ترجمة وتحرير نون بوست
“السلام عليكم. من هذا؟ هل هذا محمد حاجب؟ السجين السياسي السابق؟”
عمّ صمت طويل، ثمّ انفجر حاجب ضاحكا وأجاب مترددا باللغة فرنسية: “السجين السياسي السابق محمد حاجب يتحدث!”
ليس هذا ما تتوقعه تماما من المطلوب الأول لأقوى جهازي أمن في المغرب، المديرية العامة للأمن الوطني، والمديرية العامة للدراسات والتوثيق، وهي إدارة لمكافحة التجسس يُزعم أنها تُسيطر على عدد من وسائل الإعلام المغربية، وتتحكم في السياسة الخارجية للمملكة.
يعود هذا الوضع جزئيا إلى حاجب نفسه، الذي يطالب بأن يُشار إليه على أنه “سجين سياسي سابق” بدلاً من “إسلامي”، وأن مهمته هي “الدفاع عن حقوق الإنسان بشكل عام وليس فقط حقوق الإسلاميين المعتقلين”. دفعت هذه القضية الحكومة المغربية، بناء على طلب من وزير الخارجية، إلى تعليق جميع الاتصالات مع السفارة الألمانية في الرباط، وكذلك مع جميع المؤسسات الألمانية الموجودة داخل المملكة.
يوصف حاجب بأنه “إرهابي إسلامي خطير” للغاية يدعو المغاربة للتمرد وإراقة الدماء، ويتعرض للتشويه بشكل مستمر في وسائل الإعلام المغربية، كما تهاجمه بعض الشخصيات البارزة وتسخر منه على شاشات التلفزيون، وآخرهم عمر القزابري، إمام مسجد الحسن الثاني في الدار البيضاء، مما يجعل حاجب بلا شكّ في مرمى نيران المخابرات المغربية، إلى جانب الصحفيين ونشطاء حقوق الإنسان.
وبعيدا عن السلطات المغربية، يحظى حاجب بشهرة كبيرة على وسائل التواصل الاجتماعي، خاصة فيسبوك ويوتيوب، حيث يشاهد عشرات الآلاف من المتابعين بثه المباشر الذي يمزج بين الوقائع والسخرية مع روح الدعابة.
قبل لقاء “ميدل إيست آي” مع حاجب، أمضينا شهرا في فحص عشرات مقاطع الفيديو وقراءة عديد المصادر المتنوّعة بما في ذلك الوثائق القانونية والدبلوماسية والأمنية وتقارير الأمم المتحدة، وبعدة لغات منها العربية والألمانية والفرنسية والإنجليزية. وهذا التحقيق هو نتيجة هذا العمل.
أراد حاجب السفر إلى لاهور، حيث كان من المقرر عقد منتدى دولي في تشرين الثاني/ نوفمبر من ذلك العام
من تطوان الى باكستان
يعيش محمد حاجب في مدينة دويسبورغ بولاية شمال الراين-فستفاليا غرب ألمانيا، وهي مدينة تقع عند ملتقى نهري الراين والرور بالقرب من دوسلدورف. تُظهر صورته شابا مبتسما بقبعة على رأسه ولحية خفيفة. ولد حاجب في تطوان شمال المغرب في 23 أيار/ مايو 1981، لمدرس عربية تعود أصوله إلى مدينة تيفلت، وموظفة في سلك القضاء. من الناحية الأيديولوجية، اتبع حاجب مسارا مختلفا عن والده، الذي سُجن ذات مرة بسبب انتماءاته الماركسية.
في كانون الأول/ ديسمبر 2000، هاجر حاجب إلى ألمانيا، وتحصّل في 2008 على الجنسيّة الألمانية. فهل كانت المسافة البعيدة التي تفصله عن وطنه سببا في انضمامه إلى جماعة التبليغ، وهل بهذه الطريقة ينجذب بعض المسلمين بقوة إلى دينهم كلما انقطعوا عن جذورهم؟ ربما يكون الأمر كذلك. يرى البعض أن جماعة التبليغ “جماعة أصولية”، بينما يعتبرها البعض الآخر حركة تبشيرية ذات أهداف “نبيلة”. من المؤكد أن جماعة التبليغ صارمة، لكنهم لم يشاركوا قط في عمليات مسلحة، كما أن أفكارهم تستقطب المزيد من المؤمنين بالسلمية، والأهم من ذلك أنهم غير مهتمين بالسياسة.
لكي تصبح واعظا جيدا ضمن جماعة التبليغ، توجد ثلاثة مراكز رئيسية في جميع أنحاء العالم، وتقع جميعها في شبه القارة الهندية، حيث نشأت هذه الحركة في عام 1927، أي في الهند وبنغلاديش وباكستان، حيث تنشط هذه المراكز بشكل علني.
اختار حاجب باكستان، وفي نهاية حزيران/ يونيو 2009، سافر إلى اسطنبول، ثم استقل رحلة أخرى إلى مشهد في إيران حيث التقى بمجموعة صغيرة تنتمي إلى الجماعة، قبل أن يواصل رحلته إلى باكستان.
وفي تناقض صارخ مع الوضع في إيران، حيث حصل على تأشيرته عند وصوله إلى مطار مشهد، كان دخول باكستان مختلفا تماما. كانت الحدود عبارة عن مكان تعمه الفوضى، حيث طُلب منه دفع 50 دولارا لأمير من جماعة التبليغ لمرافقته والاهتمام بالتأشيرات. في الواقع، كانت تلك رشوة ضرورية لتسهيل مروره دون مشاكل عبر نقاط التفتيش الحدودية.
أراد حاجب السفر إلى لاهور، حيث كان من المقرر عقد منتدى دولي في تشرين الثاني/ نوفمبر من ذلك العام. كانت هناك وثيقة من ولاية شمال الراين-فستفاليا، بتاريخ 22 شباط / فبراير 2010، تؤكد أن مكتب الشرطة الجنائية للولاية كانت على علم بالرحلة والمنتدى الديني.
لم تُنسب إلى حاجب أي ميول إرهابية، وقد تم تصنيفه مثل كل أفراد جماعة التبليغ حينها، على أنه “إسلامي أصولي”. كان ذلك هو التعريف السائد في ألمانيا عن فكر جماعة التبليغ، إلى أن قدّمت المحكمة الإدارية العليا في لايبزيغ توضيحا في هذا الشأن ضمن حكمها الصادر في 25 تشرين الأول/أكتوبر 2011، حيث نصت صراحة على أن “أهداف وأنشطة جماعة التبليغ لا تدعم أنشطة الإرهاب”.
كويتا في باكستان، مدينة تضم الكثير من طلبة المدارس الدينية والتجار الأتراك وأفراد جماعة التبليغ الأجانب.
بعد رحلته إلى باكستان، ولقاءات بأفراد الجماعة وزيارات لمدارس دينية، قرر حاجب العودة إلى ألمانيا متّبعا الطريق ذاته الذي سلكه في البداية، لكنه لم يتمكّن من ذلك، إذ تم توقيفه في 1 تشرين الأول/ أكتوبر 2009 خلال عملية تفتيش روتينية من قبل الجيش الباكستاني أثناء سفره في حافلة متجهة إلى بنجغور، المدينة التي ستلعب دورا أساسيًا في الأحداث اللاحقة.
تقع بنجغور على بعد أقل من 100 كيلومتر من الحدود الإيرانية و641 كيلومترًا من شامان، وهي بلدة حدودية مع أفغانستان. ما لم تكن قادرًا على السفر جوا، فإن الطريق الوحيد للوصول إلى أفغانستان من بنجغور هو عبر كويتا، التي تبعد 130 كيلومترا عن جنوب شامان. في الواقع، يعدّ موقع هذه المدينة مهما، ذلك أن المغاربة اتهموا حاجب فيما بعد بأنه وقع القبض عليه على الحدود الأفغانية، وليس على الحدود الإيرانية ثم نُقل إلى المخابرات الباكستانية التي أعادته إلى سجن كويتا. لكن لماذا تم اعتقاله في كويتا التي تبعد ساعتين و40 دقيقة بالسيارة عن الحدود الأفغانية وليس في مكان آخر؟ مع العلم أن بنجغور تقع على بعد 1500 كيلومتر من إسلام أباد، ولا يمكنك الوصول إلى عاصمة باكستان دون المرور عبر كويتا.
علاوة على ذلك، يُعرف السجن في تلك المدينة بأنه مركز فرز يمر من خلاله سيل لا حصر له من المعتقلين وطلاب المدارس الدينية والتجار الأتراك، الذين يوجد منهم الكثير في المنطقة، بالإضافة إلى الأجانب المنتمين لجماعة التبليغ، الذين يتم إطلاق سراحهم بشكل عام ويُنقلون إلى مراكز احتجاز أخرى. في المقابل، يقع إرسال السلفيين إلى “مراكز خاصة” يزورها الأمريكيون في كثير من الأحيان.
“في ذلك الوقت، لم أكن مدركا لحقوقي”
تُرك حاجب هناك لمدة شهر قبل نقله إلى إسلام أباد، حيث تم التحقيق معه لمدة ثلاثة أشهر و27 يومًا بالضبط، بين مطلع شهر تشرين الأول/ أكتوبر 2009 و17 شباط / فبراير 2010. عندما تيقنت السلطات أنه لا يمكنها أن توجه إليه أي اتهامات، بخلاف الدخول بشكل غير قانوني إلى باكستان، قررت طرده. لم تُوجه له أي تهم، وهذا ليس وفقًا لحاجب فحسب، بل حسب رسالة بريد إلكتروني أرسلها قنصل ألمانيا إسلام أباد في برلين إلى وزير الخارجية الألماني بعد اعتقال حاجب في المغرب بتاريخ 8 آب/ أغسطس 2011، والتي ورد فيها أنه “لم يسبق اتهامه بأية جريمة”.
في ظل تنامي الشبهات التي تدور حول العرب المسلمين في باكستان، لاسيما بعد هجمات 11 أيلول/ سبتمبر، أخطرت القنصلية الألمانية في إسلام أباد برلين بطرد حاجب، وعندما هبط في مطار فرانكفورت في 17 شباط/ فبراير 2010 في تمام الساعة 1:47 ظهرا، على متن رحلة تابعة لشركة طيران باكستانية، اعتقل فور نزوله من الطائرة من قبل فرقة مكونة من 25 شرطياً ألمانياً، بعضهم كان مدججا بالسلاح.
تحت حراسة مشددة، تم استجوابه لمدة ساعة في مكتب الشرطة الجنائية الفيدرالية الألمانية، الذين منعوه من مغادرة المنطقة الدولية بالمطار. في الساعة 10:30 مساءً، أُرسل على متن رحلة لوفتهانزا رقم 4116 المتجهة إلى الدار البيضاء.
لماذا لم يحتج بأنه يحمل الجنسية الألمانية؟
في هذا السياق، يقول حاجب: “من السهل قول ذلك الآن، لكن في ذلك الوقت لم أكن مدركا تماما لحقوقي”. لم يكن يعرف ما الذي كان ينتظره في بلده الأصلي. خلال الساعات الأولى من يوم 18 شباط/ فبراير، هبطت طائرته في مطار محمد الخامس بالدار البيضاء. على حد تعبيره، كان ينتظره “خمسة عملاء تابعين للمديرية العامة للأمن الوطني” على ممر الركاب، وقد أخرجوه من هناك بعنف واقتادوه إلى المكتب بعد أن عصبوا عينيه.
بعد تقييد يديه وتكبيله بالأغلال، نُقل إلى حي المعاريف في الدار البيضاء، وبالتحديد إلى المقر الرئيسي للفرقة الوطنية للشرطة القضائية في المغرب. خلال نقله بالسيارة، تعرّض للضرب والإهانات والنعت “بالإرهابي” و”المجرم”، واتُهم بأنه جاء إلى المغرب من أجل القيام بعملية انتحارية، كما شككوا في أسباب سفره إلى باكستان.
داخل مقر الفرقة الوطنية للشرطة القضائية، التي كان يشرف عليها عبد الحق خيام في ذلك الوقت، والذي شغل فيما بعد منصب رئيس وحدة مكافحة الإرهاب، أُلقي به في زنزانة صغيرة. تعرّض هناك للإهانة والتعليق من ذراعيه والضرب على وجهه وقدميه، كما أجبره الحراس بأن يعترف بالاتهامات المنسوبة إليه، لكنه رفض ذلك مؤكدا أنه أحد عناصر جماعة التبليغ وليس إرهابيا.
حسب المعلومات التي حصلت عليها لاحقًا مؤسسة الكرامة، وهي منظمة مناهضة للظلم في العالم العربي ولها العديد من المكاتب في جنيف، فقد تعرّض لجلسات تعذيب بشكل يومي، لمدة 12 يومًا. على الرغم من كل ما تعرّض له، ظل حاجب متفائلاً، معتقدًا أن معذبيه سيدركون أنه لم يفعل شيئًا ويطلقون سراحه.
ولكن في أول آذار/ مارس، هدد جلادوه بإحضار زوجته ووالدته واغتصابهما أمامه بهدف كسر إرادته. لهذا السبب، استسلم ووقّع على اعتراف لم يسمحوا له حتى بقراءته”.
حكم بالسجن لمدة 10 سنوات
مثُل أمام محكمة مكافحة الإرهاب في سلا في اليوم نفسه، وعلم من قاضي التحقيق، عبد القادر شنتوف، أنه وقّع “اعترافات كاملة” في تقرير مؤرخ في 19 فبراير/ شباط، رغم أنه في الواقع وقّع عليها في اليوم ذاته. طعن حاجب في هذه الرواية محاولاً أن يشرح للقاضي أنه تعرض للتعذيب، وأنه وقّع تحت الإكراه بتاريخ في 1 مارس/ آذار وليس 19 فبراير/ شباط.
على الرغم من كل جهوده لإقناع القاضي، لم يتمكن من تغيير مجريات القضية. لم يأمر القاضي بإجراء أي تحقيق فيما يدعيه حاجب حول تاريخ الاعتراف أو مزاعم التعذيب.
في نفس الوقت تقريبًا، في محكمة أخرى، أبلغ النائب الأول للوكيل العام لدى محكمة الاستئناف بالرباط، عبد العزيز راجي، والدة حاجب أن ألمانيا قد أسقطت للتو الجنسية الألمانية عن ابنها. بالنسبة لحاجب، أوضحت هذه الخطوة التواطؤ بين المخابرات الألمانية والمغربية، قائلا في هذا السياق: “كيف عرف القاضي المغربي أن وزير الداخلية الألماني قد اتخذ تلك الإجراءات”، مضيفا أن الدولة الألمانية تخلت عنه رغم غياب أي دليل يثبت انتماءاته “الإرهابية” أو ارتباطه بأي من الجماعات المتطرفة.
بعد مثوله أمام القاضي الشنتوف، نُقل إلى الوحدة الأولى في سجن سلا المعروفة بـ “زكي 1”. للترحيب به، تعرّض للضرب مرة أخرى، وهذه المرة من قبل موظفي السجن ودون سبب. في 24 حزيران/ يونيو 2010، حُكم على حاجب بالسجن لمدة 10 سنوات بتهمة “تشكيل جماعة غير مشروعة” و”تمويل الإرهاب” والتخطيط للذهاب إلى أفغانستان.
لقد كانت محاكمة عاجلة، كما يتضح من توجه الدبلوماسيين الألمان إلى قاعة المحكمة بأقصى سرعة.ونصت مذكرة داخلية اطلع عليها موقع “ميدل إيست آي” بتاريخ 27 حزيران/ يونيو 2010 على ما يلي: “لم يقع استدعاء أي شهود للمثول في هذه الجلسة. ولم يقع تقديم أي دليل. استند القاضي الذي يرأس القضية في الحكم إلى تقرير التحقيق فقط”.
يتابع حاجب: “أيعقل أن يغادر شخص باكستان بجواز سفر ألماني ويقع اعتقاله على الحدود الإيرانية وليس الأفغانية، دون أن يقع التحقيق معه بتهمة الإرهاب من قبل السلطات الباكستانية ودون أي صلة تقريبا ببلده الأصلي بخلاف وجود أفراد العائلة، ويُحكم عليه في المغرب بتهمة تكوين جماعة إجرامية و تمويل الإرهاب؟ هذا لا معنى له! العدالة المغربية هي مصنع ينتج أحكاما تعسفية”.
في المذكرة نفسها، يشير السفير الألماني أيضا إلى أنه خلال الجلسة، “كانت تصريحات المتهم غير مفهومة تقريبا بسبب سوء حالته الصحية”. كان حاجب في ذلك الوقت في اليوم السادس والأربعين من الإضراب عن الطعام احتجاجا على اعتقاله. منذ إدانته الأولى وعلى مدى السنوات السبع التي تلت ذلك، كانت حياته عبارة عن تنقل من سجن إلى آخر وسوء معاملة أُجبر على تحمله لفترة طويلة.
من الوحدة 1 في سجن سلا، تم إرساله إلى تولال 2، وهو سجن في مكناس، ثم أعيد إلى سلا ليتم وضعه في الوحدة 2، ثم أرسل إلى تيفلت 1، حيث تعرض للتعذيب بشكل مروع كما تُظهر عدة صور تمكن من تهريبها من السجن. استخدم جلادوه أساليب تركت آثار حروق على ظهره. أخيرا، انتهى به المطاف في سجن تيفلت 2، المكان الوحيد الذي لم يتعرض فيه لتعذيب وحشي حسب قوله.
في سجن بالمغرب، تعرض محمد حجاب للتعذيب كما يظهر في هذه الصورة، بأشياء تركت آثار حروق على ظهره.
في غضون ذلك، كان حاجب أحد الوجوه البارزة في احتجاجات سجن سلا المركزي يومي 16 و17 أيار/ مايو 2011، ضد الاعتقالات التعسفية والتعذيب. يمكن رؤيته في الصور ومقاطع الفيديو التي انتشرت على مواقع التواصل الاجتماعي آنذاك، ورأسه ملفوف بعمامة، وهو يحتج بصوت عال.
جعله ذلك يتعرض للمزيد من التعذيب، هذه المرة أمام حفيظ بنهاشم، محافظ السجن في ذلك الوقت. كان بنهاشم من أبرز رموز القمع في المغرب، وقد حكم عليه القاضي الإسباني بابلو روز في محكمة مدريد الوطنية سنة 2015، ليس بسبب سوء المعاملة التي يتعرض لها المعتقلون في المغرب، بل بسبب الجرائم التي ارتكبت ضد الصحراويين خلال فترة توليه منصب عامل السمارة بين 1976 و1978.
على الهاتف، قال حاجب إنه يعرف بنهاشم جيدا، إذ تفاوض معه لإنهاء أعمال الشغب في السجن: “كان هناك أمامي مباشرة عندما تعرضت للضرب، برفقة رجلين يرتديان بدلات وربطات عنق، وهما عميلان من المديرية العامة المغربية للأمن الوطني”.
المطالبة بـ1.5 مليون يورو
هذا هو السبب في أن المذكرة الشفوية التي أصدرها السفير الألماني في الرباط، المؤرخة في 30 حزيران/ يونيو 2011، والتي اطلع عليها موقع “ميدل إيست آي”، تمت صياغتها بشكل مختلف نوعا ما عن المصطلحات الدبلوماسية المعتادة. جاء في المذكرة أن حاجب “الجروح لم تكن طفيفة” وأنه “تعرض […] بحسب شهادته، في عدة مناسبات للإساءة والعنف الجسدي في سجني سلا ومكناس، حيث تم نقله هناك لفترة وجيزة، وادعى أنه تعرض للضرب والتهديد، من بين انتهاكات أخرى، وحاول الانتحار”.
كما حثت المذكرة السفارة على التعبير عن “قلقها” والمطالبة بضمان “سلامة حاجب وغيره من المعتقلين الألمان [المفترضين]، وحرمتهم الجسدية في المستقبل”. يبدو أن هذا التدخل كان له بعض التأثير لأن حكمه بالسجن لمدة 10 سنوات، والذي تم تأكيده في محكمة الاستئناف، أُلغي من قبل محكمة النقض، ثم تم تخفيضه إلى خمس سنوات بعد صدور حكم آخر من قبل محكمة الاستئناف نفسها في 9 كانون الثاني/ يناير 2012.
بسبب الدور الذي لعبه في انتفاضة السجن، حصل حاجب على حكم بالسجن سنتين إضافيتين. في المقابل، ثبت عدم جدوى تقرير مجموعة العمل التابعة للأمم المتحدة بشأن الاحتجاز التعسفي، الصادر في 31 أغسطس/ آب 2012، والذي طالب بالإفراج الفوري عنه على أساس الانتهاك الواضح من قبل العدالة المغربية للعديد من الاتفاقيات الدولية، وبقي حاجب في السجن.
يقول حاجب بسخرية: “هل سمعت عن أي قضايا أخرى للإسلاميين الخطرين المدانين بتمويل الإرهاب الذين حكمت عليهم المحاكم المغربية بالسجن خمس سنوات فقط؟ هذه السنوات الخمس تخدم غرضا واحد وهو تبرير وجودي في السجن وسوء المعاملة التي عانيت منها”.
عند الإفراج عنه في 18 شباط/ فبراير 2017، مكث حاجب في المغرب ثلاثة أيام لرؤية والديه، ثم صعد على متن أول رحلة إلى ألمانيا. بالنسبة له، كانت السنوات السبع في السجن طويلة جدا، ويؤكد أنه لن ينسى تلك المحنة التي لا يزال يحمل آثارها على جسده. بمساعدة محاميه الألماني، طلب إجراء فحص طبي مفصّل.
كان التقرير الطبي الذي أُجري في دوسلدورف سنة 2017 مريعا. بناء على تصريحات طبيب نفسي وأخصائي أمراض جلدية واختصاصيين آخرين قاموا بتقييم حالته، لم يكن هناك مجال للشك أنه تعرض للتعذيب أثناء احتجازه في المغرب. نتيجة لذلك، منحته ألمانيا راتبا ثابتا وبعد عدة سنوات منحته تعويض إعاقة بنسبة 50 بالمئة.
قرر حاجب أخذ الأمور إلى أبعد من ذلك، فرفع قضيته إلى المحاكم الألمانية، حيث طلب 1.5 مليون يورو (1.8 مليون دولار) كتعويض على أساس أن السلطات طردت مواطنا ألمانيا وسلمته إلى جلادين مغاربة، ولا تزال القضية في المحاكم. وفي سنة 2018، وبمساعدة مؤسسة الكرامة، عُرضت قضيته على لجنة مناهضة التعذيب التابعة للأمم المتحدة، وقال حاجب إنه على الدبلوماسية المغربية أن تنتظر النتيجة النهائية بقلق.
في نهاية سنة 2019، أعاد حاجب إحياء حساباته على فيسبوك ويوتيوب وتحدث عن سوء المعاملة الذي تعرض لها منددا بانتهاكات حقوق الإنسان في المغرب.
في فيديواته على مواقع التواصل الاجتماعي، لا يذكر حاجب الملك محمد السادس مطلقًا بطريقة مباشرة، ولكنه يتحدث في المقابل عن “المقيم الفرنسي العام”، وهو موظف حكومي كانت ترسله الجمهورية الفرنسية لإدارة المغرب في العهد الاستعماري.
ويسلط حاجب الضوء على عبد اللطيف حموشي رئيس المديرية العامة للأمن الوطني والشرطة المغربية، مشيرا له باسم “الحموشي شو”. قد لا يشكل ذلك مشكلة كبيرة، لكن البث المباشر الذي يقوم به حاجب بدأ يحظى بشعبية كبيرة في المغرب ويجذب انتباه الشرطة، خاصة عندما أعلن عن ضرورة اتخاذ إجراءات قانونية ضد المسؤولين عن اعتقاله وتعذيبه.
وبعد التزامها الصمت حول قضيته منذ سنة 2017، اتخذت الشرطة المغربية إجراءات سريعة عندما دعا حاجب المغاربة إلى النزول إلى الشوارع دفاعا عن حقوقهم في عدة مقاطع فيديو، وتحديدا في 3 أيار/ مايو و13 تموز/ يونيو 2020.
أجج ذلك الوضع في المغرب، وتشمل بعض مقاطع الفيديو التي خضعت لعمليات المونتاج تصريحات لأيمن الظواهري زعيم القاعدة، في محاولة لإظهار أنّ حاجب يطالب المغاربة بالنزول إلى الشوارع من أجل “إراقة الدماء”، على الرغم من أنه لم يدع مطلقا للعنف، بل يدعو على العكس إلى الاحتجاجات السلمية.
تتلخص كلمات حاجب في هذين المقطعين في ما يلي: “النظام المغربي ينتهك حقوقك”، “لا يمكنك أن تتحمل المزيد من هذا النظام الإجرامي”، “لا تدع هذا الوضع يدفعك إلى الانتحار؛ من الأفضل الاحتجاج في الشوارع لاستعادة حقوقك والسماح لهؤلاء المجرمين بإطلاق النار عليك. ستموت شهيدًا، لكنك ستحقق شيئًا لأطفالك” “علينا إنهاء هذا النظام”.
مظاهر تسييس القضية
يفسر حاجب أنّ دعواته للتمرد سببها الغضب الشديد الذي يشعر به عندما يرى الشباب على وسائل التواصل الاجتماعي يقتلون أنفسهم بسبب الجوع وانتشار فيروس كورونا. ويقول: “لم أدع أبدا إلى عمليات انتحارية أو إلى إراقة دماء، والجميع يعرف ذلك. لقد دعوت إلى مقاومة النظام الديكتاتوري. لم أقل: “اقتل! لقد قلت لا تقتل نفسك، دع المجرمين يقتلونك”.
أمكن للنيابة العامة في دويسبورغ، أن تفهم هذا الفارق بشكل جلي، وذلك بعد أن فتحت تحقيقا في وقت سابق بعد تلقي شكوى من المديرية العامة للأمن الوطني في المغرب يوم 10 تموز/ يوليو 2020. وتمت إعادة تقديم الشكوى مجددا في 17 تموز/ يوليو بالعودة إلى مقطع فيديو بتاريخ 14 تموز/ يوليو.
رفض المدعي العام الألماني، في قراره المؤرخ يوم 11 آب/ أغسطس، الشكوى المغربية على الأسس التالية: “لا وجود لجريمة. في تصريحاته […] ، يدعو السيد حاجب إلى مقاومة الحكومة المغربية. [… ] ولم يرتكب أي جريمة جنائية”. وذكرت النيابة العامة في دويسبورغ، أن محمد حاجب مارس حقه في حرية التعبير.
كان ذلك الرد صفعة للشرطة وقاضي التحقيق في المغرب. كان ينبغي أن لا تتجاوز هذه المسألة حدود المغرب لعدة أسباب. أولا، أن حاجب تحت المراقبة من قبل المخابرات الألمانية، وهم يشاهدون كل مقطع فيديو ويقرؤون جميع منشوراته على فيسبوك.
يبدو من الصعب تصديق أن وكالة المخابرات الألمانية كانت ستترك أي شيء يفلت منها حول هذه المسألة، لا سيما بالنظر إلى الشكوى التي رفعتها ضده أمام محاكمها في سنة 2010.
سبب آخر أثر على قرار المدعين العامين الألمان، وهو أنّ منصات وسائل التواصل الاجتماعي التي يظهر فيها الحاجب، فيسبوك ويوتيوب، لم ترى أنه من المناسب إزالته، وهو ما يدل أن المحتوى لا ينتهك القواعد العامة لهذه المنصات.
علم موقع “ميدل إيست آي” من خلال تحقيقاته أنه وفقًا للشكوى المقدمة من المديرية العامة المغربية للأمن الوطني، طلبت السلطات القانونية في شمال الراين-فستفاليا من إيكهارد رودولف، المستشرق والمتخصص في الإسلام، تقييم حساب حاجب على فيسبوك.
كان رده في 28 تموز/ يوليو 2020 -وقد اطلع عليه الموقع- حاسمًا. “لقد فحصنا الحقائق […] بالتفصيل وتوصلنا إلى الاستنتاج التالي: تصريحات محمد حاجب التي يمكن قراءتها على فيسبوك تعبير عن رأي سياسي دون أي مرجعية إسلامية واضحة”.
لكن لم يكن لدى المغاربة أي نية للتخلي عن مطاردة حاجب. في منتصف شهر آب/ أغسطس، وفي خضم واحدة من أسوأ الأوبئة في التاريخ، عاد عبد العزيز راجي، وهو نفس الرجل الذي أخبر والدة حاجب في سنة 2010 أن ألمانيا قد سحبت جنسيته، إلى الواجهة بعد أن أصدر أمر اعتقال دولي في 13 آب/ أغسطس، بعد يومين من الرفض الألماني لمتابعة قضية حاجب.
أحيل الأمر إلى مكتب الانتربول الوطني بالمغرب، والذي يرأسه محمد الدخيسي، وهو في الآن ذاته مدير الشرطة القضائية بالمديرية العامة للأمن الوطني (نفس القسم الذي يتهمه حاجب بتعذيبه لمدة أسبوعين في سنة 2010)، ووُضع حاجب على النشرة الحمراء.
استمرت هذه الاستراتيجية بضعة أشهر قبل أن تقرر الأمانة العامة للإنتربول في ليون إلغاء هذا الإشعار وإزالة اسم محمد حاجب من قاعدة بياناته بالكامل.
اعتبرت الإنتربول أن قضية حاجب هي قضية اضطهاد سياسي وليست ملاحقة جنائية، وتم إخطار جميع الأطراف بالقرار في 5 شباط/ فبراير 2021. بالنسبة للمغرب ونظامه القضائي والشرطة، لم يكن هذا مهينًا فحسب، بل كان ضربة قوية.
من هنا، اتخذت قضية حاجب صبغة سياسية. اشتدت الحملة ضده في الصحافة وعلى مواقع التواصل الاجتماعي، وتعرضت ألمانيا ونظامها القضائي وقوات الشرطة لهجوم لاذع، واتُهمت بعدم الرغبة في اعتقال “المشاغب الإسلامي”.
ومن الغريب أن الإنتربول ومنصات التواصل الاجتماعي التي يستخدمها حاجب، مثل فيسبوك و يوتيوب، بقيت بمنأى عن كلّ هذه التجاذبات.
اتهامات من إسلاميين سابقين
تم توجيه نداءات لزعماء سلفيين سابقين، على غرار محمد الفيزازي وحسن خطاب وشخصيات أخرى أقل أهمية، للانضمام إلى حملة الاتهامات التي تطلق على حاجب لقب “إرهابي” خطير.
حُكم على محمد فيزازي، السلفي المتطرف الذي أشاد في الماضي باغتيال المفكر المصري فرج فودة سنة 1992، بالسجن 30 سنة لمشاركته في الهجمات الإرهابية في الدار البيضاء سنة 2003 (خلص القضاء المغربي إلى أن الانتحاريين الاثني عشر الذين قتلوا 33 شخصًا كانوا يسيرون على نهجه)، وأطلق سراحه سنة 2011.
محمد فيزازي، الذي حكم عليه بالسجن 30 عاما بعد الهجمات الإرهابية في الدار البيضاء سنة 2003، وتم إطلاق سراحه سنة 2011.
في الحقيقة، يُحسب هذا القرار على المغرب التي لطالما عُرف بعدم تساهله في تنفيذ الأحكام الصادرة بتهم “الإرهاب الإسلامي”. وقد كشفت وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي عن سلسلة من الفضائح والممارسات الجنسية التي ارتكبها فيزازي، ليتحول هدفه من مهاجمة السلطات إلى انتقاد المنشقين المغاربة وحركة 20 شباط/ فبراير في الجزائر.
وقد تعرض الفيزازي مؤخرا للسخرية بعد إشادته بتطبيع العلاقات الدبلوماسية بين المغرب وإسرائيل. وتجدر الإشارة إلى أن السلفيين الجهاديين السابقين في المغرب مازالوا يعادون “الكيان الصهيوني”.
ويمثل حسن خطاب، زعيم الفصيل الإرهابي السابق أنصار المهدي، الطرف المؤثر الآخر الذي يستطيع أن يثير الرأي العام ضد حاجب. على غرار فيزازي، لم يستفد خطاب من عفو ملكي واحد، بل تمتع أيضا بعفو ملكي استثنائي. كان الأول في سنة 2005، بعد أن قضى سنتين في السجن؛ والثاني سنة 2016، بعد حكمه المشدد بالسجن 25 سنة في 2008 بتهمة “الإرهاب الإسلامي”.
وفقا لصحيفة “أوجوردوي لو ماروك” اليومية، في 27 أيلول/ سبتمبر 2006، فقد اشتبه رفاقه بشدة أنه عميل مزدوج، أي أنه عمل كجاسوس موالي للسلطات للتجسس عليهم.
استفاد حسن خطاب من عفو ملكي سنة 2005، بعد قضاء سنتين في السجن، وعفو آخر سنة 2016 بعد الحكم عليه بالسجن لمدة 25 سنة 2008.
من جهتها، وصفت صحيفة “لاغازيت دو ماروك” خطاب بأنه رجل محتال، لأنه أقنع النساء المصابات بالعقم بأنه قادر على مساعدتهن على إنجاب الأطفال. في مقطع فيديو نشر سنة 2003، يقول خطاب إنه “متعطش لدماء أعدائه”، أي أولئك الذين سجنوا شيوخ السلفية بعد هجمات 2003.
يحتوي الملف الذي قدمته مؤسسة “الكرامة” لدى الأمم المتحدة على عدة حقائق محرجة للغاية للسلطات المغربية، بما في ذلك شهادات مسؤولين من السفارة الألمانية بالرباط، تؤكد بأنهم رأوا آثار التعذيب على جسد حاجب عندما قاموا بزيارته في السجن، وقد تأكدت مصداقية هذه التصريحات لاحقا من خلال تقرير الطبيب الشرعي في دوسلدورف.
علينا أن نضيف إلى ذلك حكما لصالح حاجب يدحض الاتهامات الموجهة إليه. في 15 يناير/ كانون الثاني 2015، خلصت المحكمة الإدارية في برلين إلى أن “وزير الخارجية ليس على علم بأي إجراءات جنائية فيما يتعلق بتورط حاجب في أي عمل إرهابي في باكستان”.
تطعن روايات الشهود والأحكام القانونية فيما تريد الشرطة السياسية المغربية أن تنسبه من تهم لمحمد حاجب، حيث ثبتت مصداقية الرجل الذي صنفه الألمان سنة 2010 كإرهابي خطير، ويبدو أن المغرب لا تريد أن تتحمل كل المسؤولية بمفردها.
رسالة إلى المخابرات الألمانية
من الممكن النظر من هذه الزاوية إذا أردنا أن نفهم المقابلة الغريبة التي أجرتها بثينة الكردودي الكلالي، القنصل العام المغربي في فرانكفورت، مع موقع مغربي في ألمانيا يدعى “أطلسكم”.
بعد تقديم حجة غير واقعية، مثل قصة احتجازه على الحدود الأفغانية، والتي جاءت في رسالة بريد إلكتروني من القنصلية الألمانية في إسلام أباد بتاريخ 11 كانون الثاني/ يناير 2010، مفادها أنه تم إيقافه على الحدود الإيرانية، يبدو أن الكردودي أخذت على عاتقها نقل رسالة إلى المخابرات الألمانية.
ويبدو أن ردها على الأسئلة بلغة إنجليزية ركيكة، وليس باللهجة المغربية أو اللغة العربية الفصحى، يدل على أنها كانت تستهدف جمهورا معينا. إن إصرارها على التذرع بقرار الشرطة الألمانية بمنع حاجب من دخول ألمانيا سنة 2010 وإرساله إلى المغرب، وطلب المساعدة، يبدو كأنه اتهام للألمان بالتملص من تحمل المسؤولية.
من خلال رسالة الكردودي، التي لا يحق لها التحدث في المسائل السياسية الحساسة، وينبغي عليها ترك مثل هذه المهام لسفارة بلادها في برلين، يبدو أن أجهزة المخابرات المغربية كانت تأمل في أن تقوم ألمانيا بتسليم حاجب دون القيام بالكثير من الإجراءات القانونية.
ربما تعتقد أن هذا البلد الذي يطبق العدالة بدقة في مسائل الدفاع عن حقوق الإنسان الأساسية لمواطنيه، سوف يستسلم بسهولة لرغبة المغرب، كما فعلت فرنسا وإسبانيا في الماضي في قضايا مشابهة.
المصدر: ميدل إيست آي