شهدت الآونة الأخيرة تغيرًا ملحوظًا في السياسة الخارجية التركية، بعد وصول الرئيس جو بادين سدة الحكم في الولايات المتحدة الأمريكية، ما يعني أن هناك تراجعًا في حدة الخطاب السياسي والإعلامي التركي تجاه بعض دول المنطقة، كذلك شهدت الأيام الماضية زيارات رسمية من الجانب التركي للدولة المصرية مع وجود مساعي تركية لإعادة ترميم العلاقات مع مصر بعد انقطاع في العلاقات بين البلدين دام لعدة سنوات طويلة.
المسار التاريخي للعلاقات التركية المصرية
يرتبط البلدان بعلاقات دينية وثقافية وتاريخية قوية، وقد تراوحت طبيعة العلاقات الدبلوماسية بينهما من ودية للغاية في بعض الأحيان إلى متوترة للغاية في أحيان أخرى، فقد أقامت تركيا علاقات دبلوماسية مع مصر عام 1925 على مستوى القائم بالأعمال، ورفعت مهمتها في القاهرة إلى مستوى السفراء عام 1948.
في حين كان للحرب البادرة التي ظهرت بين المعسكر الغربي والشرقي، أثر كبير على العلاقات الثنائية بين البلدين، إذ أعلنت تركيا انضمامها لحلف شمال الأطلسي “الناتو”، ردًا على العلاقات التي أنشاها الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر مع الاتحاد السوفيتي.
تدهورت العلاقات بين البلدين بشكل كبير في خضم الحرب الباردة وفي أثناء حكم الرئيس المصري جمال عبد الناصر بسبب عضوية تركيا في حلف بغداد الذي تقوده بريطانيا، الذي اعتبره ناصر تهديدًا كبيرًا لجهوده للقضاء على الوجود الغربي في العالم العربي، وبسبب التأثير المتزايد لأيديولوجيا عبد الناصر العروبية، التي تُسمى التيار الناصري.
عام 1958، دخلت مصر في اتحاد قصير مع سوريا “الجمهورية العربية المتحدة”، الجار الجنوبي لتركيا التي كانت تتقاسم معها نزاعات دبلوماسية وحدودية طويلة الأمد، فتسبب ذلك بتوترات شديدة بين البلدين ردت عليها تركيا من خلال مشاركتها في “تحالف محيطي” سري مع “إسرائيل”، في حين لم يكن هناك تغير في مسار العلاقات بين البلدين سواء على الصعيد الإيجابي أم السلبي، لكن مهدت الأزمة السورية التركية عام 1998، لعودة العلاقات بين البلدين، فلعبت مصر آنذاك دورًا بارزًا في تسوية الأزمة، وذلك بسبب قيام النظام السوري بتقديم الدعم لمنظمة حزب العمال الكردستاني “بي كا كا” الإرهابية.
بعد عام 2000 شهدت العلاقات التركية المصرية تطورًا ملحوظًا على الجانب الاقتصادي، إذ وقّع البلدان على اتفاقية للتجارة الحرة في ديسمبر/كانون الأول 2005، بالإضافة لذلك وقع الطرفان مذكرة تفاهم لتحسين ومواصلة العلاقات العسكرية والتعاون بين البلدين في 16 من أبريل/نيسان عام 2008، وبلغ حجم التبادل التجاري بين البلدين في نهاية عام 2010، 1.2 مليار دولار، وفي عام 2010، تم توقيع اتفاقية بإنشاء خط “رورو” الملاحي المباشر بين مينائي مرسين والإسكندرية.
بعد الإطاحة بالرئيس المصري حسني مبارك إثر انتفاضة شعبية عام 2011، جرى انتخاب محمد مرسي رئيسًا للبلاد عام 2012، وشهدت العلاقات الثنائية بين البلدين خلال فترة محمد مرسي انتعاشًا سريعًا، كما شهدت زيارات رفيعة المستوى بين الطرفين على المستوى السياسي العسكري، لتدعيم أوجه التعاون وتعزيز العلاقات العسكرية بين القوات المسلحة لكلا البلدين في العديد من المجالات، وتعزيز التعاون في مجالات السياسة الإقليمية والعلاقات الثنائية بين البلدين، جرى من خلالها إنشاء آلية رباعية ضمت كل من تركيا ومصر والسعودية وإيران لحل الأزمة السورية.
في ظل المنافسة المتزايدة للطاقة في شرق البحر المتوسط في السنوات الأخيرة، تم تشكيل كتلة مناهضة لتركيا بجهود اليونان وبدأت جهود إضفاء الطابع المؤسسي في إطار مشاريع مثل خط أنابيب إيست مد
مع بداية عام 2013 وما رافقها من انقلاب عسكري نتج عنه الإطاحة بالرئيس محمد مرسي وتولي الرئيس عبد الفتاح السيسي الحكم، بدأت العلاقات الثنائية بين البلدين تشهد تراجعًا سريعًا، بعد أن انتقدت تركيا الانقلاب العسكري في مصر، وأنه انقلاب على الديمقراطية هناك، لا سيما بعد إعلان مصر السفير التركي لديها شخص غير مرغوب فيه وخفضت مستوى العلاقات الدبلوماسية بين البلدين إلى درجة قائم بالأعمال.
ومنذ عام 2013 شهدت العلاقات الثنائية بين البلدين تباينات في ثلاثة مجالات أولها: اتهمت مصر تركيا بالتدخل في شؤونها الداخلية، وكانت هذه الاتهامات مبنية على أساس الموقف التركي من الانقلاب العسكري وانتقال شخصيات مصرية من مصر إلى تركيا مرتبطة بجماعة الإخوان المسلمين.
ثانيًا: كانت ليبيا منطقة الصراع بين البلدين، فمنذ عام 2014 أقدمت مصر على دعم جماعة الجنرال المتقاعد الليبي خليفة حفتر التي حاولت الوصول إلى السلطة باستخدام القوة العسكرية ضد الحكومة الشرعية، بالإضافة لذلك أجبرت سياسة الاعتداء على الحقوق التركية في شرق البحر المتوسط، توقيع اتفاقية ترسيم الحدود البحرية مع ليبيا، واتفاقيات التعاون الأمني والعسكري مع الحكومة الليبية إلى مواجهة بين تركيا ومصر في ليبيا، وإن كان ذلك بشكل غير مباشر.
ثالثًا: شكلت منطقة شرق البحر الأبيض المتوسط نقطة صراع بين البلدين، ومهدت العلاقات المتباينة على المستوى الإقليمي الطريق أمام اليونان ومصر للعمل معًا في شرق البحر المتوسط، وكانت هذه السياسة تتناغم مع اتفاقية ترسيم حدود المنطقة الاقتصادية الموقعة مع الإدارة القبرصية اليونانية عام 2003.
وفي ظل المنافسة المتزايدة للطاقة في شرق البحر المتوسط في السنوات الأخيرة، تم تشكيل كتلة مناهضة لتركيا بجهود اليونان وبدأت جهود إضفاء الطابع المؤسسي في إطار مشاريع مثل خط أنابيب “إيست مد” ومنتدى غاز شرق البحر الأبيض المتوسط التي بادرت مصر بإقامته مع اليونان وقبرص وفرنسا، إذ وقعت مصر اتفاقية مع اليونان لترسيم الحدود البحرية، رغم خسارتها ما يقارب 24 ألف كيلومتر من حدودها البحرية، وتأتي الانتقادات المصرية للتحركات التركية في منطقة البحر المتوسط من باب المناكفة.
الدوافع التركية والمصرية
تعددت دوافع التقارب بين البلدين، مع التغيرات التي حصلت في الآونة الأخيرة على الساحة الإقليمية والدولية، دفعت كل من تركيا ومصر لإعادة سياستها الخارجية تجاة بعضهما البعض، في حين تتمثل الدوافع كالآتي:
تخوف تركيا من سياسات جو بايدن: شهدت العلاقات التركية الأمريكية حالة من التوتر في العديد من الملفات، وعكست هذه الملفات تعارض المصالح بين البلدين، ومع قدوم الرئيس الأمريكي جو بايدن إلى سدة الحكم في الولايات المتحدة الأمريكية، زادة حدة التوترات بين البلدين، مع عدم وضوح سياسة أو رؤية واضحة للولايات المتحدة تجاه تركيا، في حين عبر مسؤولون أمريكيون عن تمسك الولايات المتحدة الأمريكية بموقفها الرافض لامتلاك تركيا لصواريخ إس 400.
فقد عبر مستشار الأمن القومي الأمريكي جاك سولفيان خلال مؤتمر صحفي شارك فيه المتحدث باسم الرئاسة التركية إبراهيم كالن عن قلقه من حصول تركيا على صفقة الصواريخ الروسية التي من شأنها تقويض تماسك حلف شمال الأطلسي في المنطقة”، وكذلك رفض الولايات المتحدة بيعها طائرات من طراز “إف 35″، في وقت تشهد العلاقات التركية الروسية تطورًا ومصدر قلق للولايات المتحدة الأمريكية والغرب.
بالإضافة لذلك دفع اعتراف الرئيس الأمريكي جو بادين بإبادة الأرمن بأنها مذبحة جماعية، وهو تصنيف تجنبه الرؤساء الأمريكيون لفترة طويلة خوفًا على العلاقة بين تركيا والولايات المتحدة الأمركية، فتركيا تتحرك للأمام خطوة أكبر نحو مصر ودول الخليج لتعزيز المصالحة عقب الاعتراف الأمريكي الذي اعتبرته ضربةً للعلاقات مع واشنطن، بما يدفعها نحو إعادة تصفير الأزمات مع الدول العربية، تخوفًا من حالة العزلة التي قد تفرضها الولايات المتحدة الأمريكية أو بعض الدول الأوروبية.
إعادة العلاقات المصرية مع تركيا، قد يفتح المجال أمام وساطة تركية في ملف سد النهضة
الرغبة في إعادة ترسيم الحدود البحرية في شرق البحر المتوسط دون النزاع مع مصر: دفعت الأحداث الأخيرة في شرق البحر المتوسط، تركيا لإعادة إجراء اتصالاتها مع مصر وتأسيس علاقات معها من جديد، وذلك للاستفادة من مكانة مصر وعلاقتها القوية مع دول حوض شرق البحر المتوسط.
من الواضح أن النزاع بين مصر وتركيا، حرم الأخيرة من استغلال احتياطات الغاز في شرق البحر المتوسط، وفي ظل العلاقات المتردية بين البلدين لا تستطيع تركيا البحث عن شركاء لاستكشاف الغاز في شرق البحر المتوسط، لافتقارها لاتفاقيات رسمية لترسيم حدودها البحرية التي تحدد منطقتها الاقتصادية الخالصة بدقة.
فالتصالح التركي مع مصر، يمهد لها الطريق للتوصل إلى اتفاق شرعي لترسيم حدودها البحرية مع مصر، كالاتفاقيات التي أبرمتها مع حكومة الوفاق الليبية، كما يمنح مثل هذه الاتفاقيات تركيا الشرعية القانونية لاستكشاف مصادر الغاز والطاقة في منطقة حوض شرق البحر المتوسط دون أي نزاع.
الملف الليبي: كانت الأزمة الليبية، سببًا في وصول العلاقات الثنائية بين البلدين ذروتها، مع توقيع تركيا مذكرتين للتفاهم تتعلق الأولى بترسيم الحدود البحرية والثانية تنص على تقديم تركيا الدعم والاستشارات والتدريبات العسكرية، مع حكومة الوفاق الليبية، فقد اعتبرت مصر أن مثل هذه الخطوات تزيد من تعقيدات الملف الليبي، وأنها خطوة تهدد أمنها القومي، فنجد تركيا ومصر كدولة إقليمية مهمة على المستوى الأمني في المنطقة لمواجهة خطر الإرهاب، وهذا يستدعي ضرورة التعاون والتنسيق الأمني والاستخباراتي مع مصر في إطار حل الأزمة الليبية.
فالسياسة التركية قائمة على البراغماتية الواقعية، فتركيا ستكسب كثيرًا فيما يتعلق بملفات التنسيق الأمني واللوجستي مع مصر، في حين تعتبر مصر مدخلًا لها في المنطقة، ويمتلك الطرفان أدوات ضغط على أطراف الصراع في ليبيا، ما يمكنهما التوصل لحل نهائي للأزمة.
ملف سد النهضة: تحرص مصر على عدم فتح جبهات جديدة للصراع والتفرغ لملف سد النهضة في ظل اقتراب إثيوبيا من عملية الملء الثاني للسد، وتزايد التوترات بين البلدين في الفترة الأخيرة، فإعادة العلاقات المصرية مع تركيا، قد يفتح المجال أمام وساطة تركية في ملف سد النهضة، وهذا ما عبر عنه المبعوث الشخصي للرئيس التركي، فيصل إيروغلو، خلال زيارته للعراق، أن بإمكان بلادة القيام بوساطة في أزمة ملف سد النهضة، وأن هذه الأزمة قضية تقنية ولدى بلاده الكثير من الخبراء الذين يمكنهم المساعدة في حلها.
ملف المعارضة : يتمثل ملف المعارضة في أولويات المطالب المصرية بإعادة علاقتها مع تركيا، فقد شكل ملف المعارضة صداعًا للنظام المصري، في ظل تحريضها عبر قنواتها الرسمية والدعوه للتظاهر ضد النظام، فترى مصر في إعادة علاقتها مع تركيا التي تحتضن جماعة المعارضة منذ الإطاحة بالرئيس المصري محمد مرسي، فرصة للوساطة لحلحة الأزمة مع المعارضة المصرية، في حين بات ملف المعارضة والمعتقلين السياسين مصدر قلق لمصر، في ظل التحقيقات التي تجريها منظمات حقوق الإنسان، وبهذا يعتبر تهديدًا لاستقرارها الخارجي والداخلي.
الخاتمة
يمكن القول إن المتغيرات التي تشهدها الساحة الدولية والإقليمية، دفعت كلا الطرفين لإعاد النظر في سياسته الخارجية، وإعادة ترتيب السياسية الخارجية تجاة المنطقة، في حين يمتلك كلا الطرفين أوراق ضغط تساعد في إداراة النزاعات والمفاوضات في الساحة الدولية والإقليمية، فإن التقارب الحاصل بين البلدين، لن يعد بالضرر بأي شكل من الأشكال عليهما، بل سيفتح نوافذ وفرص من الاستثمارات والتحالفات الجديدة وقوه مؤثرة لا يمكن تجاوزها في المنطقة، باعتبارهما من أبرز القوى الإقليمية في المنطقة.