فصل الإخوان وظيفيًا.. شماعة السيسي المستساغة لتبرير الفشل

في حلقة جديدة من مسلسل الإقصاء المستمر بدعوى الحفاظ على أمن البلاد واستقرارها في مواجهة الأشرار كما يصفهم الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، استعرض أمين سر لجنة القوى العاملة بمجلس النواب المصري (البرلمان)، عبد الفتاح محمد عبد الفتاح، مشروع قانون جديد يعطي الحق لأجهزة الدولة في فصل الموظفين المنتمين إلى جماعة الإخوان المسلمين.
المشروع الذي لم يقدم رسميًا للبرلمان حتى الآن، في انتظار عرضه على حزب “مستقبل وطن” الذي ينتمي إليه مقدمه، لا يتعلق بالمنتمين للإخوان فقط، بل يتجاوز ذلك إلى المتعاطفين معهم كذلك، بزعم أنه “سيقضي على العديد من الظواهر السلبية التي تحدث في المصالح الحكومية”، بخلاف أنه لم ينحصر على موظفي القطاع العام دون غيرهم، إذ يشير مقدمه إلى امتلاكه مشروع قانون آخر لمعاقبة موظفي القطاع الخاص كذلك.
مشروع القانون الجديد يسمح للدولة بفصل الموظفين بقرار مباشر، دون عرضهم على جهات التحقيق المختصة بهذا الشأن، سواء من خلال المحاكم التأديبية أم النيابة الإدارية، كما أنه يعطي الإدارات العامة داخل المؤسسات الحكومية كافة الصلاحيات لاتخاذ قرارات الإقالة والعزل دون رقابة فوقية عليها.
وكان القانون المعمول به مؤخرًا يقصر مسألة الإبعاد عن الوظيفة على من تم إدراجهم بقوائم التنظيمات الإرهابية أو صدرت بحقهم أحكام مخلة بالشرف وسوء السمعة، لكن يبدو أن الحكومة رأت في المسار القضائي مضيعة للوقت فلجأت إلى التقارير الأمنية لإثبات العلاقة بين الموظف والإخوان ومن ثم فصله دون تحقيق أو مساءلة.
ليس الأول من نوعه
المشروع المقدم حديثًا ليس الأول من نوعه، فهو يأتي في إطار سلسلة القوانين والتشريعات التي أصدرها البرلمان الماضي برئاسة علي عبد العال، ويكملها الحاليّ برئاسة حنفي الجبالي، بهدف تجفيف منابع التطرف وفق المبررات المساقة لتمرير تلك القوانين شعبيًا.
في نوفمبر/تشرين الثاني 2020 كان مجلس النواب المصري قد أقر قانونًا جديدًا يهدف إلى فصل الموظفين الإخوان من الجهاز الإداري للدولة، إذ تضمن المشروع المقدم وقتها تعديل القانون 10 رقم لسنة 1972 بشأن “الفصل بغير الطريق التأديبى” الذي قدم من أكثر من 60 نائبًا.
وكان الهدف منه وفق ما أشار النائب علي بدر، أحد مقدمي المشروع، هو “تنقية الجهاز الإداري في الدولة من العناصر الإرهابية، حفاظًا على الدولة المصرية، لا سيما مع المساعي الكبيرة التي نشهدها للنهوض والبناء في كل المجالات والقطاعات”.
المادة الأولى من التعديل المقدم الخاصة بالفصل بغير الطريق التأديبي كانت تنص على أنه لا يجوز الفصل بغير الطريق التأديبي للموظفين أو العاملين بإحدى وحدات الجهاز الإداري للدولة المصرية، أو وحدات الإدارة المحلية إلا في عدة أحوال: إذا أخل العامل بواجبات الوظيفة التي تسبب أضرارًا جسيمة بالإنتاج أو بمصلحة اقتصادية للدولة أو لأي من الجهات المنصوص عليها بهذه المادة، إذا قامت بشأنه دلائل جدية على من يمس أمن الدولة وسلامتها، إذا فقد أسباب الصلاحية للوظيفة التي يشغلها لغير الأسباب الصحية، إذا كان فاقدًا للثقة والاعتبار، إذا أدرج على قوائم الإرهابيين المنظمة بأحكام القانون رقم 8 لسنة 2015 في شأن تنظيم قوائم الكيانات الإرهابية والإرهابيين على أن يعاد إلى عمله في حالة إلغاء قرار الإدراج”.
القانون وقتها أثار موجة انتقادات حادة، لا سيما أنه يتعارض بشكل كبير مع الدستور، ويمثل انتهاكًا فاضحًا لأبجديات مواثيق حقوق الإنسان، فيما ذهب آخرون إلى أن الهدف منه ترهيب الموظفين وضمان ولائهم، الأمر الذي أرجأ تنفيذه بشكل مؤقت، حتى جاء الإعلان عن المشروع الجديد.
شماعة الفشل
اللافت للنظر في دوافع تقديم هذا المشروع بحسب البرلماني الذي تقدم به “هو ما شاهدناه من حوادث متكررة في القطارات” وهو الوتر الذي طالما عزف عليه وزير النقل، كامل الوزير، تبريرًا لحوادث القطارات الأخيرة التي زادت بصورة كبيرة، رغم الميزانية المفتوحة للوزارة للتطوير.
البرلمان يميل إلى وجهة نظر جنرال النقل، صديق السيسي المقرب، بأن هناك عناصر إخوانية وراء حوادث القطارات، متحايلًا بذلك على خضوعه للمساءلة الرقابية المفترضة، وكانت النتيجة واضحة، لم يقدم استجواب واحد بحق الرجل، وحين طلب هو الإدلاء ببيان أمام البرلمان كان ردة الفعل “تصفيق حاد وعناق للوزير”، علمًا بأن وزير النقل السابق كان قد أطيح به من منصبه بسبب حادثة قطار رمسيس في 2019.
تحول الإخوان إلى شماعة جاهزة للسلطات الحاليّة لتبرير الفشل على كل المستويات، فالحرائق وارتفاع الأسعار والاحتقان الشعبي وحوادث الطرق والقطارات، وأحيانًا الطائرات، وعدم قدرة الحكومة على الوفاء بالتزاماتها تجاه الشعب، وتوتر العلاقات الخارجية مع بعض الدول.. كل هذا كان الإخوان المسؤولين عنه بحسب الروايات الرسمية والآلة الإعلامية الداعمة للنظام.
بل وصل الأمر إلى تصدير مسؤولية الإخوان والثورة عمومًا عن فشل مفاوضات سد النهضة التي ثبت يقينًا أن المتورط الأساسي فيها هو الرئيس نفسه الذي وقع على اتفاقية إعلان المبادئ عام 2015، وهي الاتفاقية التي تستند إليها إثيوبيا في تعنتها وإصرارها على إكمال البناء والملء.
لم يجد السيسي ونظامه أفضل من تلك الشماعة لاستخدامها حين يستدعي الأمر للتهرب من كل المسؤوليات الملقاة على العاتق في الفشل والتراجع في مستويات الأداء في مختلف القطاعات، مستغلًا الحالة الذهنية المتشبعة بتشويه صورتهم وتقبل كل ما يمكن أن يقال عنهم في ظل جيوش جرارة في الإعلام والدراما والسينما والثقافة، كلها تعزف على نفس الوتر، شيطنة يناير وكل المنتمين لها وعلى رأسهم تيارات الإسلام السياسي.
إقصاء وتفريغ
هناك إستراتيجية ممنهجة تتبعها السلطات الحاليّة لإقصاء كل من له علاقة بالجماعة من المشهد بتفاصيله كافة، بصرف النظر عن وجود أدلة إدانة تثبت تورط أي منهم من عدمه، فالهدف واضح والحكومة ليست في حاجة لأدلة، يكفيها التقارير الأمنية الواردة من جهاز الأمن الوطني.
آلاف الموظفين أطيح بهم من وظائفهم وفقدت أسرهم عائلها الوحيد، خلال السنوات الأخيرة، ليس بسبب تقصير في العمل أو عدم الوفاء بمتطلبات المهنة والوظيفة، لكن لمجرد وشاية وشى بها زميل ما، أو تقرير أمني مسيس في الغالب، أو لعدم الرضوخ لتعليمات وإملاءات المديرين، وكانت النتيجة إما النقل إلى إدارات بعيدة وإما تقزيم الدور والحجم والمنع من الترقي القانوني، وفي بعض الأحيان الفصل من العمل دون الحصول على الحقوق الخاصة به التي كفلها القانون.
البعض ذهب في تفسير هذا التحرك إلى رغبة النظام في ترهيب كل العاملين بالجهاز الإداري للدولة وإيصال رسالة مباشرة لهم بأن الولاء التام شريطة البقاء في الوظيفة، وليس التفاني في العمل أو الكفاءة كما هو معروف في الدول كافة، وعليه يضمن السيطرة الكاملة على هذه الشريحة التي يتم توظيفها واستخدامها السياسي بين الحين والآخر.
آخرون أشاروا إلى وجود مخطط رسمي لتقليل عدد العاملين بالقطاع العام بما يخفف من أعباء الدولة التي تعاني من تخمة في الديون والعجز جراء سياسة الاقتراض التي تتبعها طيلة السنوات السبعة الماضية، ومن ثم كان الإخوان والمتعاطفون معهم على رأس الفئات المتوقع أن توضع تحت المقصلة.
وبحسب دوائر سياسية وأمنية، فإن معظم الموظفين المنتمين للجماعة يعملون في الوزارات الخدمية مثل: التربية والتعليم والتعليم العالي والتنمية المحلية والصحة والأوقاف ومؤسسة الأزهر، ومن ثم فإن الإطاحة بهم سيخفف العبء نسبيًا عن كاهل الدولة، هذا بخلاف أن تلك الوزارات جهات ترتبط بكل فئات المجتمع، وهو ما يخشاه النظام.
تهديد مجتمعي
تحذيرات عدة أطلقها سياسيون وحقوقيون بشأن تلك التحركات التي من الممكن أن يكون لها تداعياتها المجتمعية الكارثية، لا سيما في ضوء البنود الفضفاضة التي تجعل من “قتل الأمان الوظيفي” للمواطن مسألة لا تساوى بضع كلمات تكتب في ورقة بيضاء دون تحقيق أو مساءلة شفافة.
وزير القوى العاملة المصري السابق، كمال أبو عيطة، أشار إلى أن “بعض المديرين الفاسدين قد يستخدمون هذا القانون في تحقيق أغراضهم الشخصية في الإطاحة بالموظفين الذين لا يروقونهم”، مؤكدًا أن الهدف الأساسي من مثل تلك المشرعات “التنكيل بالموظفين ذوي الآراء السياسية المعارضة للحكومة”، متسائلًا في تصريحاته لـ”بي بي سي عربي“: “لماذا ندع قانونًا جديدًا لفصل الموظفين يفتح بابًا لاتهام الدولة؟”.
الرأي ذاته ذهب إليه الناشط الحقوقي نجاد البرعي الذي قال: “قانون الفصل الجديد يخالف الدستور، وإصداره من البرلمان يعد خطأ كبيرًا يضر بالبناء القانوني للدولة”، موضحًا أنه “يفتقد مبدأ التدرج في العقاب قبل الفصل، ويعتمد في العقاب على أسباب خارج مهام وشروط الوظيفة ذاتها، بالإضافة إلى أن بعض الموظفين قد يُحذفون من قوائم الإرهابيين في وقت لاحق، لكنهم لن يتمكنوا من العودة إلى وظائفهم، إلا بعد إجراءات تُقاضي الجهة الإدارية”.
دخول مثل تلك التشريعات حيز التنفيذ سيمهد حتمًا لمرحلة جديدة من الاحتراب الأهلي، بحسب خبراء، فغلق كل نوافذ الحياة أمام شريحة ليست بالقليلة من المواطنين، ودفعهم للشارع قهرًا من خلال الانضمام لطابور البطالة دون سبب مقنع، من شأنه أن يعزز حالة الاحتقان التي من الممكن أن يتم تفريغها بصور شتى، بعضها قد يحمل تهديدًا لسلامة المجتمع وتماسكه.
كما أن إطلاق العنان لظاهرة “الوشاية” مرة أخرى بين الموظفين، باسم الوطن والاستقرار، سيفتح الباب لدوائر الانتقام والتشفي، ويعيد الأجواء إلى عصر الستينيات، حين كانت الدولة الناصرية وقتها تستخدم نصف الشعب في التجسس والإبلاغ عن النصف الآخر (كما تقول الأمثال الشعبية نقلًا عن تلك المرحلة) في مضمار التسابق لكسب رضا النظام حينها.
التوقيت.. علامتا استفهام وتعجب
وفق أبجديات العلوم السياسية فإن الظرفية التاريخية التي تمر بها الدولة المصرية في الوقت الراهن تتطلب تماسك الجبهة الداخلية وتوحيد قوتها في مواجهة التحديات الخارجية التي تهدد الأمن القومي المصري، لا سيما على مستوى القطاع المائي الذي يتعرض لتهديدات تعطيش مئة مليون مواطن.
زيادة حالة الاحتقان الشعبي في الآونة الأخيرة جراء فشل السيسي في إدارة ملف سد النهضة تحديدًا، كان لها تبعاتها السلبية على شعبية نظامه، وهو ما يمكن قراءته من خلال منسوب ومستوى الانتقادات التي تتعرض لها إستراتيجية القاهرة في إدارة هذا الملف.
تزامن ذلك مع موجات متتالية من الضغط على المواطنين من خلال حزمة من التشريعات والقوانين التي تستنزف طاقات الشعب وتفرغ جيوبه تحت مسميات عدة: رسوم تصالح وضرائب عقارية وزيادة أسعار السلع والخدمات وقيمة مضافة وزيادات ضريبية بين الحين والآخر.. إلخ.
كل هذا كان دافعًا لتوجيه دفة الرأي العام إلى مناحي أخرى، وهو ما يجيده النظام بشكل كبير، بما لديه من جيش جرار من الإعلام واللجان الإلكترونية، ولعل هذا كان السبب الأكبر في الجرعات الوطنية المكثفة من خلال الأعمال الدرامية التي تهدف إلى تحسين صورة الجيش والشرطة في مواجهة جماعات الإسلام السياسي، عبر الدفاع عن أمن البلاد وإنقاذها من مستقبلها المجهول، كما يروج مسلسل “الاختيار2” الذي يعرض حاليًّا.
التوظيف السياسي لحالة الانقسام المجتمعي عبر تغذيتها بين الحين والآخر بات النهج الأبرز حضورًا لنظام الجنرالات خلال السنوات الماضية، وفق ما ذهب خبراء، فاستدعاء التاريخ الدموي المعاصر، لأطراف لا تزال على قيد الحياة، للإبقاء على حالة الخصومة بين التيارات المجتمعية يعد السلاح الأكثر تأثيرًا بيد النظام، الذي استطاع من خلاله عبور الكثير من الأزمات التي لولا هذا السلاح لكان بقاؤه محل شك.