منذ بداية شهر رمضان، اشتعلت الانتهاكات الإسرائيلية في المسجد الأقصى ومدينة القدس، وانطفأت معها تغطية وسائل إعلام عربية “عريقة” كنتيجة لتغيرات سياسية وتحولات كبيرة في الشرق الأوسط.
بدأت القصة بتجاهل قضية مصادرة بيوت أهالي حي الشيخ جراح في القدس، ومن بعدها اقتحامات قوات الاحتلال للمسجد الأقصى واستفزازات المستوطنين.
واكتفت كثير من وسائل الإعلام خاصة في بعض الدول الخليجية، بنشر بيانات رسمية خجولة صادرة عن أنظمة تلك المنطقة تدعو إلى تهدئة التوتر، دون الإشارة إلى الفاعل أو إنصاف الضحية.
في أحد الأخبار، تحدثت صحيفة الشرق الأوسط السعودية عن دعوات دولية لتفادي التصعيد بعد ليلة من “الصدامات” في القدس المحتلة، دون أن تشير إلى انتهاكات قوات الاحتلال ومهاجمتها المصلين.
ولوحظ تغييب مصطلح “الاحتلال” أو حتى الإشارة إلى أن القدس محتلة، في تساوق على ما يبدو مع خطوة واشنطن للاعتراف بالمدينة عاصمة مزعومة لـ”إسرائيل”.
وبعد نحو 3 أيام من التصعيد في المسجد الأقصى، نشرت سكاي نيوز عربية التابعة لدولة الإمارات خبرًا وحيدًا عن دعوة واشنطن للتهدئة، بينما نشر موقع قناة العربية خبرًا يتيمًا عن وجود إصابات.
وتجنبت في اليوم ذاته صحيفة الشرق الأوسط حتى نشر خبر وجود إصابات في صفوف الفلسطينيين. وقبلها بيوم، تجنبت تلك المواقع تمامًا قضية القدس المحتلة.
وبعدها، لم تستطع قناة العربية تجاهل العدوان في حي الشيخ جراح، فالحدث أصبح عالميًّا ولا بد من تناوله، ولكن بانحياز إلى المعتدين وفق ما قال البروفيسور في الإعلام السياسي أحمد بن راشد بن سعيد.
وأضاف في تغريدة على تويتر: “لاحظ: الإيحاء بوجود قضاء حقيقي في الكيان. المقدسيّون عملوا “صدامات” مع “الشرطة” و”قوات الأمن”! هكذا جنود الاحتلال شرطة يحفظون أمن الناس!”.
اضطرت #العربية إلى تناول العدوان على #حي_الشيخ_جرّاح، لأن الخبر يتعلّق بصاحبها، أبو الغيط، صديق الصهيونية، تسيبي ليڤني، لكنها أخطأت في اسم الحي الذي ملأ الدنيا وشغل الناس، وهي التي لا تخطئ في اسم نتنياهو أو غيره من “أبناء العم”!#أنقذوا_حي_الشيخ_جرّاح pic.twitter.com/LgF1G7sXQs
— أحمد بن راشد بن سعيّد (@LoveLiberty_2) May 7, 2021
في مقابل هذا الصمت الإعلامي، تصدّر وسم #صفر_تعاطف_معهم الترند في السعودية من قبل الذباب الإلكتروني الذي بث دعاية معادية للفلسطينيين، وحاول حجب التعاطف معهم.
ولوحظ تغير الخطاب الإعلامي السعودي تجاه القضية الفلسطينية منذ أن أعلنت واشنطن عن صفقة القرن المزعومة، وسط حديث مستمر عن إمكانية تطبيع السعودية العلاقات مع “إسرائيل”، في خطوة سبقتها إليها الإمارات والبحرين.
ونقلت القناة العاشرة الإسرائيلية عام 2018 تسريبات عن لقاء جمع ولي العهد السعودي ببعض رؤساء المنظمات اليهودية الرئيسية في نيويورك، قال فيه إن القضية الفلسطينية ليست في سلّم أولويات حكومته ولا الرأي العام في السعودية، وإنه “توجد قضايا أكثر إلحاحًا وأهمية كإيران”.
منذ ذلك الحين، أصبحت السمة السائدة في السعودية هي الترويج للتطبيع ومهاجمة الفلسطينيين على وسائل الإعلام الرسمية، عبر مقالات رأي لكتّاب بارزين ومن خلال وسائل التواصل الاجتماعي.
وازدادت تلك الحملة شراسة بانضمام الإمارات والبحرين إلى المروجين بضرورة إقامة علاقات مع “إسرائيل”، مع شيطنة الفلسطينيين وفصائل المقاومة. ومن هنا يمكن فهم مسار التغطية الإعلامية للأحداث الأخيرة.
لكن وسائل الإعلام المذكورة لم تبقَ صامتة، حيث بدأت بتسليط الضوء أخيرًا على الأحداث الجارية في فلسطين المحتلة، ولكن بعد بدء فصائل المقاومة الفلسطينية بالرد على انتهاكات الاحتلال عبر إطلاق صواريخ على المستوطنات.
ونشرت وسائل الإعلام السعودية والإماراتية أخبار إطلاق الصواريخ في إيحاء منها أن فصائل المقاومة كانت هي السباقة في الهجوم، دون أن تشير إلى تراكم الأحداث وتصاعدها منذ بداية شهر رمضان أو انتهاكات الاحتلال في مدينة القدس المحتلة، ودون تركيز على قصفه لقطاع غزة المحاصر.
وبعد موجة من القصف المتبادل، نشرت قناة العربية خبرًا عاجلًا لقي تفاعلًا كبيرًا شابه صدمة واستغرابًا، جاء كالتالي: “وزيرا خارجية السعودية ومصر يؤكدان على ضرورة قيام إسرائيل بحماية المدنيين الفلسطينيين”.
وعلق الباحث السياسي الخليجي مهنا الحبيل: “هل سمعتم يومًا أحد يوجه خطابه لجيش يهاجم المدنيين عسكريًّا وبالذخيرة الحية ويهدم منازلهم ويقتلعهم من أرضهم ولا يوجد هناك جيش مقابل ولا مفرزة عسكرية تدافع عنهم في #القدس ثم يُخاطَب العدو بحماية من يهاجمهم بدلًا من إدانته ودفعه لوقف الاعتداء، سفاهة دبلوماسية ترعى العنف وتباركه”.
هل سمعتم يوماَ أحد يوجه خطابه لجيش يهاجم المدنيين عسكرياَ وبالذخيرة الحية ويهدم منازلهم ويقتلعهم من أرضهم
ولا يوجد هناك جيش مقابل ولا مفرزة عسكرية تدافع عنهم في #القدس
ثم يُخاطَب العدو بحماية من يهاجمهم
بدلاَ من إدانته ودفعه لوقف الأعتداء
سفاهة دبلوماسية ترعى العنف وتباركه https://t.co/kwrP6npJuf
— مهنا الحبيل (@MohannaAlhubail) May 10, 2021
ومع أن هذا النوع من التغطية يأخذ شكل الحياد السلبي، فإن الصحافي محمد خمايسة يرى أن التبجح بالموضوعية الصحفية في القضايا التي تكون سرديتها الإعلامية الكبرى متوجهة ضد الضحية ومع الجلاد، هو فهم صنمي للعمل الصحفي.
ويقول في تغريدة على تويتر إن “وظيفة الصحافة هي إيصال صوت الأقلية بشكل مكافئ للأغلبية؛ وفي حالة فلسطين فالانحياز للشعب الفلسطيني ومقاومته ضد الاحتلال هو فعل أخلاقي مهني بحت ودونه انتهاك”.
التبجح بالموضوعية الصحفية في القضايا التي تكون سرديتها الإعلامية الكبرى متوجهة ضد الضحية ومع الجلاد هو فهم صنمي للعمل الصحفي. وظيفة الصحافة هي إيصال صوت الأقلية بشكل مكافئ للأغلبية؛ وفي حالة فلسطين فالانحياز للشعب الفلسطيني ومقاومته ضد الاحتلال هو فعل أخلاقي مهني بحت ودونه انتهاك
— Muhammad Khamaiseh (@Mohdkhamaiseh) May 10, 2021
وفي خضم الأحداث، عبّر عبد الخالق عبد الله المستشار السابق لولي عهد أبوظبي محمد بن زايد عن فرحته باحتضان دبي لأغنياء اليهود بعد اتفاقية التطبيع الأخيرة.
تقرير صندي تايمز: أعداد متزايدة من أغنياء اليهود في العالم يتجهون للعمل والاستقرار في دبي ويفضلونها على باريس ولندن ونيويورك وحتى تل ابيب بسبب التسامح والافتتاح والأمن والأمان الذي تتصف به دبي وتحولها إلى مركز عالمي مزدهر للمال والأعمال. https://t.co/GwlvUmrgCm
— Abdulkhaleq Abdulla (@Abdulkhaleq_UAE) May 10, 2021
وإضافة إلى اتفاقية التطبيع، وقّعت كل من الإمارات و”إسرائيل” في ديسمبر/ كانون أول الماضي مذكرة تفاهم تهتم بقطاع الإعلام. وفي حينه كشفت مصادر إعلامية أن المذكرة تتضمن عدم بث أخبار انتهاكات وجرائم الكيان الإسرائيلي بحق الفلسطينيين في وسائل الإعلام الإماراتية، وإبراز الرواية الإسرائيلية في مقابل حجب نظيرتها الفلسطينية.
في مصر أيضًا لقيت التغطية الإعلامية للأحداث في القدس المحتلة انتقادات عديدة رغم التطرق إلى الانتهاكات الإسرائيلية.
وجاءت الانتقادات بعد أن استغل إعلام النظام المصري الأحداث لشيطنة الإسلاميين وحركات وفصائل أخرى، مع التركيز في الغالب على جهود رئيس النظام لوقف التوتر.
احنا كويسين أهو وبندافع عن القدس زيكم ? pic.twitter.com/vjwjkdteps
— خمسة بالمصري (@egy_five) May 9, 2021
وقالت الصحافية المصرية رشا عز: “مبهورة أن في ملفات بيتم استبعادها من التغطية والإعلام المصري عامة بشكل يصل لحد التضليل”، وذكرت من بينها الاشتباكات اليومية في القدس المحتلة.
مبهورة أن في ملفات بيتم استبعادها من التغطية والإعلام المصري عامة بشكل يصل لحد التضليل، الاول ملف كارثة سد النهضة مع بدء الملئ التاني وكأن الموضوع ميخصناش اصلا، الوضع الكارثي لكورونا في البلد واخيرا الاشتباكات اليومية في القدس مع اشبال السفاحين الصهاينة.شكرا لصحافة المواطن والله
— رشا عزب (@RashaPress) April 24, 2021
في المقابل، كانت التغطية الإعلامية قوية وعلى قدر الحدث في وسائل إعلام قطرية وكويتية، وما كان لافتًا هنا نشر صحيفة القبس الكويتية على غلاف صفحتها الأولى صورة القدس المحتلة مع كلمة “قدسنا”، والتي لقيت إعجابًا كبيرًا على السوشال ميديا.
“قُدْسُنا”.. الصفحة الرئيسية لصحيفة #القبس الكويتية، اليوم ????#القدس_تنتفض#انقذوا_حي_الشيخ_جراح#فلسطين_قضيتي pic.twitter.com/l1awIeCtNp
— صور فلسطين (@PalestinianPic) May 9, 2021
وواكبت قناة الجزيرة القطرية الأحداث بقوة وعلى مدار الساعة ونقلت الصورة بكل أبعادها وزواياها، “كي لا يغيب المشاهد عن الواقع ويتحول خبر الصاروخ الصيني المارق عنوانًا بدلًا عنه!”، وهو ما حدث في وسائل الإعلام السعودية والإماراتية.
وراء تغطية الجزيرة جهود جبارة لصحفيين نجحوا دائما في امتحان مواكبة الحدث ونقل الصورة بكل أبعادها وزواياها.. كي لا يغيب المشاهد عن الواقع ويتحول خبر الصاروخ الصيني المارق عنوانا بدلا عنه! pic.twitter.com/69xcfWHwBj
— Mohamed Moawad محمد مُعوّض (@moawady) May 10, 2021