تتجه العلاقات الجزائرية الفرنسية من جديد نحو مزيد من التوتر والتعقيد، بعد أن ربطت الجزائر تعزيز علاقاتها مع باريس بالمعالجة الكلية لملف الذاكرة والاعتراف بجرائمها في مستعمرتها السابقة والاعتذار عنها، وهو طلب قد لا تلبيه بلاد الرئيس إيمانويل ماكرون التي بدأت تخسر جانبًا من استثماراتها في الجزائر لصالح دول أخرى في مقدمتها الصين.
ورغم مرور 59 سنة منذ استقلال الجزائر عن فرنسا بعد 132 سنة من الاحتلال الغاشم، ما زالت مواضيع الذاكرة تتحكم في العلاقات بين البلدين رغم المساعي التي قد تظهر من فترة إلى أخرى لدفع الشراكة الثنائية إلى مستوى استراتيجي.
تمسُّك
استذكر الجزائريون يوم السبت الماضي سقوط 45 ألف شهيدًا قتلتهم قوات الاحتلال الفرنسي في مجزرة دامية في 8 مايو/ أيار 1945 حين خرجوا إلى الشارع للمطالبة بالاستقلال بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، وهي الذكرى التي تم الاحتفال بها هذا العام كيوم للذاكرة بعدما أصدر الرئيس عبد المجيد تبون مرسومًا بذلك العام الماضي.
وقال الرئيس الجزائري في رسالة وجِّهت للمشاركين في احتفالات يوم الذاكرة التي احتضنتها ولاية سطيف، التي كانت مسرحًا لمجازر 8 مايو/ أيار 1945، إن هذه “المحطة الحاسمة من تاريخ كفاحنا المجيد تعد منعطفًا حاسمًا في كشف حقيقة الاستعمار”.
وأضاف الرئيس تبون: “لا بد أن نشير إلى أن جودة العلاقات مع فرنسا لن تتأتى دون مراعاة التاريخ ومعالجة ملفات الذاكرة، والتي لا يمكن بأي حال أن يتم التنازل عنها مهما كانت المسوغات، وما زالت ورشاتها مفتوحة كمواصلة استرجاع جماجم شهدائنا الأبرار، وملف المفقودين واسترجاع الأرشيف وتعويض ضحايا التفجيرات النووية في الصحراء الجزائرية”.
وأكد تبون أن بلاده “مصممة دومًا على تعزيز الشراكة الاستثنائية مع فرنسا لترتقي علاقاتها إلى المستوى الاستراتيجي إذا ما تهيأت الظروف الملائمة لذلك، ومعالجة كل ملفات الذاكرة بجدية ورصانة وتنقيتها من الرواسب الاستعمارية”.
وبيّن وزير الاتصال الناطق الرسمي للحكومة عمار بلحيمر أن التسوية الشاملة لملف الذاكرة، تتمثل في “اعتراف فرنسا الرسمي والنهائي والشامل بجرائمها وتقديم الاعتذار والتعويضات العادلة عن هذه الجرائم”.
ولم تكن الجزائر على الأقل رسميًّا واضحة في علاقاتها مع فرنسا بهذا الشكل، إذ أنه لطالما اتهم الخطاب الرسمي الجزائري بالغموض والفضفاض في مطالبة باريس بالاعتراف بجرائمها، كما أن التركيز على جانب التعويض يزيد من صعوبة حل الملف، بالنظر إلى أن هذا الجانب يعتبر غير قابل للنقاش بالنسبة إلى باريس التي لم تعوض حتى اليوم ضحايا تفجيراتها النووية في الجزائر رغم قيامها بهذا الفعل اتجاه عدة مستعمرات سابقة لها.
غير كافٍ
لا أحد ينكر أن باريس حتى إن ما زالت تستعمل أسلوب المراوغة، إلا أنها قامت بخطوات نحو معالجة ملف الذاكرة، غير أنها تبقى غير كافية ولا ترقى حتى لمستوى اعتراف الرئيس إيمانويل ماكرون خلال حملته الانتخابية بأن الاستعمار الفرنسي في الجزائر كان جريمة ضد الإنسانية، حيث لم يستطع الرئيس الشاب تكرار هذا التصريح منذ وصوله إلى قصر الإليزيه.
وحاولت باريس في احتفالات السبت إظهار نفسها أنها جادة في معالجة ملف الذاكرة، فقد حل سفير فرنسا بالجزائر فرونسوا غوييت بولاية سطيف، وقام بوضع إكليل من الزهور أمام النصب التذكاري سعال بوزيد، وهو أول شهيد في مجازر 8 مايو/ أيار 1945.
وقالت السفارة الفرنسية في الجزائر إن هذه الورود وضعت باسم الرئيس إيمانويل ماكرون.
وليست المرة الأولى التي تعترف فيها فرنسا بمسؤوليتها عن أحداث 8 مايو/ أيار 1945، التي سقط فيها 45 ألف من الجزائريين برصاص قوات الاحتلال، فقد سبق للسفير الفرنسي السابق هوبرت كولين دي فيردير أن قال عام 2005 إن هذه الأحداث “مأساة لا تغتفر”.
وقبل حلول الذكرى الستين لاستقلال الجزائر التي ستتزامن مع الانتخابيات الرئاسية الفرنسية، يعمل الرئيس ماكرون على استغلال ملف الذاكرة لاستقطاب الجالية العربية خاصة الجزائرية في فرنسا، التي تشير تقديرات رسمية إلى أن عددها قد يتجاوز 5 ملايين جزائري.
وقام ماكرون في الأشهر الأخيرة بإجراءات تظهره أنها يحاول بحق معالجة ملف الذاكرة، حيث كلف المؤرخ بنيامين ستورا بإعداد تقرير حول ما تسميه فرنسا “حرب الجزائر”، وسلمه له في يناير/ كانون الثاني الماضي.
ووجهت انتقادات من الطرف الجزائري لتقرير ستورا، كونه لم يتضمن دعوات للاعتراف والاعتذار عن الجرائم الفرنسية بالجزائر، حيث اعتبره عبد المجيد شيخي مستشار الرئيس تبون المكلف بالذاكرة الوطنية والأرشيف أنه ليس حدثًا لأنه شأن فرنسي-فرنسي، بالنظر إلى أن التقرير تضمن العديد من المغالطات.
وتصر الجزائر على المعالجة الصادقة والكلية لعدة ملفات تتعلق بالذاكرة منها استرجاع جماجم شهداء المقاومة الموجودة في متحف الإنسان بباريس، والأرشيف المنهوب الموجود هناك، ومعالجة ملف المفقودين، إضافة إلى ملفات أخرى كتعويض أصحاب التجارب النووية الفرنسية في الجزائر.
دفع التجاوب السطحي في معالجة ملفات الذاكرة مع الجزائر بأصوات من الداخل الفرنسي إلى مطالبة باريس بالاعتراف الرسمي بجرائمها في الجزائر.
وتعترف الجزائر بوجود تحرك من الطرف الفرنسي لمعالجة ملف الذاكرة مقارنة بالسنوات الماضية، غير أنها تعتقد أن صانع القرار في باريس يبقى غير قادر على مواجهة جماعات ضغط ولوبيات في فرنسا لا تقبل المعالجة الحقيقية لملف الذاكرة، في إشارة إلى اليمين المتطرف ممثلًا في حزب مارين لوبان والأقدام السوداء والحركى.
وقال وزير الاتصال الجزائري: “إننا ندرك أن اللوبيات المعادية للجزائر داخل فرنسا وخارجها ستواصل الضغط بكل الوسائل من أجل عرقلة مسار ملف الذاكرة، إلا أننا سنظل على موقفنا المبدئي من هذا الملف الذي تجتمع حوله الأمة الجزائرية”.
ودفع التجاوب السطحي في معالجة ملفات الذاكرة مع الجزائر بأصوات من الداخل الفرنسي إلى مطالبة باريس بالاعتراف الرسمي بجرائمها في الجزائر، كونها جرائم حرب ضد الإنسانية، منهم على سبيل المثال لا الحصر المؤرخ والخبير السياسي أوليفييه لوكور غراندميزون.
انعكاسات
رغم أن التعاون التجاري بين الجزائر وفرنسا يبقى كبيرًا، إلا أن مماطلة باريس في معالجة ملف الذاكرة بشكل جدي، جعلها تخسر جزءًا من نفوذها الاقتصادي في الجزائر، خاصة بعد حراك 22 فبراير/ شباط 2019 الذي طالب فيه الجزائريون بعلاقات ندية مع باريس، وإنهاء حالة التبعية للمستعمر القديم.
وخلال السنتين الأخيرتين، خسرت باريس عدة صفقات حيوية في الجزائر، خاصة بعد كشف تجاوزات وصفقات فساد متورطة فيها شركات فرنسية، فقد أعلن وزير الموارد المائية مصطفى كمال ميهوبي منذ أيام أن العقد المبرم مع الشريك الفرنسي المفوض لضمان تسيير المياه في مدينتي الجزائر العاصمة وتيبازة وسط البلاد الذي ينتهي في شهر أغسطس/ آب المقبل، قد لا يتم تجديده بسبب المخالفات الملاحظة في تطبيقه من جانب الطرف الفرنسي، مع العلم أنه قد تم العام الماضي إقالة عدة مسؤولين في هذه الشركة منهم فرنسيين بتهم تتعلق بسوء التسيير.
وقبل أيام، كشفت صحيفة الشروق اليومي أن مصالح الأمن المختصة في مكافحة الجريمة المالية والاقتصادية أنهت تحقيقاتها في ملف الفساد المتعلق بصفقات أبرمتها الشركة الفرنسة ألستوم مع شركة سونلغاز ومؤسستَي ميترو وترامواي الجزائر بقيمة مالية إجمالية تفوق ألفي مليار دينار جزائري، لإنجاز محطات توليد الكهرباء وميترو الجزائر والتكفل بأشغال الهندسة المدنية وتجهيزات النقل والبنى التحتية لترامواي مدينتي وهران وقسنطينة، وهو الملف الذي سيحال على الجهات القضائية في الأيام القليلة المقبلة.
ومنعت الحكومة الجزائرية العام الماضي بيع شركة أنداركو الأميركية أصول لها في مشاريع الغاز والنفط بالجزائر لصالح الشركة الفرنسية توتال.
ولا تتوقف الخسارة الفرنسية التي تتكبدها في السوق الجزائرية عند الخلاف أو إنهاء صفقات معينة، إنما في إيجاد بدلاء آخرين لباريس ومنافسين لها محليًّا وإقليميًّا، وفي مقدمتهم الصين التي فازت مؤخرًا بصفقتين هامتين، تتعلق الأولى باستغلال منجم غار جبيلات للحديد جنوب البلاد، والثانية بإنجاز ميناء الحمدانية بولاية تيبازة وسط شمال البلاد الذي سيكون الرابط بين الضفة الشمالية للمتوسط والقارة الإفريقية، بعد دخول اتفاقية التبادل الحر الإفريقية حيز التطبيق مطلع العام الجاري، وذلك دون نسيان تركيا التي تحقق شراكتها مع الجزائر تقدمًا متواصلًا وتنوعًا، إذ تعد المستثمر الأجنبي الأول في البلاد خارج المحروقات.
ومن المؤكد أن انفراج العلاقات الجزائرية الفرنسية، خاصة ما تعلق منها بملف الذاكرة لن يكون غدًا، بالنظر إلى وجهة نظر كل طرف، فالجزائر ترى أن الاستعمار يستوجب التجريم حتى ولو ما زالت إلى اليوم لم تصدر نصًّا قانونيًّا بشأن ذلك لاعتبارات سياسية، أما باريس رغم التصريحات المنعزلة لبعض المسؤولين حول الإحساس بوصمة عار جراء أفعال فرنسا الإجرامية المرتكبة، فهي مصرة حتى اليوم على أن احتلالها للجزائر ولدول إفريقية أخرى يستحق التمجيد وفق ما جاء في قانون 23 فبراير/ شباط 2005 الذي ترفض التراجع عنه وإلغاءه.