يعرفه الإيرانيون جيدًا، ويحفظون اسمه عن ظهر قلب، فهو القائد الأبرز الذي مرغ أنوفهم في التراب في وقت كانوا فيه يصولون ويجولون شرقًا وغربًا، كما يدين له الجيش العثماني بالكثير من الفضل، فهو صاحب العديد من التطورات التي شهدتها المؤسسة العسكرية والتي لا تزال قائمة حتى اليوم.
طوبال عثمان باشا (1663-1733) (بالتركية: Topal Osman Paşa) أحد الصدور العظمى للدولة العثمانية، ترعرع في سرايا إسطنبول، وإن كانت المورة مسقط رأسه الأصلي (شبه جزيرة بيلوبونيز جنوب اليونان)، تنقّل شابًا بين مصر والعراق وإسبانيا، فاكتسب خبرة ساعدته في بناء شخصية قوية.
يدين له العراقيون بالفضل في تحرير بغداد حين كانت في قبضة الصفويين بدايات القرن الثامن عشر، ورغم هزيمته في ختام معاركه ضد الصفويين، وقتله على أيديهم، إلا أنه اكتسب احترامهم، فأمر قائدهم الأشهر نادر الإفشاري بإعادة جسده في مراسم تشريفية عظيمة إلى بغداد، ليتحقق حلمه بعد ذلك في تحرير العاصمة العراقية حتى بعد وفاته. فمن هو هذا القائد الذي اكتسب احترام أعدائه رغم ما ألحقه بهم من هزيمة نكراء؟
موهبة سياسية مبكرة
نشأ عثمان نشأة قيادية سياسية من الطراز الأول، وهو ما أهّله لأن يرتقي إلى درجة “بكلربك” في سن السادسة والعشرين، وهو منصب ولقب عثماني يعني “بيك البكوات” أو “سيد السادة”، ويرشح صاحبه لأن يتولى منصبًا قياديًّا، حيث تم تكليفه بالذهاب إلى مصر لمساعدة الوالي هناك.
غير أنه وفي رحلته نشبت معركة بحرية مع بعض القراصنة الإسبان في البحر المتوسط، وقع خلالها أسيرًا بعدما أصيب بجرح كبير في ساقه، سبّب له إعاقة خفيفة (عرج) لبقية حياته، ومن هنا أُطلق عليه لقب طوبال عثمان أي عثمان الأعرج.
وبعد فترة وجيزة من وقوعه في الأسر، ابتيع في مالطة في سوق العبيد، حيث اشتراه قبطان فرنسي من مرسيليا، وأعجب به وبعقله وقدراته القتالية والسياسية، فأمر بعلاجه حتى تم شفاؤه تمامًا، وبات مؤهلًا للتحرك، وخيّره القبطان بين البقاء معه في فرنسا أو الرحيل، فاختار الرحيل إلى مصر، وقد كان.
أبلى عثمان بلاءً حسنًا إلى جوار والي مصر، سواء على المستوى السياسي أو العسكري، فكان أحد أبرز الأعمدة التي استند إليها في ترسيخه لأركان الحكم في مواجهة المتمردين، واستطاع بفضل ذكائه وحنكته تحقيق الكثير من المكاسب على كافة المستويات، لكن الأمور لم تستمر طويلًا، فالأوضاع في الأستانة لم تكن مستقرة، وكان الأسطول العثماني على موعد مع معركة جديدة لاستعادة بعض الجزر في البندقية التي كان قد استولى عليها الروس، وعليه تم استدعاؤه من القاهرة.
حرب المورة.. ميلاد قائد جديد
كانت حرب المورة عام 1715، وهي إحدى معارك الحروب العثمانية الفارسية الممتدة على مدار 3 قرون، من عام 1532 حتى عام 1832، الباب الكبير لعثمان باشا للدخول إلى التاريخ، حيث ذاع صيته بصورة كبيرة بعد الجهود الكبيرة التي بذلها في تلك الحرب.
العديد من الوثائق التي أرّخت للحرب العثمانية اليونانية أشارت إلى الدور المحوري الذي قام به البكلربك العثماني في حرب المورة تحديدًا.
كانت الدولة العثمانية على موعد مع استرداد مستعمراتها المسلوبة على أيدي الروس ضمن معاهدة فارلوجة عام 1699، بجانب ما حصلتا عليه كل من البندقية والنمسا، لا سيما أن البلاد وقتها كانت تحت قيادة الصدر الأعظم علي باشا الذي كانت لديه ميول استعادة أملاك بلاده، وكانت البداية بالمورة.
وفي 8 ديسمبر/ كانون الأول 1714 كان على رأس أسطول هائل لاسترداد بعض الجزر التي بحوزة البندقية، واستطاع بفضل عثمان باشا الاستيلاء على كافة قرى البلدة ما عدا إحدى الجزر التي تركت كمنفذ لهروب الأسطول البندقي، ليسدل الستار على تلك القوة التي طالما صالت وجالت في ذلك الوقت.
العديد من الوثائق التي أرّخت للحرب العثمانية اليونانية أشارت إلى الدور المحوري الذي قام به البكلربك العثماني في حرب المورة تحديدًا، وهي التي عظمت من شأنه لدى سلطان الإمبراطورية الذي ارتأى أن يكرمه على ما بذله طيلة سنوات الحرب ومن قبلها في مصر.
الصدر الأعظم
واصل طوبال عثمان باشا جهوده المستمرة لدعم الدولة العثمانية على أكثر من مستوى، الأمر الذي عزز مكانته فكان القرار بتعيينه صدرًا أعظم في سبتمبر/ أيلول 1731، واستطاع في وقت قصير أن يحدث طفرة كبيرة في العديد من قطاعات الدولة.
كانت إسهاماته في الاقتصاد واضحة للجميع، فتراجعت الأسعار وزادت معدلات التنمية وتحسنت مستويات الحياة للمواطنين، كذلك الجيش الذي أدخل فيه العديد من التطورات التسليحية والقتالية، بجانب إدخاله النظام الأوروبي إلى المؤسسة العسكرية الوطنية.
وعلى المستوى السياسي حقق عدة انتصارات دبلوماسية، منها تقوية العلاقات العثمانية الفرنسية بصورة لم تشهدها من قبل، وكان لها تداعياتها الإيجابية على مستوى التطور والنمو لكلا البلدين، هذا بجانب استعادته لبعض المدن التي سلبت من الدولة كما سيرد ذكره لاحقًا، كما هو الحال مع همذان وطوروس، فضلًا عن استعادته لإقليم جورجيا من الفرس.
لكنه في المقابل لم يكمل في منصب الصدر الأعظم سوى 6 أشهر فقط، حيث عُزل في مارس/ آذار 1732 من دون أي أسباب معلنة، رغم النجاحات التي تحققت على يديه في تلك الفترة القصيرة، فيما أرجع مؤرخون هذا القرار إلى حرص السلطان محمود الأول (1696- 1754) على عدم ترك أي مسؤول في منصبة لفترة طويلة خشية تضخم سلطته ونفوذه بما يؤثر على الدولة مستقبلًا.
هزيمة الصفويين
خرج الجيش العثماني في شتاء عام 1731 للتصدي لجيش الصفويين بعد توارد الأنباء التي أشارت إلى عزم الصفويين بقيادة الشاه الصفوي طهماسب الثاني غزو أرمينيا وجورجيا، وكان هذا في الوقت الذي ذهب فيه القائد الشهير نادر الإفشاري إلى نصرة أخيه في مدينة مشهد في إقليم خراسان أقصى شرق بلاد فارس بعد تلقيهم هزيمة كبيرة.
خرج العثمانيون في جيشين منفصلين لملاقاة الصفويين، الأول من إسطنبول وكان على رأسه حكيم أوغلو باشا، ومن المقرر له التوجه إلى أرمينيا، أما الجيش الثاني فخرج من بغداد باتجاه غرب بلاد فارس بقيادة أحمد باشا، ليدخل الجيشان في اشتباكات عنيفة ابتداء من يوليو/ تموز من العام نفسه.
استمرت المواجهات العنيفة قرابة 6 أشهر كاملة، كتب فيها الغلبة في النهاية للعثمانيين، حيث سيطر أحمد باشا على كرمنشاه وهمدان غرب بلاد فارس، أما حكيم أوغلو باشا فحقق انتصارًا كبيرًا على طهماسب في أرمينيا، واستطاع أن يفرض سيطرته على أذربيجان ومدينتي أورمية وتبريز.
بعد عودة الإفشاري إلى أصفهان في أغسطس/ آب 1732، رفض المعاهدة التي وقعها طهماسب الثاني مع العثمانيين، فخلعه بالقوة ووضع ابنه الرضيع عباس الثالث (8 شهور فقط) على العرش.
وأمام تلك الهزيمة النكراء، طلب شاه بلاد فارس السلام مع العثمانيين الذين لم يترددوا في ذلك، فتم توقيع معاهدة أحمد باشا في يناير/ كانون الثاني 1732، وكانت تنص على استرداد العثمانيين كافة الأراضي التي استولى عليها القائد الصفوي نادر الإفشاري قبل ذلك.
تحرير بغداد
وبعد عودة الإفشاري إلى أصفهان في أغسطس/ آب 1732، رفض المعاهدة التي وقعها طهماسب الثاني مع العثمانيين، فخلعه بالقوة ووضع ابنه الرضيع عباس الثالث (8 شهور فقط) على العرش، ليصبح هو القائد الفعلي للبلاد، معلنًا عن تدشين جيش جديد لمواجهة العثمانيين.
كان قوام الجيش وقتها قرابة 300 ألف مجند (100 ألف مقاتل و200 ألف من العامة والفلاحين)، واستقر الإفشاري على حصار بغداد أولًا، لما تمثله من ثقل ومكانة لدى العثمانيين، فبدأ فرض حصار شديد في 12 يناير/ كانون الثاني 1733 من خلال بناء أكثر من 2700 برج للحصار.
استمر الحصار قرابة 7 أشهر كاملة، حتى وصل الإمداد من إسطنبول، جيش يضم 80 ألف مقاتل تحت قيادة طوبال عثمان باشا، الذي تم استدعاؤه لهذا المهمة وهو في السبعين من عمره، لكنه كان يتمتع بمستوى قتالي مرتفع، ورؤية سياسية وعسكرية متميزة.
كان اللقاء الأول للجيشين في سامراء (100 كيلومتر شمال بغداد) صبيحة 19 يوليو/ تموز 1733، وكانت السيطرة بداية الأمر للصفويين الذين نجحوا في الاستيلاء على بعض مدافع العثمانيين، لكن سرعان ما تدارك عثمان باشا الأمر، مستعينًا ببعض قوات الاحتياط التي قلبت الطاولة وأعادت النصر له مجددًا.
ظهر ذكاء طوبال عثمان في هذه المعركة في أكثر من موقف، لا سيما في استيلائه على مياه دجلة وإحكام السيطرة عليها، ما كان له تأثيره السلبي على جيش الصفويين الذي بدأ يتساقط واحدًا تلو الآخر من شدة العطش (يقال أن 30 ألف مجند صفوي قُتل في تلك الحرب)، فيما سقط الإفشاري من على جواده وسرت شائعة وفاته، الأمر الذي أثر سلبيًّا على جيش الصفويين ما دفعهم إلى الانسحاب والفرار أمام جحافل العثمانيين.
قائد حتى الموت
توقع العثمانيون أن هزيمة الصفويين تعني رفعهم للراية البيضاء، لا سيما أن كثيرًا منهم ذهب إلى بلاد فارس، لكن الوضع لم يكن كذلك، فبينما توجه طوبال بجيشه إلى كركوك التي تبعد 140 كيلومترًا عن سامراء التي شهدت هزيمة الصفويين، إذ بالقائد الصفوي يجهز العدة لمعركة جديدة.
وقبل مرور 3 أشهر على هزيمته في سامراء كان جييش الإفشاري يباغت طوبال باشا في كركوك الذي كان يعاني من نقص في العدة والعتاد، في مقابل إمدادات مستمرة من الصفويين، الأمر الذي جعل المعركة غير متكافئة على الإطلاق، وبات الحديث عن انسحاب عاجل للعثمانيين أمرًا واقعًا.
رفض القائد العثماني الانسحاب، وفضّل استمرار القتال رغم الفارق الكبير في القوتين، ودارت المواجهات خلال الفترة من 24 إلى 26 أكتوبر/ تشرين الأول 1733، ليسقط طوبال عثمان شهيدًا فيما أسرع أحد الجنود الصفويين بقطع رأسه بعد سقوطه من فرسه وذهب به إلى الإفشاري.
لم يفرح القائد الصفوي برأس غريمه العثماني الذي أذاقه أول هزيمة له في تاريخه العسكري، بل كان يقدّر الدور الذي لعبه في قيادة جيش بلاده، ولذا أمر بجمع الرأس المقطوع مع بقية جسده، وإعادتهما إلى بغداد في مراسم تشريفية تليق بالقائد الشجاع الذي آثر الموت في المعركة على الانسحاب حيًّا.
وبعد وفاته شاء الله أن يتحقق حلم طوبال عثمان بتحرير بغداد، حيث حدث انقلاب داخلي في فارس وخوزستان، دفع نادر وجيشه للعودة سريعًا إلى بلاد فارس، تاركين بغداد التي عادت لأهلها مرة أخرى من دون نقطة دماء جديدة، وكأن الله أراد أن يحقق لطوبال حلمه بعد مماته.