تخيل أن قطاع غزة المحاصر كان منزوع السلاح، كما هو حال الضفة الغربية المحتلة الآن. كانت “إسرائيل” لتقصف وتقتل دون أن يكون ذلك حدثًا مهمًّا في الإعلام حتى. كل هذا لم يحصل لأن مجموعة آمنت بإمكانية صنع المستحيل.. وهو ما كان!
أطلقت مجموعة من كتائب القسام في فبراير/ شباط 2002، صاروخًا مطوّرًا على سبيل التجربة، يبلغ مداه 10 كيلومترات، بالكاد استطاع أن يعبر الحدود ليسقط في أماكن مفتوحة. لكن، ورغم أن تلك الصواريخ كانت صواريخ زجاجية مقارنة بالتي أطلقها العراق عام 1991، إلا أنها أحدثت تأثيرًا استراتيجيًّا فطنت له “إسرئيل” مبكرًا، رغم كل موجات السخرية التي رافقت عمليات الإطلاق، وما صاحبها من خسائر للمطلقين أو في رد “إسرائيل” على المدنيين، وبالطبع ازدادت موجات الانتقاد من طرف السلطة الفلسطينية، خاصة في أعقاب الحسم العسكري الذي نفذته حماس في قطاع غزة المحاصر عام 2007.
في مقال لها عقب ذلك الإطلاق عام 2002، تنبأت مجلة تايم الأميركية بأن هذه الخطوة ستزيد من تعقيد الصراع، وستفتح بعدًا جديدًا لم يكن متاحًا في نقل التدمير إلى عمق العدو، دون الحاجة إلى استخدام الاستشهاديين ذوي الأحزمة الناسفة.
“حتى مع مدى محدود يبلغ 5 أميال فقط وحمولة 20 رطلًا من مادة تي إن تي، فإن صواريخ القسام-2 تشكل تهديدًا استراتيجيًّا خطيرًا. السبب؟ إذا تم إطلاقها من الضفة الغربية المحتلة، فيمكنها الوصول إلى عدد من البلدات الإسرائيلية. أيضًا، سيكون وقت الاستجابة محدودًا: بينما سيكون لدى “إسرائيل” بضع دقائق لنشر دفاعاتها للهجمات التي يتم إطلاقها من العراق أو إيران البعيدة، فإن الأمر سيستغرق ثواني فقط حتى يصل صاروخ يطلق من الضفة الغربية المحتلة إلى الأراضي الإسرائيلية. وبينما يمكن مشاهدة قاذفات صواريخ سكود المتثاقلة من الأقمار الصناعية، يمكن إخفاء صواريخ القسام-2 المطوية وتجميعها في غضون دقائق”، بحسب مجلة تايم.
بمرور الوقت، أصبحت الصواريخ أطول مدى وأكثر قابلية على حمل رؤوس حربية أثقل، فقد انتظر المقاتلون في غزة حتى العام 2012 لتصل الصواريخ إلى تل أبيب.
تضيف المجلة في المقال: “إن إضافة هذا الصاروخ محلي الصنع إلى ترسانة المسلحين الفلسطينيين يمثل تصعيدًا خطيرًا لاستراتيجيتهم لإخراج إسرائيل من الضفة الغربية وغزة من خلال جعل تكلفة البقاء هناك باهظة للغاية. شهدت الأشهر الأخيرة زيادة حادة في التفجيرات الانتحارية “الاستشهادية”، وسمحت صواريخ القسام-2 للمسلحين بالضرب داخل إسرائيل دون الحاجة إلى عبور الحدود التي تخضع لحراسة مشددة. والهجمات الصاروخية التي تذكرنا بتلك التي استخدمها حزب الله في حربه التي طال أمدها والتي أجبرت إسرائيل في نهاية المطاف على الانسحاب من لبنان قبل عامين تؤكد ما وصفه المعلقون الإسرائيليون بـ”لبننة” الصراع”.
بمرور الوقت، أصبحت الصواريخ أطول مدى وأكثر قابلية على حمل رؤوس حربية أثقل. فقد انتظر المقاتلون في غزة حتى عام 2012 لتصل الصواريخ إلى تل أبيب (80 كيلومترًا)، ثم عام 2014 ليصل أحد الصواريخ إلى حيفا (160 كيلومترًا)، حينها كانت المعادلة قد تغيرت بالكامل، كما توقعت مجلة تايم فعلًا قبل 12 عامًا من تلك الحرب. إذ انتقلت المعركة إلى داخل العمق الإسرائيلي، وهو ما كانت “إسرائيل” تحرص على عدم حصوله في كل حروبها ضد الدول العربية في القرن الماضي.
كيف تغير الصراع؟
ربما يكون هذا الموضوع من أكثر المواضيع جدلًا مع كل عمليات القصف والقصف متبادل، وبعيدًا عن نظرية أن حماس تجر القطاع إلى حرب عبثية، فإن الرواية التي لا يريد الكثير طرحها إن كل الجهد الفلسطيني، لم يكن سوى رد فعل على قتلٍ واقع أصلًا لا محالة، من دون الصواريخ أو معها. هل كان الفلسطينيون يمتلكون صواريخ حين وقعت مذبحة دير ياسين؟ هل كانوا يملكون سلاحًا أصلًا في مخيم صبرا وشاتيلا؟ ربما لم تكن هذه المجازر لتقع من الأساس لو كان الفلسطينيون يملكون سلاحًا يدافعون به عن أنفسهم.
لفهم طبيعة تأثير تلك الصواريخ، يجب النظر من عدة زوايا:
1- المدى وقدرة التدمير: تقول صحيفة واشنطن بوست في دراسة لها إن “الهدف من تلك الصواريخ ليس القتل بقدر ما هو تعطيل الحياة وشلها في إسرائيل، وهو ما يشكل ضغطًا سياسيًّا يوقف الحرب”.
ظهر هذا الجانب جليًّا في حرب عام 2014، حيث وصل مدى الصواريخ حتى حيفا، وضرب أحدها تل أبيب، ما أوقف الملاحة الجوية في “إسرائيل”. حينذاك كانت المقاومة الفلسطينية قد نجحت في وضع نصف الشعب الإسرائيلي في الملاجئ، وعطلت الحياة فعلًا فيها. في ذلك الوقت، لم تعد تلك الصواريخ كرتونية بالطبع، بل كانت تملك قدرة تدميرية كبيرة تصل إلى 200-300 كيلوغرام من المتفجرات، وهو ما يكفي لإزالة أبنية بأكملها في حال وصولها إلى الهدف.
تبنت “إسرائيل” بالمقابل تطوير منظومة القبة الحديدية التي طورتها شركة رافاييل العسكرية، ويقول الجيش الإسرائيلي إن دقة الاعتراض تصل إلى 87% من الصواريخ المستهدفة، لكن هل هذه النسبة صحيحة؟
يقول البروفيسور تيد بوستل، أستاذ العلوم والتكنولوجيا في جامعة ماساتشوستس: “إن إسقاط القبة الحديدية للصواريخ الفلسطينية عملية معقدة ولا يمكن حسمها بهذه البساطة، إذ تتطلب هذه النسبة معلومات مسبقة عن أماكن الإطلاق والمسارات والأهداف وزاوية الإطلاق، ولم تقدم إسرائيل من قبل أيًّا منها، وحتى مع افتراض اعتراض الصواريخ، فإن القبة الحديدة تعترض جسم الصاروخ المنطلق وليس رأسه الحربي، وهناك فرق كبير بين الاثنين”.
يؤيد ريتشارد لويد، خبير الصواريخ في شركة رايثيون المصنِّعة لصواريخ باتريوت، وجهة النظر هذه: “فقط في ظروف معينة وبزاوية محددة وفي حال وصول الصاروخ قليلًا بحسب المتوقع، حينها ربما، ربما، يمكنك إعطاب الرأس الحربي المستهدف، ولهذا يمكننا القول إن أغلب صواريخ القبة الحديدية تفشل في اعتراض تلك الصواريخ”.
إذًا لماذا لا تُحدث الصواريخ أعدادًا كبيرة من القتلى؟ يعزو البروفيسور بوتسل ذلك إلى نظام الملاجئ والإنذار المبكر وليس القبة الحديدية، فضلًا عن عدم إمكانية التحقيق بشكل دقيق عن أماكن وقوع تلك الصواريخ بسبب السيطرة الإعلامية للجيش الإسرائيلي على أماكن وقوعها، لأسباب عسكرية وأمنية بحتة.
تطورت الصواريخ الفلسطينية على أي حال بشكل كبير، مع ابتكار وسيلة جديدة في استخدام مقذوفات إسرائيلية لم تنفجر أو انفجرت بشكل جزئي، وإعادة استخدام المواد المتفجرة فيها في صنع الصواريخ، وهو ما تبدى بشكل جلي عام 2018، مع جولة تبادل القصف التي حصلت وقتها.
الأهداف العسكرية لتلك الصواريخ ليست قتل أكبر عدد من المواطنين، وإنما ضرب نقطة الضعف الإسرائيلية بالوسائل المتاحة، وإدخالها في معركة دفع الأثمان.
2- القدرة على إدامة المعركة: اعتماد المقاومة الفلسطينية على هذه الاستراتيجية يتبعه بالضرورة إدامة هذه المواجهة بحيث تسبب أضرارًا كبيرة. تختلف التقديرات بشأن ترسانة الصواريخ الموجودة في قطاع غزة المحاصر. تقول واشنطن بوست إن الفصائل في قطاع غزة المحاصر يمكن أن تمتلك ما بين 15 و20 ألف صاروخ، بأمدية مختلفة، ضمنها تلك التي تصل إلى مدى بعيد حتى تل أبيب وبعدها. الصواريخ الفلسطينية ليست مكلفة، فهي وفق خبراء لا تكلف أكثر من بضعة مئات من الدولارات بمقابل أضعاف ذلك الرقم لكل صاروخ تطلقه القبة الحديدية.
3- “إسرائيل” لا تطيق المعارك الطويلة: إحدى أهم النقاط الأساسية في العقيدة العسكرية الإسرائيلية هي الحرب الخاطفة السريعة، ليس لميزات تلك الحرب وحسب، إنما لأن أي حرب طويلة وشاملة تعني سحب أفراد أكثر من المعامل والمصانع والمدارس لوضعهم في الاحتياط. الحروب الإسرائيلية ضد العرب كانت دائمًا تنتهي بسرعة خاطفة، وهو ما يفسر الاهتمام الإسرائيلي الكبير بالقوة الجوية، فهو لا يتطلب حشدًا كبيرًا من المقاتلين، كما أن بإمكانه أن يحسم المعارك بصورة شبه نهائية كما حصل عام 1967 في حرب الأيام الستة.
هذه النقطة بالذات كانت المحور الذي ارتكزت عليه القوات المصرية في حرب أكتوبر/ تشرين الأول 1973. يقول الفريق سعد الدين الشاذلي، رئيس أركان القوات المصرية في تلك الحرب: “إن خطة المآذن العالية كان تقضي بعبور الفرق المصرية على الجانب الآخر من القناة، والاحتماء بحائط الصواريخ والانتظار لإطالة أمد الحرب، ومع فقدان الطيران الإسرائيلي لأفضليته في ظل وجود دفاعات جوية قوية، سترغمه طول مدة مكوث أفراده تحت السلاح، بالانصياع والانسحاب من سيناء، ليسقط كالثمرة العفنة”.
يتبين مما سبق إذًا أن الأهداف العسكرية لتلك الصواريخ ليست قتل أكبر عدد من المواطنين، وإنما ضرب نقطة الضعف الإسرائيلية بالوسائل المتاحة، وإدخالها في معركة دفع الأثمان، بوضع معادلة -حتى لو كانت هشة- من الردع المتبادل.
المقارنة بين القدرات
لا يمكن بأي حال مقارنة القدرات العسكرية الإسرائيلية مع قدرات المقاومة الفلسطينية، حتى مع ادعاء حصولها على دعم من الخارج. لكن السؤال: هل تصحّ المقارنة هنا؟ لا يعني امتلاك “إسرائيل” تفوقًا عسكريًّا كبيرًا أنها ستحقق كل أهدافها بالضرورة، بسبب حقيقة بسيطة وهي أنه ليس بمقدورها استخدام قوتها القصوى.
التجربة الأميركية في فيتنام، ومؤخرًا أفغانستان، خير مثال على ذلك. خرجت أميركا مهزومة من كلا البلدين، كان بإمكانها استخدام قوتها القصوى ومسح المدن الفيتنامية بمن فيها دون اللجوء إلى السلاح النووي حتى، لكن هل كان هذا ممكنًا؟
لا يمكن بالطبع عقد مقارنة من أي نوع بالقدرات العسكرية الأميركية وقوات فيت كونغ (قوات فيتنام الشمالية)، لكن القوات الفيتنامية انتصرت في النهاية، ولم تستخدم القوات الأميركية قوتها القصوى لاعتبارات عسكرية وسياسية ودولية كثيرة.
يمكن القول بالحال نفسه الآن في العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة المحاصر، إنه لا تصح المقارنة بين القدرات العسكرية لغزة المعزولة والمحاصرة والقدرات الإسرائيلية. نظريًّا، يمكن القول إن القوات الإسرائيلية تستطيع اقتحام القطاع وإعادة احتلاله كما حصل عام 2009، لكن هناك اعتبارات أخرى لا يمكن لـ”إسرائيل” أن تتخطاها، منها: الخسائر العسكرية التي ستدفعها لتحقيق ذلك، والضغوط السياسية التي ستواجهها من الدول الأوربية التي قد تشهد مقاطعة اقتصادية تزيد الخسائر البشرية، هذا غير فقدان “إسرائيل” لصورتها التي عملت على تغذيتها بكونها ضحية بين أعداء يريدون إلقاءها في البحر، وهو ما يوفر بالمناسبة ملايين الدولارات التي تجمعها جمعيات التبرعات لصالح “إسرائيل” في أميركا وأوروبا.
لا يمكن إنكار أن القرار كان جريئًا في إقحام قطاع غزة المحاصر بهذه المعركة رغم أنه مثقل بالحصار وآثار العدوان، لكن حماس والجهاد كانتا مجبرتَين على هذا التصعيد.
يضاف إلى كل ذلك معادلة جديدة أدخلها التصعيد الأخير في القدس المحتلة. إنها المرة الأولى التي يدخل فيها قطاع غزة المحاصر كطرف رئيسي في الصراع داخل القدس المحتلة. فأحد أهم أهداف الحصار المفروض على قطاع غزة تعميق الانقسام الفلسطيني ليكون انقسامًا شعبيًّا على أرض الواقع، وأن لا تستخدم حماس قدراتها في قضية القدس المحتلة والاستيلاء عليها بالكامل، وحصر المعركة في حدود القطاع.
كل ذلك تغير في التصعيد الأخير. لا يمكن إنكار أن القرار كان جريئًا في إقحام قطاع غزة المحاصر بهذه المعركة رغم أنه مثقل بالحصار وآثار العدوان، لكن حماس والجهاد كانتا مجبرتَين على هذا التصعيد، فالعدوان الإسرائيلي تحول من مجرد اعتداء وقتل، إلى محاولة الاستيطان، وتحولت المعاناة الفلسطينية من المعاناة اليومية من الاعتداء والإذلال على يد الاحتلال، إلى تهديد وجودي يفضي بهم إلى الانقراض، وربما لو قدر لترامب أن يستمر لكان مشروع الضم بأكلمه قد تم بحلول الآن. وهي ليست سوى سنوات قليلة، حتى يكون الدور قد جاء على قطاع غزة المحاصر، لفرض واقع جديد في كل الأراضي الفلسطينية.
قد يكون هذا الكلام مستغربًا، لكنك لو أخبرت أي مواطن فلسطيني عام 1966 بأن “إسرائيل” ستسولي على كل فلسطين والجولان وسيناء في خمسة أيام، لكن ذلك ضربًا من الخيال، وكلنا نعلم الآن أنه حصل هذا في العام التالي. إن المشروع الإسرائيلي التوسعي بطبيعته لن يعرف التوقف مع عدم وجود خريطة واضحة إلى أين تريد فيها “إسرائيل” أن تتوقف. لقد أدرك الفلسطينيون ذلك منذ زمن بعيد، وقرروا أنه ما داموا سيقتلون على أي حال، فليكن موتنا غالي الثمن على الاحتلال، وحتى ذلك الحين سنبقى هنا لأجل التحرر، أو نموت ونحن نحاول، تقول غزة وصواريخها!