أثير جدل كبير في الأوساط الفلسطينية بشأن منفذ عملية حاجز زعترة جنوب نابلس، منتصر الشلبي، رجل الأعمال الفلسطيني الثّري الذي يحمل الجنسية الأمريكية والعائد للضفة الغربية لتنفيذ عمليته البطولية التي أسفرت عن مقتل مستوطنين وإصابة آخرين.
لم يكن الجدل الدائر عن العملية البطولية كونها عملًا وطنيًا وبطوليًا، فهناك إجماع عن بطولة العملية والمنفذ، وإجماع فلسطيني تحديدًا بين الجيل الجديد على المقاومة المسلحة كخيار أول أمام الفلسطينيين لمواجهة الاحتلال الإسرائيلي، وما يساندها من مقاومة شعبية، بل إن الجدل الدائر بشأن الإمكانات الأفضل التي عجز عن تحقيقها مقاوم فلسطيني يمتلك (المال والسلاح وحرية التنقل) منها تشكيل مجموعات مسلحة أو خلايا عسكرية في ظل الروح الثورية التي يمتلكها الجيل الفلسطيني الجديد في الضفة الغربية، تضمن استمرار الفعل المقاوم في الضفة الغربية.
لم تكن المشكلة أبدًا في المقاتل الفلسطيني أي في الفعل المقاوم أو فيمن يحمل السلاح، بل في العقل الجمعي القادر على التخطيط لتشكيل خلايا تقود لحرب استنزاف متواصلة، وليست عمليات فردية بين الفينة والأخرى، ورغم فشل الاحتلال الإسرائيلي في التعامل معها نتيجة عدم قدرته على التنبؤ بمكانها أو توقيتها أو نوعيتها، فإن هذه العمليات ما زالت تعاني من أدوات وقدرات وخبرات عسكرية ضعيفة واستمرارية العمل.
ويمكن ملاحظة ضعف فعالية وكفاءة العمليات الفردية عبر تتبع سلسلة من العمليات التي حدثت في السنوات الأخيرة، فقد يُستشهد المنفذون قبل تنفيذ العملية أو يُعتقلوا بعد وقت قصير من تنفيذ العملية، في حين تُعيد الأدوات القتالية المستخدمة الفعل المقاوم الفلسطيني إلى المربع الأول (حرب السكاكين أو الاشتباك قصير الأمد بأسلحة رشاشة خفيفة).
وقد طرحت العملية الجديدة – حاجز زعترة – تساؤلات كثيرة أمام الفلسطينيين أهمها: لماذا يعجز الفلسطينيون في الضفة الغربية عن تشكيل خلايا قتالية تستمر في عملياتها في ظل احتكاك مباشر مع المستوطنين وحواجز جيش الاحتلال الإسرائيلي؟ ولماذا لا يستطيع الفلسطينيون تحديث أدواتهم القتالية في مواجهة جيش الاحتلال ومستوطنيه؟ وكيف استطاع الاحتلال الإسرائيلي تعطيل استمرارية الفعل المقاوم في الضفة الغربية؟
وقبل تفكيك أو تحليل مضمون المسار المقاوم لما بعد عملية السور الواقي في الضفة الغربية في نهاية مارس/آذار 2002 التي استمرت لأكثر من شهر، يجب القول إن الخيار المتبقي للفلسطينيين هو دعم كل فعل ضد الاحتلال الإسرائيلي، سواء بفعل فردي أم جماعي أم حتى فعل الطبيعة ذاتها دون النظر إلى أي اعتبارات إلا إنهاء الاحتلال الإسرائيلي.
عودة للوراء.. انقطاع توريث الخبرات العسكرية
هدفت عملية السور الواقي التي نفذت بمشاركة أكثر من 30 ألف جندي إسرائيلي في الضفة الغربية للقضاء على الجيل الذي راكم خبرته القتالية نتيجة انتفاضة الأقصى عام 2000، التي شارك فيها مسلحون متمرسون من الأجهزة الأمنية الفلسطينية أو من الفصائل الفلسطينية من الجيل القديم ما قبل نشأة السلطة.
هنا نذكر نماذج فريدة للقتال والقيادة العسكرية في الضفة الغربية فترة انتفاضة الأقصى مع ملاحظة أعمار هؤلاء المقاتلين (يوسف ريحان أبو جندل مواليد 1965 ومحمود أبو هنود مواليد 1967 ورائد الكرمي مواليد 1973 وأيمن حلاوة مواليد 1974 ومحمود طوالبة مواليد 1979،…) وكلهم أصحاب خبرات عسكرية بدأت تنتقل وتتشابك مع خبرات الجيل الجديد تدريجيًا، ما شكل أكبر خطر وجودي على الاحتلال الإسرائيلي وقتها.
وحين الدخول في المشهد الثوري عن قرب، وتقسيم الأجيال الفلسطينية المقاتلة (x,y,z) باعتبار الجيل X هو الجيل الأول لانتفاضة الأقصى عام 2000 الذي راكم خبراته القتالية قبل نشأة السلطة وبعد نشأة الأجهزة الأمنية، في حين بدأ الجيل y يراكم خبرات الجيل السابق نتيجة حالة الاشتباك المستمر والتواصل لتشكيل مجموعات عسكرية، ما جعل الاحتلال الإسرائيلي يتنبه لتنامي خبرة الفعل المقاوم في الضفة الغربية، فكانت خطته القضاء على حلقة الوصل بين الجيل y والجيل الجديد z الذي يقود العمل الثوري والمقاوم الآن ويشتبك بالعمليات الفردية.
استلزم الأمر اغتيال واعتقال عدد كبير من قيادات الجيلين السابقين، ثُم تحييد المتبقي منهم عن العمل العسكري، وهو ما قطع الاتصال مع الجيل الجديد الذي بدأ في ثوراته المتتالية منذ 2016 بفعل مقاوم فردي ينطلق من المربع الأول للقتال، أدوات تقليدية قديمة وعمليات لا ترتقي لتخطيط قتال المجموعات المسلحة، وهذا كان العامل الأول لتعطيل الفعل المقاوم في الضفة الغربية “قطع تراكم الخبرات العسكرية وانتقالها للجيل الجديد”.
هنا يجب استحضار النقاشات والكتابات التي بدأت بعد عملية السور الواقي لفهم ظاهرة “المطاردون في الضفة الغربية”، وتطويرها لصالح الفعل المقاوم لكنها ظلت حبيسة المكان والزمان وصولًا للمرحلة الحاليّة من عدم قدرة منفذي العمليات على التخفي والمطاردة لفترات طويلة تسمح لهم بتشكيل مجموعات مساندة تحافظ على استمرارية الفعل المقاوم.
دايتون.. تغيير العقيدة الأمنية
انطلقت شرارة الفعل المقاوم المصحوب بالخبرات العسكرية في انتفاضة الأقصى عام 2000 من أبناء الأجهزة الأمنية المدربين عسكريًا، ما استدعى رهن مسار المساعدات الأمريكية للسلطة الفلسطينية بتدريب قوى الأمن الفلسطينية على ضبط الأمن، ونقل الصلاحيات الأمنية لها على مدن الضفة الغربية بعد عملية السور الواقي بعد التأكد من قدرتها على ضبط الأمن.
وقد اعتبرت المهمة التي قام بها المنسق الأمريكي الفريق كيث دايتون أكبر إسهام فعلي لرفع مستوى الأمن بين الاحتلال الإسرائيلي والفلسطينيين، للقضاء على الأخطار الأمنية التي تهدد “إسرائيل” انطلاقًا من الأراضي الفلسطينية، بعد تحسين قدرات قواتهم الأمنية، لكن الأمر لم يكن في تحسين قدرات أجهزة الأمن الفلسطينية بل في تغيير العقيدة الأمنية لهذه الأجهزة التي كانت تمثل مصدر التراكم العسكري لحرب الاستنزاف لدى الفعل المقاوم للفلسطينيين في الضفة الغربية.
بعد موجة الاغتيالات التي نفذها الاحتلال الإسرائيلي ضد قادة كتائب شهداء الأقصى بدأ التنظيم يفقد تأثيره العسكري في مسار الانتفاضة أو مسار توريث العمل المقاوم للأجيال الفلسطينية الجديدة، أدى ذلك لتغلغل الأجهزة الأمنية داخل التنظيم بشكل أوسع وصولًا إلى قرار العفو بعد إعلان الرئيس الفلسطيني عام 2007 حل كتائب شهداء الأقصى، وتوقيع 180 مقاتلًا من الكتائب على “اتفاقية العفو” مقابل تسليم السلاح والحصول على وظائف في الأجهزة الأمنية عبر سلسلة قاسية من الحملات الأمنية ضد مراكز الكتائب تحديدًا مخيم جنين وبلاطة.
وسعت الإدارة الأمريكية في عصر باراك أوباما إلى زيادة الإنفاق والتمويل لبرامج تدريب القوات الأمنية في الضفة الغربية ضمن مراحل متتالية أهمها عام 2009، لتضمن قدرة هذه الأجهزة على السيطرة وضبط المخيمات الفلسطينية في الضفة الغربية مراكز انطلاق وشرارة العمل المقاوم هناك.
وهكذا انتهت فرضية تجدد العمل العسكري من داخل الأجهزة الأمنية والفصائل الفلسطينية في مخيمات الضفة الغربية، لصالح ضبط الأمن وملاحقة أي تشكيلات عسكرية قد تنشأ في الضفة الغربية، لذلك بدأت العمليات الفردية بالظهور مجددًا وبقرار من فرد أو عدة أفراد تتجاوز القدرة على تشكيل مجموعة تستمر في العمل المقاوم.
المحاصرة الرقمية لميادين القتال في الضفة
بعد أن نجح الاحتلال الإسرائيلي برعاية أمريكية وموافقة السلطة الفلسطينية على تغيير العقيدة الأمنية لأجهزة السلطة الفلسطينية، عمل الاحتلال الإسرائيلي على محاصرة المدن الفلسطينية (الشوارع الرئيسية ومفترقات الطرق والأسواق والأماكن العامة والمخيمات) بكاميرات تراقب الفلسطينيين على مدار الساعة – منها ما هو علني أو ما هو سري – لتحاصر معها العمل المقاوم من الاستمرارية أي تحييد – قتل أو اعتقال – صاحب الفعل المقاوم بعد فترة قصيرة من تنفيذه للفعل.
عدم وجود نظام ووسط محيط حامي لاستمرارية الفعل المقاوم أدى بالضرورة لأن يأخذ شلبي زمام المبادرة الفردية وهو يمتلك كل الأدوات القادرة على تشكيل فعل مقاوم مستمر
إضافة لكاميرات المراقبة عمل الاحتلال الإسرائيلي على تعزيز التعاون العسكري والأمني والاستخباري مع أجهزة أمن السلطة الفلسطينية، ضمن سلسلة من الاتفاقيات تشمل منع أي عمل مقاوم في الضفة قبل حدوثه، أو التبليغ عن أي تشكيلات عسكرية في الضفة الغربية، مقابل حماية لشخصيات في السلطة الفلسطينية أو استمرار مسار التسهيلات، وقد رأت السلطة الفلسطينية أن ضبط الحالة الأمنية مع الاحتلال الإسرائيلي يعزز من سيادتها على الأرض وقدرتها على تحسين الظروف الاقتصادية والسياسية للفلسطينيين، وثبت فشل افتراضها بالكامل خصوصًا بعد صفقة القرن وقطع المساعدات الأمريكية عن السلطة الفلسطينية في عهد الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب.
في المسار الجديد الثالث لمحاصرة الضفة الغربية التي تشكل الخطر الأكبر للاحتلال الإسرائيلي في حال تنامي الفعل المقاوم فيها، حاصر الاحتلال الإسرائيلي الفضاء الإلكتروني والمحتوى الرقمي الفلسطيني، وعزز آليات الرقابة عليه للوصول إلى معلومات من خلال البيانات والتعليقات والمنشورات التي ينشرها الفلسطينيون في الضفة الغربية، وقد أنشأ الاحتلال الإسرائيلي العديد من الوحدات العسكرية الرقمية تضم آلاف الجنود لمراقبة المحتوى الفلسطيني، وعلى إثرها تم اعتقال المئات من الفلسطينيين المتوقع انخراطهم في أي عمل مقاوم من خلال تتبع منشوراتهم بشكل دائم.
جميع العوامل السابقة لعبت أدوارًا مختلفةً في تعطيل الفعل المقاوم بالضفة الغربية، وهنا أدعو كل الكتاب والمهتمين بالعمل المقاوم الفلسطيني لتغطية فجوة التعطيل في العمل المقاوم الفلسطيني من خلال الأبحاث، وصولًا إلى نتائج أفضل في فعالية وكفاءة المقاومة، عبر تحليل للأجيال المقاتلة سواء من الخبرات العسكرية أم المراحل العمرية أم من خلال رسم ميادين جديدة للقتال تفلت من القبضة الحديدية والسيطرة على العمل المقاوم.
ختامًا، لحسم الجدل الدائر في الأوساط الفلسطينية بعد عملية زعترة التي نفذها منتصر شلبي، فإن عدم وجود نظام ووسط محيط حامي لاستمرارية الفعل المقاوم أدى بالضرورة لأن يأخذ شلبي زمام المبادرة الفردية وهو يمتلك كل الأدوات القادرة على تشكيل فعل مقاوم مستمر.