بيروت – لبنان 1975
بينما كانت نيران الحرب الأهلية تلتهم البشر والحجر في العاصمة اللبنانية، ممتدة إلى جميع أنحاء البلاد، كان هناك آلاف العوائل اللبنانية تستعد لمغادرة البلاد والهجرة نحو أمريكا اللاتينية، أكثر الأماكن المتاحة للبنانيين وقتها.
تشير بعض التقديرات أن هناك ما يقارب مليون لبناني تركوا البلاد بين عامي 1975 و1990، وهو ما يشكل 40% من تعداد السكان حينها.
الحدود الثلاثية “TBI”: الأمم المتحدة للجريمة
كان من بين المهاجرين اللبنانيين، مواطن يُدعى أسعد بركات، هاجر بركات إلى البارغواي عام 1985، وأسس شركة للألعاب الإلكترونية والاستيراد والتصدير تحمل اسم “Apollo Import Export”، شيئًا فشيئًا، توطدت علاقة بركات بالتجار في الباراغواي وأصبح منغمسًا أكثر في المجتمع.
في الباراغواي، تعني كلمة “التجارة” أشياء أخرى غير البيع والشراء، وهي تهريب المخدرات وصناعتها وغسيل الأموال وتهريب البشر والأسلحة، وبيع كل الممنوعات التي يمكن أن تخطر على البال.
كان كل هذا يحدث في المنطقة التي تسميها منظمة مكافحة المخدرات الأمريكية “الأمم المتحدة للجريمة”، وهي المنطقة المحصورة في الحدود الأرجنتينية البرازيلية الأوروغوانية. تشمل منطقة الحدود الثلاثية لأمريكا الجنوبية (TBA) ثلاثة مدن في ثلاث دول مختلفة: بويرتو إجوازو في الأرجنتين وسيوداد ديل إستي في باراغواي وفوز دو إيغواسو في البرازيل.
تُعرف هذه المنطقة بأنها مركز رئيسي للأنشطة غير المشروعة التي تتراوح من التقليد إلى سرقة الملكية الفكرية إلى غسل الأموال، ويُعتقد أنها منطقة تمويل رئيسية للمنظمات الإجرامية العابرة للقارات، وقدرت السلطات البرازيلية أن أكثر من 6 مليارات دولار أمريكي في السنة من الأموال غير المشروعة يتم غسلها في “TBA”، في حين أن الوضع يتفاقم بسبب الترابط الاقتصادي بين تلك البلدان.
في دراسة أعدها معهد واشنطن للدراسات عن نشاط حزب الله في أمريكا الجنوبية، يقول الباحث ماثيو ليفيت: “كان بركات يدير متجرًا من 4 طوابق يدعى “Galeria Page shopping center” في مدينة سيوداد دي إستي (الجزء البارغوياني من الحدود الثلاثية)، كان هذا المتجر مقرًا رئيسيًا لعناصر حزب الله من بارغواي، يديرون عملهم فيها من خلاله، مثلت تلك المنطقة، الشريان الرئيسي لتمويل حزب الله بالتعاون مع كارتيلات المخدرات والتهريب وغسيل الأموال أو جباية الأموال التي كان يقوم بها بركات من التجار اللبنانيين بعد تهديدهم بوضعهم في قائمة حزب الله السوداء”.
تقدر القيادة الجنوبية للولايات المتحدة الفوائد التي يحصل عليها حزب الله بين 300-500 مليون دولار أمريكي سنويًا في أمريكا الجنوبية من الحدود الثلاثية، وضعت هذه الأنشطة بركات على رادار أجهزة الأمن في باراغواي، وهو ما أفضى إلى اعتقاله عام 2002، ثم أدرجته وزارة الخزانة الأمريكية ضمن قائمة العقوبات السوداء، كما قيدت وزارة الخزانة صبحي محمود فياض، المساعد التنفيذي لبركات بتهم تتعلق بتزوير العملة وأنشطة تهريب المخدرات.
كانت خلية أسعد بركات تمثل عقدةً واحدةً من كثير من العناقيد التي يستخدمها الحزب في أنشطته بأمريكا اللاتينية، وقد تكشف ذلك عرضًا خلال عملية مشتركة أطلقتها قوات إنفاذ القانون الأمريكية والكولومبية
فياض هو أحد كبار مسؤولي حزب الله، ولم يكن غريبًا عن سلطات تطبيق القانون، ففي عام 2001 ، كان محتجزًا لدى شرطة باراغواي عندما فتشوا منزله في سيوداد دي إستي وعثروا على إيصالات من جمعية الشهداء بتبرعات أرسلها تصل إلى أكثر من 3.5 مليون دولار.
تعتقد السلطات أن فياض أرسل أكثر من 50 مليون دولار لحزب الله منذ عام 1995، وغالبًا ما يستخدم حزب الله الجمعيات الخيرية والمنظمات الأمامية مثل منظمة الشهداء لإخفاء أنشطة جمع التبرعات، وهكذا في يوليو/تموز 2007، أدرجت وزارة الخزانة قسم الشهداء على القائمة السوداء بسبب علاقتها مع المجموعة.
العملية تيتان
كانت خلية أسعد بركات تمثل عقدةً واحدةً من كثير من العناقيد التي يستخدمها الحزب في أنشطته بأمريكا اللاتينية، وقد تكشف ذلك عرضًا خلال عملية مشتركة أطلقتها قوات إنفاذ القانون الأمريكية والكولومبية تدعى: “تيتان”.
بدأت عملية “تيتان” عام 2008 عندما كان المحققون الأمريكيون والكولومبيون يستهدفون أحد كارتلات مدينة ميديلين الكولومبية يُدعى “لا أوفيسينا”، وخلال التحقيق لمدة عامين، تعقبت السلطات العديد من الاتصالات أجراها الكارتل مع الجالية اللبنانية على طول ساحل البحر الكاريبي في كولومبيا، وتم تعزيز هذه الروابط من ميسري حزب الله الذين أنشأوا متاهة معقدة من التجارة عبر الحدود وناقلات النقد بالجملة بين كولومبيا وفنزويلا.
قاد رجل الأعمال الشيعي البارز وأحد عناصر حزب الله علي محمد صالح شبكة الجريمة والإرهاب العابرة للحدود في كولومبيا وفنزويلا التي تم كشفها خلال عملية تيتان، صنف مكتب مراقبة الأصول الأجنبية بوزارة الخزانة (OFAC) علي محمد وشقيقه وقاسم محمد صالح، كممولين للإرهاب عام 2012، بينما تم تصنيف علي محمد صالح أيضًا كمسؤول مخدرات قبلها بعام.
لسنوات عديدة، سيطرت مجموعة صالح على الأسواق غير المشروعة للمخدرات والأسلحة والممنوعات وتهريب النقود السائبة وغسيل الأموال في مايكاو بالقرب من الحدود الشمالية مع فنزويلا، وتستفيد عصابات المخدرات المحلية في غرب فنزويلا التي يسيطر عليها أعضاء نظام مادورو، لا سيما في ولاية زوليا من هذه التجارة غير المشروعة عبر الحدود التي كانت تديرها مجموعة صال، ووفقًا لأصحاب المتاجر في مايكاو، فر الأخوان صالح بين عشية وضحاها إلى فنزويلا بعد معاقبتهما عام 2012.
أعطى هذا الكم الهائل من التمويل للحزب، قدرةً كبيرةً ومرونةً في التحرك وتنفيذ العديد من العمليات لصالح إيران في أمريكا الجنوبية أو في أوروبا
الطريق إلى كاساندرا
في بحث أجراه موقع الجزيرة، قال الموقع إن الحزب يملك مجموعة خاصة لكل نشاط في التهريب أو غسيل الأموال أو التجارة غير المشروعة، ومنذ إطلاق العملية تيتان، كشفت تحقيقات أجهزة إنفاذ القانون العديد من الشبكات، أبرزها:
- تجارة المخدرات:
- خلية راضي زعيتر: تم كشفها عام 2008، تورد 70% من واردتها للحزب.
- علي فايد بيضون: تم القبض عليه عام 2008 في ميامي الأمريكية بتهمة تهريب المخدرات للحزب.
- خلية شكري حرب: تم كشفها عام 2008، عبارة عن تحالف بين مجموعة حرب وإحدى العصابات الكولومبية.
- خلية أحمد جمعة: تبيع السيارات الأمريكية لغرب إفريقيا للتغطية على تهريب أطنان من الكوكايين مع كارتيل لوس زيتاس في المكسيك.
- شبكة هولندا: كشفتها هولندا عام 2009 وكانت تهرب الكوكايين للحزب.
- التهريب:
- خلية أسعد بركات: أدرت ما يقارب من 50 مليون دولار تقريبًا، عملت في تهريب المواد المقرصنة والمخدرات.
- خلية محمد وشوقي حمود: تم اعتقالها عام 2005 واتهمتها السلطات الأمريكية بتهريب السجائر وقالت إنها ولدت 1.5 مليون دولار للحزب.
- جمع التبرعات:
- جمع الحزب 4.5 مليون دولار خلال 7 سنوات لصالح مؤسسة الشهيد، فقد أدرجت الولايات المتحدة المؤسسة في القائمة السوداء.
- رصدت وزارة الخزانة الأمريكية حملات منظمة من الحزب لجمع التبرعات في سيراليون والسنغال وكوت دي فوار.
- تجارة الأسلحة: خلي علي فياض، فقد تم القبض عليه عام 2014 بتهمة تهريب الأسلحة للحزب في سوريا.
أعطى هذا الكم الهائل من التمويل للحزب، قدرةً كبيرةً ومرونةً في التحرك وتنفيذ العديد من العمليات لصالح إيران في أمريكا الجنوبية أو في أوروبا، ومع اكتشاف خيوط جديدة منفصلة من أجهزة المخابرات وإنفاذ القانون في الدول الغربية، تولدت قناعة مشتركة بضرورة تطوير العملية تيتان لتكون عملية أكثر شمولًا، تتشارك فيها الدول المعلومات وتنفذ ضربة واحدة في وقت واحد، وهو ما اتفق على تسميته “العملية كاسندرا”، وهي العملية التي شهدت تحولات درامية كبيرة لا تزال آثارها ماثلة حتى الآن، وهو ما سيتم استعراضه في مقال منفصل قادم إن شاء الله.