منذ أيام انتشر على منصات التواصل الاجتماعي مقطع فيديو لمسن وهو يبكي على ما يحدث بحي الشيخ جراح في القدس عاصمة فلسطين، للوهلة الأولى تشعر أن المستوطنين اليهود أخذوا منه بيته وهجروه من موطنه، لكن لك أن تتخيل أن هذا العم هو نازح سوري يعيش في خيمة من مخيمات النزوح بشمال سوريا، يبكي بحرقة كبيرة تضامنًا وحزنًا على ما يحدث في ثالث الحرمين.
كيف لا يبكي الحاج ويتضامن مع أهل حي الشيخ جراح وهو الذي ذاق مرارة التهجير والقهر والاعتداء من نظام الأسد، وقبل ذلك فإن قضية الأقصى حُفرت في وجدان السوريين ولطالما هبّوا من أجلها وتضامنوا معها، فباتت جزءًا من سرديتهم وهويتهم.
الحرب التي شنها نظام الأسد والإجرام الذي فعله بحق الشعب السوري جعلت السوريين يلتفتون إلى تضميد جراحهم، لكنهم اليوم وعلى الرغم مما فيهم تراهم كأنهم في القدس لكثرة اهتمامهم بما يحصل هناك.
تضامن ليس بجديد
منذ بداية الاعتداءات الإسرائيلية على أهالي حي الشيخ جراح والمسجد الأقصى، أصبحت منصات التواصل الاجتماعي السورية في حالة تغطية مباشرة لما يحدث هناك، فيسبوك وتويتر وإنستغرام وتيك توك ارتدوا الزي الفلسطيني، سيلٌ من التغريدات والمنشورات التي تتحدث عن التضامن ومشاعر الأخوة التي توحد الشعب الشامي في سوريا وفلسطين، ومع كل اعتداء صهيوني جديد يتذكر السوريون اعتداءات نظام الأسد عليهم من تهجير وانتهاك لحرمات المساجد وغيرها من الانتهاكات.
يشير الصحفي السوري قتيبة ياسين إلى وجود “كيمياء غريبة بين الشعبين السوري والفلسطيني وهي مختلفة عن البقية منشأها قديم جدًا”، مضيفًا في حديثه لـ”نون بوست”، “يوجد شبه جد كبير بين الشعبين بكل التفاصيل، فلباس أهل ضيعتنا التقليدي بإدلب لا تفرقه عن زي أهالي ضيعة زوجتي بصفد”، يكمل ياسين حديثه ويقول: “كل غريب للغريب نسيب، فالسوريون تهجروا مثل الفلسطينين من الجولان ومن ثم بعد حرب بشار الأسد”.
الناشط والكاتب السوري ورد فراتي يرى أن “القدس قضية عربية وإسلامية ونحن عرب ومسلمون، وبعد ذلك نحن أكثر من يعلم ما الذي يعنيه إخراج أحد من دياره قسرًا كما يريد الصهاينة أن يفعلوا بأهالي حي الشيخ جراح، فلدينا ملايين السوريين الذين ذاقوا مرارة هذا التهجير في الأعوام السابقة من مدنهم وبلداتهم وقراهم”، وعن الربط بين الممارسات الصهيونية في القدس وممارسات نظام الأسد في سوريا يقول فراتي في حديثه لـ”نون بوست”: “الربط ليس مع ما يفعله النظام السوري، بل مع ما يفعله الاحتلال الإيراني في سوريا، الذي هجر أهالي غوطة دمشق وحمص ودير الزور وحلب وغيرها لإحلال عوائل جنود ميليشياته الشيعية الطائفية متعددة الجنسيات مكانهم، هذا تمامًا ما يفعله الصهاينة ضمن نظام الاستيطان، فيهجرون الفلسطينيين أصحاب الأرض ليحلوا مكانهم صهاينة”.
يضيف فراتي “الشعب السوري الذي ثار على نظام الأسد الفاجر لم تغب فلسطين والقدس عنه يومًا حتى في أصعب ظروفه ويكفي أن تطالع أسماء عشرات كتائب وفصائل الثورة من الجيش الحر التي كانت تتشرف بحمل اسم القدس أو الأقصى”.
رد الجميل
للحديث أكثر عن حالة التعاطف والتضامن السورية مع ما يحصل في أولى القبلتين سألنا الشيخ مخلص برزق عضو هيئة علماء فلسطين عن نظرته للتضامن السوري مع الأحداث الجارية فأجابنا: “هذا ليس عجيبًا وليس غريبًا بل هذا هو نبض الأحرار بأن يكونوا دائمًا مع قضايا أمتهم ومسجدهم الأقصى المبارك، لأن هذا المسجد هو رمز عزة هذه الأمة والسوريون يتطلعون للعزة والكرامة والحرية”.
يضيف الشيخ برزق لـ”نون بوست”: “كل الذي قدمه السوريون في سنوات ثورتهم كلها من أجل أن يحيوا كرامًا والأمة كلها تريد أن تحيا كريمة وتتذوق معنى العزة من خلال إعادة قبلتها الأولى، فالسوريون هم أولى الناس بأن يتفاعلوا مع أحداث المسجد الأقصى المبارك لأنهم هم الذين ذاقوا مرارة الظلم من أجل ذلك وهم يرقبون ما يحدث على أرض المسجد الأقصى ويتحسسون ما جرى لهم بالذي يجري مع أهلهم وأحبابهم في أرض الإسراء والمعراج”.
يشير الشيخ برزق إلى أن ما يفعله السوريون اليوم هو “نوع من رد الجميل لأبناء المسجد الأقصى وأهل القدس والشيخ رائد صلاح الذي كان صوته عاليًا للانتصار لأهلنا وإخواننا السوريين ودعم ثورتهم على الطغيان والطغمة المجرمة التي سفكت دماء السوريين وارتكبت أكبر المجازر في سوريا”، مضيفًا “لم يقف الأمر على المناصرة في الموقف السياسي والشرعي بل امتد ذلك إلى جمع الدعم المادي وإرساله لإخواننا في مخيمات السوريين، كل ذلك ليبعث رسالة أننا أمة واحدة وننصر بعضنا بعضًا، نلمس هذا التفاعل”.
وكان الشيخ رائد صلاح قد تبرع من داخل سجنه لدى سلطات الاحتلال الإسرائيلية بجائزة مقدمة له من مؤسسة “وقف محمد إينان” التركية لدعم اللاجئين السوريين، عبر شراء خيام خاصة بهم، وذلك في شهر فبراير/شباط الماضي.
مقابل التضامن السوري مع القدس والأقصى، أهدى شبابٌ مقدسيون تحياتهم ودعواتهم من أمام مسجد قبة الصخرة للسوريين رافعين علم ثورتهم، ويذكر أن وسائل التواصل أتاحت للجميع التقارب، فأصبح للسوريين أصدقاءٌ مقدسيون كُثر، حتى إن بعض الشباب يفاخرون بمعرفتهم لبعض المرابطين بالمسجد الأقصى، وكذا الحال مع شباب القدس المتعاطفين مع الثورة السورية وأهلها، ومثال ذلك الشاب صالح أحد أشهر الشباب في القدس الذي يرسل تحياته لسوريا وأهلها دون أي مناسبة.
من القدس صباح الخير لسوريا وأهلها ??
لا ما في اشي بس حبيت أصبّح على أهل سوريا
— Saleh Zighari (@SalehZighari) April 7, 2021
السوريون في معركة القدس أيضًا
خرج المئات في مظاهرات بمناطق ريف حلب الشمالي التي تقع تحت سيطرة المعارضة السورية نصرةً للأقصى وحي الشيخ جراح، فيما يُتوقع أن تخرج مظاهرات في مناطق عدّة بالشمال السوري المحرر، إلى ذلك شارك سوريون – مع الأتراك وجاليات أخرى- في مظاهرة كبيرة أمام قنصلية الاحتلال الإسرائيلي في إسطنبول تنديدًا بممارسات الاحتلال في أحياء القدس والمسجد الأقصى.
من أمام قنصلية المحتل الإسرائيلي في مدينة اسطنبول التركية
كانت الهتافات واحدة ضد العدو الغاشم بحضور من جميع الجنسيات
وكان الحضور بقوة لأبناء الثورة السورية الذين رفعوا راية الحق بجانب راية الفلسطينيين#من_أجل_القدس#الأقصى#حي_الشيخ_الجراح pic.twitter.com/a50DgpOkOW
— عبدالقادر محمد لهيب (@abdalkaderlhep2) May 9, 2021
على صفحات التواصل لا يمكن أن تميز اليوم بين السوري والفلسطيني، فالكل واحد والقضية واحدة، في هذا الصدد كتب المعارض السوري البارز جورج صبرا: “السوريون ليسوا متضامنين مع القدس وأهلها والشعب الفلسطيني. ببساطة لأن القضية الفلسطينية وما يجري في القدس قضيته أيضًا. هكذا كانت منذ نشوء المشروع الصهيوني وفي جميع مراحل الصراع وحتى اليوم. وارتفاع علم الثورة السورية في سماء الأقصى دليل على ذلك. السوريون في معركة القدس أيضًا”.
السوريون ليسوا متضامنين مع القدس وأهلها والشعب الفلسطيني . ببساطة لأن القضية الفلسطينية وما يجري في القدس قضيته أيضاً . هكذا كانت منذ نشوء المشروع الصهيوني وفي جميع مراحل الصراع وحتى اليوم . وارتفاع علم الثورة السورية في سماء الأقصى دليل على ذلك .
السوريون في معركة القدس أيضاً .
— George Sabra (@GeorgeSabra_sy) May 10, 2021
في منشور له يقول الباحث السوري أحمد أبازيد: “رمضان العام عنوانه الشيخ جراح، تتهدم المنازل وتبقى أصوات من سكنوها، ذاكرتهم ورائحتهم وظلالهم على الجدران، وتشبثهم العنيد بحقهم هم في البيت والهواء والزمن، رغم شروط الواقع ومنطقية اليأس أمام السطوة العتيدة، فإن يقين الثائر أنه هو من يحدد شروطه، يصير الكرسي سلاحًا، وإصبع الطفل المشهر محكمة، والنشيد الصوفي على باب الأقصى قصيدة حرب، والرأس الذي تكاثرت عليه أقدام الجند مئذنة تنادي لصلاة الحجارة، وتتجلى كل الأنوثة في فتاة تشتم الاحتلال والحكام”.
يضيف أبازيد “حين سخروا قبل عشر سنين من الشباب الفتيّ وقالوا جيل الفيسبوك، كان الجيل القيامة، وسخروا اليوم من الشباب الفتيّ وقالوا جيل التيك توك، لكنه يقاومهم بالحجر والكرسي والبث الحي والكلاشينكوف، كلّ نفّس يصير مقاومة حين يريدها الجيل مقاومة، تخطئ السلطات والعروش ولكن تعرف الحجارة القديمة ميراث الغضب الذي يحمله جيل عن جيل، وتعرف أن للثورة صدى لا يزول”.
في السياق يقول الناشط السوري وائل عبد العزيز: “كل صورة من فلسطين عم شوفها بالغوطة ودرعا وحمص وحلب، كل هتاف عم نسمع فيه صوت الساروت وفراس الباشي وكل هجوم على الصهاينة عم نشوف فيه محمد حاف وأحمد الحصري وأبو سلمو. نحنا ربينا على فلسطين وكبرنا مع جرحها وإن شاء الله رح نكون شركاء بنصرها”.
كل صورة من فلسطين عم شوفها بالغوطة ودرعا وحمص وحلب، كل هتاف عم نسمع فيه صوت الساروت وفراس الباشي وكل هجوم على الصهاينة عم نشوف فيه محمد حاف واحمد الحصري وأبو سلمو. نحنا ربينا على فلسطين وكبرنا مع جرحها وان شاء الله رح نكون شركاء بنصرها. #انقذوا_حي_الشيخ_الجراح #القدس_تنتفض pic.twitter.com/85ayyFC6dB
— وائل عبد العزيز | Wael Abdulaziz (@waelwanne) May 8, 2021
وكان المجلس الإسلامي السوري قد أصدر بيانًا قال فيه: “المجلس يثمن الموقف البطولي للمرابطين في الأقصى وأكناف بيت المقدس ويخص منهم أهالي منطقة الشيخ جراح الصامدين المتشبثين بأرضهم وحقوقهم، وسيبقى المسجد الأقصى بإذن الله القبلة الأولى التي تُشد إليها الرحال، وستبقى شعلة الإيمان فيه عالية ثابتة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها”.
تداول السوريون أيضًا مقطعًا للشهيد عبد الباسط الساروت وهو ينشد للقدس في إحدى المعارك وحوله مقاتلون سوريون ضد نظام الأسد، كيف لا وقد ارتبطت القدس وفلسطين بهتافات الثورة السورية وأهازيجها منذ اليوم لانطلاقتها.
يقول الشيخ مخلص برزق: “المسجد الأقصى المبارك لا ينفك أبدًا عن شعور وعقيدة أي عربي ومسلم في أي بقعة في الأرض وخاصة السوريين، الكل الآن يتفاعل بقلبه ووجدانه ويعتبر ذلك عبادةً يتقرب بها إلى الله”، وعلى هذا الأساس يتضامن السوريون اليوم بكلماتهم وشعورهم ودعواتهم، معتقدين بأن تحرير المسجد الأموي في دمشق هو مقدمة لتحرير المسجد الأقصى.
وختامًا نتذكر كلمات المعارض السوري الراحل ميشيل كيلو في وصيته للسوريين: “لا تنسوا يومًا أن قضية فلسطين هي جزء من قضايانا الأساسية، ففلسطين قضية حرية وكرامة وعدالة، وقضية شعبنا كذلك، وتلك القيم السامية لا تتجزأ. كفاحنا مع شعب فلسطين جزءٌ من كفاحنا ضد الاستبداد، وبالعكس. ولتبق قضية استعادة الجولان في مقدّمة أجندتنا الوطنية”.