لم تشهد مدينة القدس المحتلة منذ أيام هدوءًا أو سلامًا أو استقرارًا أمنيًّا، إذ إن الاضطرابات الجارية في المدينة المقدسة حاليًّا ليست من النوع اليومي الذي يشهده سكان المدينة المحتلة من حملات اعتقال أو تفتيش على الحواجز، أو حتى إصدار قرارات هدم للبيوت الفلسطينية، بل ذهبت لتمسّ أقدس الأماكن في المدينة، بالإضافة إلى تهجير ممنهج للسكان.
وعلى الرغم من كبر المصاب عند الحديث عن هدم البيوت أو اعتقال أو عرقلة للحياة اليومية، إلا أن هذه الحوادث باتت شبه طبيعية ويومية لسكان يخضعون تحت الاحتلال الإسرائيلي منذ عقود. ولكن ما تشهده مدينة القدس المحتلة هذه المرة هو نكبة جديدة لنحو 20 عائلة فلسطينية تقيم في حي الشيخ جراح، وهو حي فلسطيني شرق مدينة القدس المحتلة.
بدأت قصة هذه العائلات منذ سنوات طويلة، حين بدأت المحكمة العليا الإسرائيلية بإصدار قرارات إخلاء بيوت لبعض سكان هذه القرية، وسمحت للمستوطنين بالإقامة فيها.
حراك سياسي وثوري
لم يستطع سكان الحي الصمت إزاء القرارات المتلاحقة لإخلاء بيوتهم ورفض المحكمة لطلبات الالتماس التي تقدمها العائلات من أجل البقاء فيها، فلجأوا إلى ما يعرف بـ”المقاومة الشعبية” للتصدي لنكبة التهجير الجديدة هذه، واتبعوا طرقًا مختلفة للتعبير عن رفضهم لهذه القرارات مثل المسيرات ورمي الحجارة وفضح انتهاكات القوات الإسرائيلية عبر منصات التواصل الاجتماعي، واستغلال شهر رمضان المبارك لإقامة موائد الإفطار في الشوارع وبجوانب البيوت المهددة بالإخلاء. واتسعت خطوط المواجهة في الأيام الأخيرة، ليصبح المسجد الأقصى وما حوله ساحة لاشتباكات قوية بين الفلسطينيين وقوات الاحتلال التي صعّدت من اعتداءاتها ضدهم وتحاول تفريغ المسجد من المسلمين تمهيدًا لتسهيل اقتحامات المستوطنين اليهود.
نساء على الجبهة
أثار ما يحدث في القدس المحتلة ضجة كبيرة حول العالم، ولاقت طرق المقاومة تعاطف الملايين من الناس على تنوع خلفياتهم السياسية والدينية، ولكن ما كان لافتًا هذه المرة هو الحضور القوي للنساء اللاتي تعاونَّ لتنظيم حملات المقاومة الشعبية، والتنسيق للفعاليات الميدانية.
تجذرت صورة المرأة صاحبة المشاركة السياسية القوية في أذهان المتفاعلين مع القضية أيضًا من خلال الصور والفيديوهات المنتشرة للنساء اللاتي شاركن في هذا الحراك الثوري والسياسي وهن يهتفن ويغنين ويتصدين للمستوطنين، أو حتى وهن يتعرضن للاعتقال ويواجهنه بثبات وابتسامة. فمشاركة النساء في الأحداث لم تكن صورية أو لأغراض دعائية، بل كانت في صميم الحراك وقيادته، مع التحلل من أي انتماءات حزبية أو سياسية أو قوالب تقليدية، وربما هذا ما يفسر الثقة الكبيرة لدى الجمهور، والانتشار الواسع الذي استطاعت هؤلاء النساء تحقيقه من خلال نشاطهن الإلكتروني والميداني في الحراك.
نماذج حية
منى الكرد
Israeli logic: “If I don’t steal it someone else is gonna steal it”
Israel’s policy explained.#IsraeliCrimes #StopApartheid pic.twitter.com/9bw2tCmNDQ
— Maha Hussaini (@MahaGaza) May 1, 2021
في غضون أيام قليلة، أصبحت الشابة منى الكرد -23 عامًا- رمزًا للشخصية الثورية والوطنية ليس في فلسطين المحتلة وحسب، بل لدى جميع المتابعين للأحداث في القدس المحتلة من حول العالم. استطاعت منى أن تستغل دراستها للإعلام، وامتلاكها لحساب على منصة التواصل الاجتماعي إنستغرام يتابعه الآلاف، من أجل إثارة قضية حي الشيخ جراح على الفضاء الإلكتروني. فجعلت من نفسها مراسلة ميدانية، تكتب الأخبار والبيانات، تلتقط الصور، توثق الانتهاكات وتنشرها، تشارك متابعيها بالساعات للفعاليات التي يتم تنظيمها داخل الحي، أو للانتهاكات التي تقترفها قوات الاحتلال الإسرائيلي.
جمعت الكرد عبر حسابها على إنستغرام أكثر من 300 ألف متابع في غضون أيام قليلة، ونقلت إليهم معاناة أهالي حي الشيخ جراح على نحو خاص، ومعاناة سكان مدينة القدس المحتلة على نحو عام. وساهم نشاطها وحضورها الكثيف على منصات التواصل الاجتماعي في جعل قضية الشيخ جراح تتصدر الأوسمة المنتشرة على تويتر والمنصات المختلفة، وحولت هذه القضية التي كانت قبل أسابيع قليلة قضية مجهولة لا يعرف عنها أحد، إلى إحدى أكثر القضايا حضورًا على المواقع الإخبارية وبين مشاهير العالم العربي والغربي الذين آمنوا بها ونشروا عنها أيضًا.
ولم تكتفِ منى بنشر الوعي والأخبار التي تتعلق بقضية الشيخ جراح، بل نقلت هذا الجهد إلى مستوى آخر من خلال محاورتها لأحد المستوطنين الذي يخطط للاستيلاء على بيتها، فبعد محاولات منها لإقناعه بأن ما يقوم به هو سرقة بحتة، انتزعت منه اعتراف مصور وهو يقول للجميع: “إذا لم أسرق بيتك، سيأتي شخص غيري ويسرقه”. انتشر هذا الفيديو كالنار في الهشيم، وتداولته وسائل إعلام مختلفة وشخصيات مشهورة، وأدى اعترافه إلى وضع علامات استفهام كثيرة من قبل الأشخاص الذين يعتقدون أن “إسرائيل” هي دولة قانونية وصاحبة حق.
مريم العفيفي ومريم عساف
لحظة احتجاز و اعتقال المرابطة “مريم العفيفي” في القدس..
ورغم الاعتداءات والتنكيل بها.. تهزمهم إبتسامتها♡#أنقذوا_حي_الشيخ_جراح pic.twitter.com/tsVg8QyNta
— WAFAA’ (@WAFAA__1212) May 9, 2021
Mariam Afifi, the Palestinian girl, who was attacked and arrested brutally by the Israeli soldiers, She is free now. ??????✌️✌️#SaveSheikhJarrah #SavePalestine#مريم_العفيفيpic.twitter.com/NTwjyV5PFP https://t.co/cwwrPnAzC5
— Arfat Osmann (@Osmannarfat) May 9, 2021
قـوات الاحتـلال تعتـقل الشابة مريم عساف من المظاهرة المُـناصرة لحي الشيخ جراح في حيفا المُحـتلة pic.twitter.com/meQDT7S6Vg
— GHAID ? (@Ghaid_Emad) May 9, 2021
تعرضت الناشطتان الفلسطينيتان مريم العفيفي ومريم عساف للاعتقال من قبل قوات الاحتلال الإسرائيلي. اعتقلت العفيفي أثناء وجودها في تظاهرة في مدينة القدس، أما عساف فاعتقلت للأسباب ذاتها في مدينة حيفا. دفعت الطريقة الوحشية التي اعتقلت بها السيدتان رواد مواقع التواصل الاجتماعي إلى تداول صور وفيديوهات لحظة الاعتقال على نحو كبير، وأعادت هذه المقاطع قضية الاعتقال التعسفي واستخدام القوة ضد المتظاهرين السلميين إلى الواجهة من جديد، وكشفت أكذوبة “الدولة الديمقراطية” التي تروج لها “إسرائيل” طوال الوقت سواء لدى العالم الغربي أو العربي الذي يسعى إلى عقد علاقات تطبيع مع “إسرائيل”.
وعلى الرغم من اختلاف ظروف ومكان ووقت الاعتقال، اجتمعت العفيفي وعساف في ردود فعلهما حول الاعتقال، إذ أبدتا ثباتًا انفعاليًّا كبيرًا لحظة الاعتقال، ولم تظهرا ضعفًا أو انكسارًا للجنود الإسرائيليين، بل قابلتا وحشية الجنود بابتسامة ثقة وقوة، جعلت منهما مثالَين بارزَين للنساء القويات اللاتي يتواجدن في الصفوف الأمامية ولا يتخلين عن دورهن في الثورة على الظلم، أو يتركن أماكنهن خوفًا من الاعتقال أو الإهانة.
مروة الخطيب وهنادي القواسمي
استطاعت الفلسطينيتان مروة الخطيب -مختصة في التاريخ والسياسة والدارسات الشرق أوسطية- وهنادي القواسمي -صحافية- الاعتماد على الإعلام البديل من أجل التأثير على الرأي العام وإيصال الصورة الحقيقية للوضع في القدس المحتلة، وفضح انتهاكات قوات الاحتلال الإسرائيلي.
ففي الوقت الذي تتجاهل فيه الصحف الأجنبية وصحف عربية كبرى ما يحدث في القدس المحتلة، وفي الوقت الذي تلجأ فيه الصحف والقنوات الإسرائيلية إلى شيطنة الفلسطيني وإظهاره بصورة الإرهابي المتشدد الرجعي من أجل إثارة الرأي العام ضده، عملت الخطيب والقواسمي على نقل الحقيقة للمتابعين عبر حسابيهما الشخصيَّين على منصة التواصل الاجتماعي تويتر.
لمثل هذا فليعمل العاملون. الساعة السادسة الا ربع. في مثل هذه الساعة من “يوم القدس الاسرائيلي” من المتوقع أن يكون باب العامود مليئا بالمستوطنين، في مسيرتهم الضخمة. الان لا مسيرة هنا ولا مستوطنين. وشعور سكينة واخيرا قعدنا باب العامود وهو نظيف pic.twitter.com/EfGkkkXuQV
— هنادي (@HanadiQH) May 10, 2021
لعبت الخطيب والقواسمي دورًا بديلًا عن الصحف التي تجاهلت القضية أو نقلت صورة مغلوطة للوضع الجاري في القدس المحتلة، فنشرتا على نحو مستمر وكثيف تحديثات عن مجريات الوضع هناك أولًا بأول، وتوثيق انتهاكات الاحتلال الإسرائيلي بالصور والفيديو، وخصصتا وقتهما لنقل كل التفاصيل من الأرض إلى ساحة تويتر، وأجابتا عن أسئلة المتابعين، بالإضافة إلى إعداد التقارير الإخبارية. ويمكننا القول إنه بفضل هذه الحسابات الفعالة أصبحت الرواية الفلسطينية الحقيقة حاضرة ومتاحة للجميع، وبات من الصعب على الجانب الإسرائيلي إخفاء جرائمه أو تصدير رواية مغلوطة للحوادث التي تنتشر وتحشد الرأي العام ضد الانتهاكات الإسرائيلية.
مشاركة سياسية فعالة
يمكننا القول إن الأحداث الأخيرة في القدس المحتلة قدمت صورة جديدة للمرأة التي تتخذ مكانًا قويًّا في أحداث سياسية، وتشارك بها بحضور كبير وبقوة، ولا تكتفي بالمشاركة فقط، بل تصنع فارقًا وتغييرًا حقيقيين في القضية التي تؤمن بها.
ففي الوقت الذي تصطدم فيه النساء في أغلب الدول العربية بقيود وعراقيل في مشاركتها السياسية، سواء كان ذلك بسبب نظام “الكوتة” المفروض على الأحزاب السياسية، والذي يسمح بوجود عدد معين من النساء داخل الحزب، أو بسبب منح المرأة القدرة على التواجد السياسي ولكن جعله تواجدًا شكليًّا وصوريًّا من أجل الترويج لثقافة المساواة بين المرأة والرجل في الحقل السياسي، أو بسبب القيود المجتمعية على مشاركة النساء في الأحداث السياسية بذريعة أن هذه الأحداث مخصصة للرجل، ولا يوجد دور للمرأة بها، وثقافة العيب التي تلاحق النساء في أي دور يقررن أن يلعبنه؛ استطاعت النساء المشاركات في هبّة القدس المحتلة الأخيرة إثبات الدور المهم الذي تلعبه النساء في تغيير مسار الطريق الذي يشاركن به، وفي إحداث تغيير حقيقي وملموس في القضايا التي يعملن لأجلها، وتغيير الصورة النمطية عن المرأة التي يجب ألا تتحدث في أمور السياسة لأنها ليست من شأنها.