لا عزاء للحلفاء.. الإمارات بوابة إثيوبيا لكسر العزلة البحرية

تواصل الإمارات مساعيها المستمرة لدعم أديس أبابا وتقوية شوكة حكومة آبي أحمد التي يتصاعد منسوب توتر علاقاتها مع القاهرة والخرطوم جراء تعنتها الواضح حيال ملف سد النهضة، الأمرالذي أثار الكثير من التساؤلات عن الدوافع الإماراتية وراء هذا التوجه الغريب كما يراه المصريون.
الدعم الإماراتي لم يقتصر على حاجز الاستثمارات التقليدية التي اعتادت أبو ظبي ضخها في السوق الإثيوبية طيلة السنوات الماضية وكان لها دورها المؤثر في عبور الحكومة الإثيوبية للكثير من أزماتها الداخلية، إذ تطور الأمر إلى محاولة أبناء زايد كسر عزلة الدولة الإفريقية الحبيسة وتحويلها إلى دولة ساحلية.
في الـ7 من مايو/آيار الحاليّ وقعت وزارة النقل الإثيوبية وموانئ دبي العالمية مذكرة تفاهم لتطوير الطريق الذي يربط إثيوبيا بميناء بربرة الصومالي ليصبح أحد الممرات التجارية الدولية، ما يزيد من ثقل أديس أبابا الإقليمي والبحري لا سيما أنها عانت طويلًا بسبب هذا العيب الجغرافي الذي أثر كثيرًا على خططها لتعزيز نفوذها القاري.
ويأتي هذا التحرك في إطار خطة موانئ دبي تطوير البنية التحتية لسلسلة التوريد على طول الممر، بإجمالي استثمار يصل إلى مليار دولار أمريكي خلال السنوات العشرة المقبلة، من المقرر أن تشمل الموانئ الجافة والصوامع وأحواض الحاويات وساحات الحاويات ومستودعات التبريد والسلسلة الباردة وأنشطة الشحن والتخليص، بحسب وسائل إعلام إماراتية.
تقدم الإمارات لإثيوبيا ما لم تقدمه أي دولة أخرى، توأمة حديثة في التوجهات وحميمية ملموسة في العلاقات وتقاربًا غير مسبوق في السياسات، حتى لو كان ذلك على حساب مصالح الحلفاء وأمنهم القومي، الأمر الذي دفع الكثير من المحللين المصريين بالمطالبة بإعادة النظر في علاقات بلادهم بأبو ظبي في ضوء سياستها الجديدة التي باتت تهدد مصر بشكل واضح.
إثيوبيا ليست دولة حبيسة بدعم إماراتي
بهذا الاتفاق تنهي إثيوبيا عقودها الطويلة كدولة حبيسة ليس لها أي حدود أو موانئ بحرية، لتدخل مرحلة جديدة من تاريخها بفضل الحليف الإماراتي، علمًا بأن أديس أبابا كانت تستخدم ميناء جيوبتي لإدخال جميع الواردات تقريبًا، غير أنه وبين الحين والآخر كانت تنشب خلافات تعوق عملية النقل والتجارة، وهو ما كان يعرض البلاد لأزمات حقيقية ويضع مستقبل حركة التجارة البحرية الخاصة بها بأيدي دول أخرى.
وزيرة النقل الإثيوبية داغماويت موغس، أشارت إلى هذا الاتفاق سيسهم بشكل فعال في تعزيز صناعة الخدمات اللوجستية السريعة، في الوقت الذي تبدأ فيها بلادها رحلتها نحو الازدهار، ومن المتوقع أن يكون ذلك دافعًا قويًا لإطلاق إثيوبيا إمكاناتها التنموية، لتصبح منارة إفريقية للازدهار، كما جاء في تصريحاتها خلال المؤتمر الصحفي الذي أعقب توقيع مذكرة التفاهم.
منذ 2016 وحتى اليوم لعبت أبو ظبي دورًا كبيرًا من أجل توفير منفذ بحري لإثيوبيا من أجل تدشين قوة بحرية تابعة لها، بجانب مباشرة عمليات النقل والتجارة البحرية
وفي المقابل يرى رئيس مجلس الإدارة والرئيس التنفيذي لمجموعة موانئ دبي العالمية، سلطان أحمد بن سليم، أن تطوير ممر بربرة ليصبح أحد ممرات التجارة واللوجستيات الرئيسية “سيفتح فوائد إيكولوجية ضخمة لإثيوبيا”، موضحًا أن هذا المشروع سيدعم خطط إثيوبيا التنموية الطموح، وسيخلق لها فرص عمل جديدة.
وعن تمويل هذا المشروع أوضح بن سليم أنه سيمول من صندوق أبوظبي للتنمية (حكومي) ووزارة التنمية الدولية في المملكة المتحدة، وأن موانئ دبي العالمية ملتزمة “باستثمار قرابة 442 مليون دولار لتطوير وتوسيع ميناء بربرة مع اكتمال المرحلة الأولى وتشغيلها بحلول منتصف هذا العام”، لافتًا إلى أنه من المتوقع أن يتم الانتهاء منه بشكل كامل بحلول نهاية العام الحاليّ.
وتدشين قوة بحرية كذلك
في 4 من مايو/أيار الحاليّ أعلنت إثيوبيا عن وضع حجر الأساس لبناء مركز تدريب عسكري بحري في مدينة بيشوفتو، وهو الإعلان الذي أثار موجة من السخرية وقتها، كون الدولة لا تمتلك حدودًا بحريةً ومن ثم فإن الحديث عن تدشين كيان بحري كهذا لا يعدو كونه “مزحة”.
لكن بعد 3 أيام فقط، أكد رئيس أركان الجيش الإثيوبي، الجنرال بيرهانو جولا، تأسيس قوة بحرية تابعة للجيش الإثيوبي، واستحداث شارات ورُتب جديدة لضباط وجنود هذا الفرع الجديد، وهنا كانت الإمارات كلمة السر من خلال توقيع مذكرة التفاهم سالفة الذكر.
منذ 2016 وحتى اليوم لعبت أبو ظبي دورًا كبيرًا من أجل توفير منفذ بحري لإثيوبيا من أجل تدشين قوة بحرية تابعة لها، بجانب مباشرة عمليات النقل والتجارة البحرية، بدءًا بتوقيع “موانئ دبي العالمية” اتفاقية لتشغيل وتطوير ميناء بربرة في أرض الصومال لمدة 30 عامًا، أعقبها منح أديس أبابا في 2018 حصة بلغت 19% في الميناء، لتبدأ على الفور في استثمار 80 مليون دولار في طريق بطول 500 ميل يربط بين الميناء ومدينة توجوشال الحدودية.
ومع إبرام السلام بين إثيوبيا وإريتريا الذي كان للإمارات دور محوري فيه، تصاعد منسوب أحلام الإثيوبيين بامتلاك قوة بحرية، وبدأ بالفعل الإعداد لها في مارس/آذار 2019 خلال زيارة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لأديس أبابا، إذ وقع الطرفان اتفاقية تعاون دفاعي لتزويد فرنسا حليفها الإفريقي بالخبرات اللازمة لتطوير سلاح البحرية المنتظر.
وبنهاية عام 2019 كشفت صحف محلية إثيوبية إبرام اتفاق مبدئي لإنشاء قاعدة بحرية إثيوبية في دولة جيبوتي المجاورة، دون حديث في أي تفاصيل بشأن المدة الزمنية ولا المساحة المتوقعة ولا القوة والعتاد المرجح أن تقبل بهم الدولة المضيفة.
وحتى كتابة هذه السطور لم يُحدد بعد مقر تدشين القاعدة البحرية الإثيوبية المزمع إقامتها، ومع دخول الإمارات على الخط، فهناك – بحسب خبراء – مقران لا ثالث لهما من المتوقع أن تنطلق من خلالهما أديس أبابا في تدشين قوتها البحرية، الأول في جيبوتي والآخر في ميناء بربرة الصومالي.
رغم إيمان أبناء زايد أن تحركاتهم الإفريقية لها تداعياتها السلبية على الأمن القومي للحليف المصري (دعم الحكومة الإثيوبية والعبث في خاصرة مصر الجنوبية من خلال القواعد العسكرية والموانئ البحرية والتنسيق مع “إسرائيل” في بعض مناطق القارة اللوجستية)، فإن الميكافيللية التي تسيطر على السياسة الخارجية الإماراتية لا تراعي في الجهة الأخرى مصالح المصريين
دعم إماراتي مستمر
الاستثمارات التي من المتوقع أن تضخها “موانئ دبي” في إثيوبيا، حلقة ضمن سلسلة طويلة من الدعم الإماراتي المقدم للدولة الإفريقية على مدار السنوات الماضية، الذي تنوع بين ودائع بنكية وقروض ميسرة واستثمارات متعددة الأوجه في عدد من المجالات الحيوية في البلاد.
ولعب هذا الدعم، الذي لم يُمنح لدولة إفريقية أخرى، دورًا كبيرًا في ترسيخ أقدام حكومة آبي أحمد، والحيلولة دون سقوطها في مستنقع الاحتقان الشعبي الداخلي والحرب الأهلية التي كانت تطيح بها لولا تدخل أبناء زايد في الوقت المناسب لفض الاشتباك والحرب بالوكالة عن الإثيوبيين في إقليم التيغراي.
وكان “نون بوست” في تقرير سابق له قد كشف المسارات الثلاث لدعم أبو ظبي لحكومة أبي أحمد في صراعها مع جبهة تحرير تيغراي، الأول: اقتصادي من أجل مواجهة الاحتقان الشعبي الداخلي، الثاني: عسكري، للتصدي لأي تهديدات داخلية أو خارجية، أما الثالث: الدعم السياسي في عدد من الملفات بعضها يتقاطع مع دول عربية شقيقة كمصر والسودان.
وتشير التقديرات إلى حضور استثماري إماراتي ضخم في إثيوبيا، من خلال إجمالي نحو 92 مشروعًا منها 33 مشروعًا قائمًا، إلى جانب 23 مشروعًا قيد الإنشاء، وعدد آخر من المشروعات المخططة، تتركز في قطاعات الزراعة (21 مشروعًا)، والصناعة (37 مشروعًا)، والعقارات وتأجير الآلات (20 مشروعًا)، الإنشاءات وحفر الآبار (7 مشاريع)، التعدين والصحة والفندقة (5 مشاريع)، بحسب تقارير رسمية.
تحاول الإمارات جاهدة تعزيز نفوذها داخل القارة الإفريقية، تارة من خلال إستراتيجية تأجير الموانئ وبناء القواعد العسكرية، وأخرى عبر دعم الحكومات ذات الثقل الإقليمي، وثالثة من خلال استغلال الأوضاع الاقتصادية المتردية لبعض البلدان للتوغل في مفاصلها.
نجح هذا المخطط الثلاثي في تعميق النفوذ الإماراتي إفريقيًا، لكنه قوبل برفض شديد من بعض الشعوب، أدى في النهاية إلى إجبار حكوماتها على إعادة النظر في الاتفاقيات الموقعة مع أبو ظبي، وهو ما دفع الأخيرة للبحث عن شركاء وحلفاء جدد، كانت إثيوبيا على رأسهم.
ورغم إيمان أبناء زايد أن تحركاتهم الإفريقية لها تداعياتها السلبية على الأمن القومي للحليف المصري (دعم الحكومة الإثيوبية والعبث في خاصرة مصر الجنوبية من خلال القواعد العسكرية والموانئ البحرية والتنسيق مع “إسرائيل” في بعض مناطق القارة اللوجستية)، فإن الميكافيللية التي تسيطر على السياسة الخارجية الإماراتية لا تراعي في الجهة الأخرى مصالح المصريين، ومعهم السعوديين أيضًا في أكثر من مسار آخر.
عشرات التقارير تفضح ميل الإمارات للكفة الإثيوبية مقارنة بالمصرية في ملف سد النهضة، وهو ما تكشف مؤخرًا من خلال الضغوط الممارسة بمساعدة أمريكية لتمرير عملية الملء الثاني للسد رغم تأثيره المتوقع على مستقبل مصر المائي، هذا بخلاف امتصاص الحليف الإماراتي لكل الصدمات التي كان من الممكن أن يتعرض لها آبي أحمد ويكون لها تأثيرها على موقفه المتعنت حيال هذا الملف.
وهكذا يواصل أبناء زايد تمددهم داخل القارة الإفريقية بمبدأ برغماتي مكتمل الأركان، دون أي اعتبارات سياسية أخرى، فيما تطالب أصوات مصرية في الآونة الأخيرة بإعادة النظر في العلاقات مع الحليف الخليجي الذي بات يقينًا أنه يغرد خارج السرب تمامًا، مسقطًا معه شعاراته القديمة بدعم الدولة المصرية على طول الخط.