القدس والضفة الغربية قبل أن تحتل “إسرائيل” هذه الأراضي عام 1967، وجاء نشر هذا الوثائق لدعم موقف الفلسطينيين في القضية.
وتسعى الجمعيات اليهودية المطالبة بالأملاك حاليًّا إلى إخلاء منازل 58 فلسطينيًا آخرين، وفقًا لمنظمة “السلام الآن”، ويقول الفلسطينيون إن خطر الإخلاء يهدد بشكل عام نحو 500 فلسطيني.
ويعيش في شرق القدس المحتلة أكثر من 200 ألف مستوطن بين 300 ألف فلسطيني، ويعتبر الاستيطان غير قانوني بموجب القانون الدولي.
أهمية المنطقة
لكن، ما أهمية حي الشيخ جراح، المنطقة المتنازع عليها التي يحذر كثيرون من تحولها إلى نكبة جديدة قد تفضي إلى حرب؟ كان حي الشيخ جراح من أول الأحياء الجديدة نشأة خارج سور البلدة القديمة، وكان الحي المفضل لعائلة الحسيني التي شكلت كبرى العائلات القيادية في المجتمع الفلسطيني باعتبار النسب والموقع، وتقول الإحصاءات العثمانية إن منطقة الشيخ جراح ضمت 167 عائلةً بحلول عام 1905.
ساكنت الحسينيين عائلات النشاشيبي والجار الله، ومع انطلاق الحركة الوطنية الفلسطينية وتنافس العائلات التقليدية على قيادتها تحول حي الشيخ جراح إلى المركز السياسي للقدس، ففيه كان بيت المفتي الحاج أمين الحسيني وبيت منافسه رئيس البلدية راغب النشاشيبي، وكان بيت المفتي منطلق مسيرات ومظاهرات في مناسبات متعددة.
وقد اتخذت دول عربية وغربية كثيرة من الحي مقرًا لقنصلياتها انطلاقًا من ذلك، واستمرت مكانة هذا الحي نسبيًا كونه مقرًا لبيت الشرق ومدرسة دار الطفل العربي ومسرح الحكواتي، وفق ما يقول الباحث المهتم بشؤون القدس زياد أبحيص.
فضلًا عن هذا كله، فإن هذا حي يعتبر من أكثر المناطق ازدهارًا في القدس المحتلة، خاصة في الجزء العلوي الذي يضم الفنادق والمطاعم والمقاهي ومؤسسات المجتمع الدولي.
ويضيف أبحيص في منشور له على فيسبوك “هذه الخلفية تعني أن القضم الاستيطاني المتتالي لحي الشيخ جراح بالسيطرة على بيت المفتي وكرمه ثم حي كرم الجاعوني يهدف إلى تقويض مركز الحضور السياسي الفلسطيني في القدس، بل وتحويله بالمقابل إلى مركز حضور صهيوني ببناء مقرات حكومية مثل القيادة القطرية لحرس الحدود التي استهدفها الشـهـيد مصباح أبو صبيح في عمليته في 2016”.
وبالفعل، وضعت الحكومة الإسرائيلية مؤخرًا على طاولة التنفيذ في المرحلة الحاليّة ثلاثة مشاريع تهويدية لمدينة القدس المحتلة تطال مصادرة أحياء فلسطينية كاملة وتشريد سكانها.
مخططات كبيرة
يتصدر كل من حي الشيخ جراح وحي سلوان واجهة المشهد الاستيطاني في ظل تسارع وتيرة القرارات الإسرائيلية بإخلاء منازل فلسطينية وهدم أخرى.
ويخطط الاحتلال لمصادرة نحو 40% من أراضي حي الشيخ جراح في القدس المحتلة، ضمن مخطط استيطاني تهويدي.
ففي مارس/آذار الماضي، صادقت بلدية الاحتلال الإسرائيلي في القدس المحتلة، على إنشاء موقع تهويدي يتضمن نصبًا تذكاريًا لجنود كتيبة في لواء المظليين في الجيش الإسرائيلي، بحي الشيخ جراح، وبحسب موقع “واللا” الإسرائيلي “ستقام نقاط مراقبة وبناء مدرج صغير”، ووفقًا لبلدية الاحتلال، فإن هذا المشروع الاستيطاني يقضي ببناء موقع لتخليد ذكرى جنود كتيبة المظليين 71 الذين قُتلوا خلال احتلال القدس عام 1967.
ووفقًا للمخطط، سيتم تسييج المنطقة وإنشاء بوابات ومواقع مراقبة باتجاه “مواقع المعارك” ومقاعد للجلوس، كما سيبنى مدرج ومسرح، ويمول ما يسمى بـ”الصندوق الدائم لإسرائيل”، هذا المشروع الاستيطاني بمليون شيكل (300 ألف دولار).
وأشار “واللا” وقتها إلى أن المشروع يقع في قلب حي الشيخ جراح، ما يعني أن عشرات العائلات الفلسطينية في الحي، ستواجه دعاوى قضائية تطالبها بإخلاء منازلها، في إطار مخطط استيطاني واسع في الحي.
ولفهم ما يجري بصورته الكبرى، فلا بد من الحديث عن سلوان، البلدة الملاصقة للمسجد الأقصى التي تأتي في الدرجة الثانية من التهويد بعد الشيخ جراح.
تسلسل زمني من إعداد الزميل تمام أبو الخير، يستعرض أهم المحطات التي خاضها أهالي الحي لمقاومة سياسات القمع والتهجير الإسرائيلية
وهنا قال كاتب إسرائيلي: “الممارسات الاستيطانية الأخيرة في أحياء القدس العربية تأتي منسجمة مع ما يصدر من تصريحات للساسة اليهود بترحيل العرب باسم الملكية اليهودية لإسرائيل، ثم تجلت خطورة التهديد عندما سكنت منظمة عطيرت كوهانيم ثلاثة منازل في قلب سلوان”.
وأضاف أفيف تتارسكي الخبير في شؤون القدس، في مقال له في أبريل/نيسان الماضي “سياسة الحكومة الإسرائيلية تتمثل بترسيخ التفوق اليهودي في المدينة المقدسة، رغم أن الاستيلاء على البيوت وحده لن ينجح في تهويد البلدة القديمة والأحياء المحيطة بها مثل سلوان والشيخ جراح”.
مؤكدًا “المنازل التي دخلها مستوطنو عطيرت كوهانيم لم يتم اختيارها عشوائيًا، فهي تقع بين مجمع معاليه زيتيم الاستيطاني في رأس العامود وبطن الهوى في سلوان”.
إذ تعمل عطيرت كوهانيم على ترحيل مئة عائلة فلسطينية، وهو كارثة بالنسبة لها، لأنه يعني بالضرورة إنشاء مجمع استيطاني صغير محاط بآلاف العائلات الفلسطينية الأخرى، رغم أن هذا لا يغير بمفرده الواقع السكاني القائم في حي سلوان.
وكشف أنه “بعد إنشاء هذه المجمعات الاستيطانية الصغيرة في أماكن مختلفة حول البلدة القديمة، تعمل منظمات المستوطنين على ربطها، وبالتالي إنشاء حلقة من الاستيطان الإسرائيلي حول البلدة القديمة، وبالتالي فإنه من المفترض أن تعزز البيوت الجديدة في سلوان الصلة بين معاليه زيتيم والمستوطنة في بطن الهوى، وبالتالي فقد يكون لمثل هذا الاتصال تأثير مزدوج.
وأوضح أن “التأثير الأول يتمثل بتقوية هذه المجمعات الاستيطانية بشكل كبير، بحيث تشكل تهديدات صغيرة هي جزء من سلسلة استيطانية متصلة”، أما التأثير الثاني فهو أن “الحلقة الاستيطانية تخترق الأحياء الفلسطينية، وتقطع مساحتها المكتظة في حوض البلدة القديمة، وتنتهك حرية حركة الفلسطينيين بشكل خطير عندما تواجه مسارات المشي اليومية، والوجود المسلح للمستوطنين المسلحين، وحراسهم الأمنيين الخاصين وحرس الحدود”.
وأضاف “الممارسات الاستيطانية ليست نزوة قومية متطرفة لكنها مشروع لدولة “إسرائيل”، يحظى بدعم الساسة الرئيسيين فضلًا عن الأحزاب اليمينية”، وفي 8 من نوفمبر/تشرين الثاني 2020 كشفت معطيات صحفية عبرية أن “اللجنة اللوائية الإسرائيلية” في القدس، أودعت مخططًا ضخمًا يحدد سياسات التنظيم في مركز مدينة القدس المحتلة لسنوات قادمة.
يشمل المخطط شوارع عديدة تصل شطري المدينة الشرقي والغربي ببعضهما، ورغم أن حي الشيخ جراح صاحب القصة الحاليّة لا تتعدى مساحته سبعة دونمات، فإن الخطورة تكمن في ربط المنطقة بغرب القدس التي تقع على طرفي ما يسمى بـ”الخط الأخضر” المقام فيها فنادق وكنس يهودية وتضم أيضًا مستشفى هداسا والجامعة العبرية، مرورًا بسلسلة من المشاريع الاستيطانية.
ويشدد المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان على أن عمليات الهدم وقرارات الإخلاء التي تنفذها السلطات الإسرائيلية في الشيخ جراح، تأتي تكريسًا لسياسة ممنهجة، ضمن مساعيها لتهجير الفلسطينيين قسرًا ومحاولات تغيير الطابع الديمغرافي في المدينة المحتلة.