العنف في السينما هو موتيفة بصرية أو سمعية تستخدم لخدمة غرض معين في القصة، ولهذه الموتيفة عدة استخدامات داخل سياق الحكاية، منها تطويع العنف لكشف جانب معين من الشخصية، أو ركن خفي من العالم، وهذا يحتاج إلى نوع من الحرفية في ترويض مشاهد العنف، وتعشيقها في السرد بما يسمح بانصهارها مع عملية الحكي. يجب ألا يشعر المُشاهد بأن بعض هذه المشاهد زائدة أو مقحمة لمجرد الحشو.
يمكن استخدام العنف لخلق نوع من الدهشة وصنع لحظات تشويقية أو صادمة تشي بالحالة العامة للحكاية، وبعض هذه المشاهد تظل محفورة في ذهن المُشاهد لمدة طويلة، وتساعده في بناء سردية موازية لقصص أخرى ولأناس آخرين يعيشون في العالم نفسه، حتى لو لم تروَ حكاياتهم، أي يعطيه عاملًا مساعدًا على التخيل حتى لو كانت هذه المشاهد تعطي انطباعًا صادمًا ومروعًا ولكنه محفزًا أيضًا.
في أحيان أخرى يستخدَم العنف لعرض حدث بواقعية شديدة، مثل الحروب مثلًا وكشف ما تحويه من وحشية. بجانب ذلك يمكن أن يكون العنف ثيمة مهمة تطبع شخصية معينة، وتلاحقها ثيمة جانبية ولكنها ضرورية لبناء الشخصية بشكل يجعلها قابلة للتصديق والتخيل. وتأتي ضرورة العنف في البناء القصصي، وصنع الصراع بين الشخصيات، وخلق الحبكة الكلاسيكية بين الثنائيات القيمية مثل الخير والشر مثلًا.
بيد أن هنا في أفلام كيتانو -تحديدًا في أفلام العصابات التي أخرجها- لا يوجد خير أو شر، والعنف رمز يستخدمه كل إنسان في المجتمع للتعبير عن ذاته، سواء كان شرطيًّا أو رئيس عصابة ياكوزا، والقتل تفسير لمجتمع خالٍ من العاطفة، يفتح أبوابًا للتخلص من الحياة. إذًا العنف إن اتصل مع فعل القتل، أضحى مخلّصًا وليس أداة يتم استخدامها لأخذ الحق أو فرض السطوة، والعنف إذا لم يتصل بفعل القتل فهو نوع من الألم، وسينما كيتانو هي تصدير للألم سواء نفسي أو جسدي.
في العنف
بدأنا بهذا الاقتباس من كتاب “فيما يتعلق بألم الآخرين” للكاتبة الأميركية سوزان سونتاج، لأنه يؤسس لنظرية أو يفتح أبوابًا لفهم سينما المخرج تاكيشي كيتانو المذهلة، والتي يسيطر على جزء كبير منها مفهوم العنف، وفي ذلك السياق يقترح الكاتب والفيلسوف الألماني والتر بنيامين في كتابه أن من مصلحة الدولة احتكار القانون، وبالتالي الحفاظ عليه، لأن بمجرد انفلات العنف عن السياق القانوني المحتكر من خلال السلطة الحاكمة، يسمحون لخطر أكبر بالتطور خارج القانون، يعني أن مجرد وجود العنف خارج القانون خطر على الحكومة والقانون ذاته، ويسمي هذه العلاقة بين الحكومة والعنف، صنع القانون من قبل العنف (Law making)، وبالتالي فالعنف الذي تمارسه الدولة يحفظ القانون، إذًا العنف بشكل ما هو من يسن القوانين والعكس صحيح، فالقانون هو الآخر يحفظ العنف (Law-preserving violence)، ويعرض والتر مثالًا يجمع بين النوعين من العنف، وهو الشرطة.
على الجهة الأخرى يشير والتر إلى وجود نوع آخر من العنف خارج المجال القانوني، وهو العنف الأسطوري (Mythic violence) الذي يعتبر مظهرًا من مظاهر وجود الإله، وتأكيدًا على قوته، وإذا تحداها المرء فإنه يتحدى القدر/ المصير (Fate)، ويقول والتر إن هذا العنف الإلهي مؤكد وصارم ويمثل رد فعل لعنف سن القوانين.
يظهر بعد ذلك العنف الإلهي/ المقدس (Divine violence)، وهو على النقيض تمامًا من العنف الأسطوري والقانوني، يدمر الإلهيُّ القانونيَّ، ويتدخل ضد شتى أنواع العنف لصالح قداسة الإنسان، ليحمي الغاية في ذاتها، ويعطينا القدرة على اتخاذ الخيارات لأنفسنا، وسن القانون لأنفسنا، ومع ذلك فالعنف الإلهي لا يخدم أي وسيلة أو مؤسسة أو بنية فكرية، إنه موجود فقط، لا تستطيع إحالته لأي نوع من المكاسب لأنه سينتقل إلى عنف قانوني/ تشريعي يهدف إلى خدمة سياق معين.
هذا يحيلنا إلى أفلام كيتانو الأولى، وتحوله من تقديم عروض الكوميديا الهزلية الصريحة على المسارح، إلى السينما ليخرج أول فيلم له Violent Cop بمحض الصدفة بعد انسحاب المخرج من الفيلم، ليستهل بهذه التجربة الفيلمية ثلاثيته الأشهر، ثلاثية العنف والغضب، ويصبح العنف مدخلًا مهمًّا يجب الولوج به للوصول إلى المغزى وراء أفلام تاكيشي، يمكننا تصنيف العنف في أفلام تاكيشي كعنف إلهي/ مقدس، لأنه كما يصف والتر بنيامين في مقاله لا يتعلق بنظام الغايات مثل باقي الأنواع الأخرى للعنف، إنما يطرح نفسه كوسيلة فقط، دون هدف محدد، وهذا يحيلنا إلى الاقتباس المذكور لسوزان سونتاج، الذي يسلط الضوء على تضخم العنف واستوحاش الغضب بحيث لا يترك فرصة للتفكير، لهذا عوالم تاكيشي -خصوصاً العنيفة- لا تخضع لمنطقية الأحداث بشكل يجعل المشاهد يفهم الخط السردي، بل تهتم بتعميق عاطفة معينة وإفشاء العنف، وبهذا يعطي انطباعًا عامًّا عن العالم الذي يسير فيه الأحداث، ولا يحاول تاكيشي ربط خصال معينة بالشخصية، بحيث يتوحد معها المشاهد، بل يصنع شخصيات متفردة، تحمل في داخلها ألمًا نفسيًّا كبيرًا، وغضبًا عارمًا، بيد أنه يفصل شخصيته الرئيسية -بشكل أو بآخر- عن عالمها، وبالتالي يضع غشاء فوق عين المُشاهد، فيحث في شخصيته -الذي يمثلها هو في أغلب الأوقات- الشعور بالفردانية، فنلاقي الشخصية تؤسس لإقصاء نفسها عن ذلك العالم بشكل كامل، ويتكشف ذلك الأمر من خلال أفعالها التي تصدر عن رأس منغلق على ذاته تماماً.
العُنف في فيلم Hana-Bi: في مديح العدمية
هذا الأمر يظهر في فيلمه الأقوى Hana-bi، فالعنف في الفيلم يحمل في داخله مبررًا يعطي له شرعية الحدوث، على عكس ثلاثية الياكوزا الأولى التي تشبعت بالعنف، وتفشت فيها الدماء في محاولة منه لفك عقدة أو إيجاد حل، فالعنف في فيلم Hana-bi يحمل قيمته في الفعل ذاته، ويتم التأصيل له كوسيلة للتنفيس فقط، كشيء عارض وعادي ولكن في الوقت نفسه لا يمكن التخلي عنه، وليس له غرض محدد يدفع الخط الرئيسي للسرد، وهذا ما يطبع عالمه الخاص في هذا الفيلم، أشبه بثورة جوفاء فاشلة، أما في الثلاثية فالموت أقصى درجات الخلاص، وقد قال تاكيشي عن هذه النقطة:
“أشعر أن معنى الموت في فيلم Hana-bi مختلف عنه في Sonatine وBoiling Point، في الفيلمين الأخيرين هناك بعض المشاهد حيث يحاول البطل حل مشكلة ما عن طريق الموت – الموت هو منفذ للهروب من المشاكل، لكن في هذا الفيلم، البطل لا يهرب من الموت، بل يدنو منه بإرادته الحرة، وبمفرده”.
لا توجد ثنائيات قيمية في أغلب أفلام تاكيشي كيتانو العنيفة، لا الخير المطلق ولا الشر المطلق، لا الجنة ولا النار، بمعنى أن القتل ليس جريمة، ولا المقتولين ضحايا جديرين بالشفقة، حيث ماذا يكون العنف إذا لم يكن يصدر تعبيرًا عن جريمة، أو قربانًا مقدسًا، وليس أخلاقيًّا، ولا دينيًّا، بجانب كونه لا يعبّر عن حالة فردية معينة -رغم تفرد شخصية البطل في أغلب الأفلام- بل عن طبقة اجتماعية كاملة؟ وبناء عليه فالعنف أو القتل تعبير عن حالة مرضية اجتماعية من الهوس بالقتل/ الموت.
وإذا راجعنا تاريخ المجتمعات اليابانية، سنرى أن الموت هو من أكثر الأشياء شيوعًا في اليابان، بتعدد أساليبه التاريخية، مرورًا بتعاليم البوشيدو، والساموراي، والحرب العالمية. كان الموت شرفًا عظيمًا، والموت في ساحة القتال رفعة وثناء، وهذا نوع من المحافظة على الشرف وإثبات الإخلاص.
ولكن الموت بين الياكوزا رغم أنه يحمل الكثير من هذه المبادئ، إلا أن المجتمعات ما بعد الحداثية سيّلت هذه القيم بما يسمح بتطويعها، لتناسب مجتمعات منغلقة على ذاتها مثل الياكوزا، وأصبح العنف والموت أسلوب حياة رجال العصابات هناك، ولم تذب جميع المبادئ المرتبطة بخدمة السيد والموت من أجله، إنما غابت الهالة النبيلة التي كانت تحيط بذلك النوع من العنف، والتي تشرّع ذلك العنف، وأصبح الألم هو الغرض الأساسي من ذلك العنف.
يقول تاكيشي عن تلك النقطة: “أنا أقصد تصوير العنف في أفلامي، لإشعار المشاهد بألم حقيقي، أنا لم ولن أصوّر العنف كما لو أنه نوع من ألعاب الفيديو الحركية”.
العنف شيء مقدس في أفلامه، وبالضرورة يأتي الألم كشيء ملازم للعنف، إنما إذا نظرنا إلى أغلب أفلام كيتانو التي تأخذ العنف منهجًا لها، نلاقي أن الألم الجسدي ليس موجودًا في الشخصيات ذاتها، حيث يمكن أن تطلق النار على إحدى الشخصيات -بعد أن تخترق الرصاصة جسدها- نجدها تقف مجددًا وتواصل القتال. إذًا العنف الهائل يتم تصديره للمشاهد بكميات هائلة ولكن افتقاد العالم لمنطقية الطبيعة يجعل الأمور تسير على نحو هزلي بعض الشيء. يقول تاكيشي عن فيلمه Hana-bi:
“في فترة ما بعد الحرب، ولفترة طويلة، كان اليابانيون يفكرون في العيش براحة. ولكن إذا كان للبشر الحق في السعادة، فلهم أيضًا الحرية في أن يكونوا غير سعداء. بالنظر إلى ذلك، أعتقد أنه يمكنك إنشاء أسلوب فيلمي يقوم على أسلوب حياة موجّه نحو الموت”.
وهذا ما يؤكد نقطة اغتراب الشخصية الرئيسية، التي تمثل هواجس وتخيلات المخرج كيتانو، فهو لا يرثي شيئًا، لا يهتم للموت، ولا يمسه بأي نوع من الهيبة، بيد أنه يرسمه كشيء هامشي له حضوره الخاص، ويؤكد على إحلال قيم جديدة، بل مجتمعات يابانية جديدة كليًّا، وهي مجتمعات ما بعد الحرب، التي تدور فيها قصصه الدامية، وكأن العنف والموت وسيلتا اتصال بين البشر داخل هذه المجتمعات.
“من المحتمل جدًّا أن يرى العديد من اليابانيين في الوقت الحاضر أن سلوك نيشي -بطل فيلم Hana-bi- رومانسي للغاية أو عاطفي، أو على الأقل خارج سياقه الزماني. لكن الطريقة التي ينفّذ بها -البطل- ما يفهم أنه مسؤولياته، تتوافق مع المثل الأعلى الذي كان موجودًا في المجتمع الياباني، على الأقل منذ فترة إيدو – قديمًا”.
العُنف في فيلم Sonatine: البقاء على مسافة من الدماء
إذًا العنف محرك خفي في فيلم Hana-bi، وضروري لوجود العالم نفسه وحضوره بشكل مادي، وهذا ليس غريبًا عن عالم الياكوزا، الذي يأخذ العنف مسلكًا لتصدير هالة من الأحقية بالفعل والشرعية بالحدوث. ولكن بالنظر إلى العنف في ثلاثية الياكوزا، ورغم ضعف منطقه في الكثير من الأحيان، إلا أن لوجوده علة ظاهرة. يسخر تاكيشي في فيلم Sonatine من كل شيء، ويحقّر من الموت ذاته، ويزدري الياكوزا أنفسهم، والجدير بالذكر هو عدم ظهور عصابة الياكوزا الأخرى -الوجه الآخر للصراع-، وبدلًا من ظهورهم يتضح أثرهم في سرد الحكاية، مثل انفجار المبنى الذي غيّر مسار الحبكة بالكامل، وحفّز نوعًا من العنف عند الجهة الأخرى، ولكن بدلًا من مواجهة العنف بالعنف، يذهب موراكاوا بطل القصة إلى منطقة نائية، ليستمتع بشيء من العبث هو وأفراد عصابته.
وتتحول الدراما المقبضة الفارغة من المعنى والخالية من السرد الخطي المعروف إلى مسرحية هزلية، ويستحيل المزاج اللوني من القاتم إلى الألوان الفاتحة، وينتقل الأفراد من الأماكن المغلقة إلى أماكن أوسع على شاطئ البحر، وتبدأ الشخصيات بالتحول من أفراد ياكوزا خطرين إلى شخصيات كاريكاتورية تقضي وقت فراغها في اللهو وابتكار اللعب، بيد أن العنف يتبعهم كقدرٍ لا بد منه؛ حتى في أحلام البطل موراكاوا تحضر لوثة الموت، ويقتل موراكاوا نفسه في الحلم، فيستيقظ ولكن بالوجه البارد الجرانيتي ذاته، غير مفزوع من قتل نفسه كأنه يرى هذا الحلم كل يوم، وهذا يفسر منطق عوالم كيتانو التي تتسم بالعبثية المفرطة.
يتفرد فيلم Sonatine عن باقي الثلاثية بشخصية رئيسية استثنائية، تعطي العنف بعدًا مختلفًا عن باقي أفلام كيتانو -بجانب العدمية والعبثية التي تتقاطع مع رحلة البطل-. يطور البطل عينًا ثالثة، وكأنه يستطيع أن ينسل عن دوائر المواقف الحرجة التي تتورط بها الشخصية سواء كانت تلك المواقف مركبة ومرتبة أو نتاج صدفة، ليكون أشبه بشبح يخترق كل جدران المكان والزمان ويقف على مسافة، مراقبًا تطور الأحداث من بعيد. ويقول المخرج عن تلك النقطة:
“في الحقيقة، الشخص القابع خارج ميدان المعركة، أو الشخص الذي يستطيع أن يراقب الموقف كله من مسافة، لديه اليد العليا، وتحته في المستوى يقبع المقاتلين أنفسهم. هذه هي طبيعة العنف، الأكثر ترويعًا هو الشخص الذي يترك الأشخاص يمارسون العنف إيزاء بعضهم فيما هو يظل رابضًا في مكانه”.
تتلافى الشخصية الرئيسية المُشاركة في الحدث عن طريق عزل نفسها عن الحدث بأكبر قدر ممكن من الطبقات، حتى في أشق المواقف يأبى موراكاوا تحريك عضلات وجهه وإعطاء تعبير فطري عن الموقف، ليس هذا فقط، بل يجرد نفسه من كل المشاعر ليتفاعل مع البيئة المحيطة بلغة العنف فقط، فيمسك المسدس ويطلق النار، وفي المناوشات والصراعات، لا يحاول أن يهرب من الطلقات بل الطلقات هي من تأبى أن تخلّصه من حياته، لا يضحك، لا يحزن، لا يبكي، ولا يتكلم إلا في أضيق الحدود، يصمم لغة خاصة به، لغة الياكوزا، أبجدية اللكمات والبارود والرصاص والنصال، حتى عندما يلعب، يلعب ألعابًا عنيفة تضعه على حافة الموت.
أهم شي يطبع الدراما بشكل عام هو صنع الإرادة، وهذا يتطلب محفزات معينة ودوافع داخلية وخارجية، بيد أن الحبكة تتطلب قدرًا من التفاعل بين الشخصية الرئيسية والبيئة المحيطة به، بما تحتويه البيئة من موجودات، لكن في الفيلم لا يحدث سوى الحد الأدنى من التفاعل بين الشخصية والمجتمع المحيط بها. يفكر موراكاوا في أول الفيلم في اعتزال الياكوزا نهائيًّا، يشعر أنه تعب من ذلك الأمر، وكل أفعاله اللاحقة تثبت أن ذلك الشخص يمضي وقتًا في الحياة لا أكثر ولا أقل.
يغرق موراكاوا في الكآبة، ويمضي في طريق يناهض ظهور المخلّص الذي يفك العقدة، يشعر مع الوقت أن ذلك العالم الغائب عن القانون، والنافي لكل القيم المجاوزة للمادة مثل الخير والشر، ليس المكان المناسب له، يشعر بتنفسية عندما يمسك السلاح ويضع الرصاصات، ولكنه يرجع ليهوى في الفراغ، نحو اللاشيء. ولكنه كما قلنا يكتسب البطل جزءًا من قوته عبر إبقاء نفسه خارج الفعل، يراقب من مسافة، ولا يسمح لنفسه بالتورط إلا لإنهاء الأمور بشكل مطلق، وتنقلب الكثير من المواقف التي إذا قارناها بفيلم عصابات تقليدي، ستتحول الكثير من أفلام كيتانو إلى كوميديا سوداء.
Beat Takeshi ضد Kitano Takeshi
في عام 1994، أي بعد إنهائه لثلاثية الياكوزا الشهيرة، تعرض كيتانو لحادث دراجة نارية، أدى إلى فقدانه السيطرة على عضلات النصف الأيمن من وجهه، ليصبح ذا وجه جرانيتي فارغ من المشاعر والانفعالات. قال كيتانو بعدها بمدة إن هذه الحادثة كانت محاولة لا واعية منه للانتحار، وهذا بالطبع أثّر على حياته بعدها، بيد أنه لم يغير حبه وإخلاصه لأفلام الياكوزا الذي يصنعها، ولكن الشيء الجدير بالذكر هو الانفصام الذي لا يتجزأ عن حياة كيتانو الفنية، حتى قبل الحادثة.
يتعرض كيتانو لشخصين، شخص مرح وشخص بائس لكنه فنيًّا أقوى من قرينه. ينسب كيتانو اسم بيت تاكيشي (Beat Takeshi) إلى العروض الهزلية على المسارح والبرامج التلفزيونية المرحة، وأشهرها بالطبع برنامج “قلعة تاكيشي” الذي يغلب عليه روح المرح والسعادة، ولكن لم يحدث أن استعمل كيتانو اسم بيت تاكيشي في السينما على الإطلاق إلا في فيلم واحد لا يذكَر في مسيرته، فيما يصمم على استخدام اسم كيتانو تاكيشي (Kitano Takeshi) في أفلامه، عطفًا على تلك النقطة يلمح تاكيشي إلى شخصيتين داخله، شخصية المخرج/ الممثل، وشخصية الكوميدي/ مقدم البرامج، ويقول عن تلك النقطة:
“أنا أستمتع بشخصيتَي بيت تاكيشي وتاكيشي كيتانو، إذا سألتني من أنا، سأقول أنا الرجل الذي يلعب دور الشخصيتين. بين الحين والآخر، أُنادي على نفسي: لا بد أن تكون متعبًا. وأسأل نفسي: ما الذي يجب علينا فعله يا سيد تاكي؟ إنها حالة كلاسيكية لانفصام الشخصية”.
يؤكد تاكيشي على أن الشخصيتين مختلفتين، وتظهران من الخارج بشخصيته الحقيقية، ويحاول الفصل بينهما، ليس من أجل نفسه فقط، ولكن من أجل الجمهور، فهو لا يثق بأن شخصية بيت ستنجح في السينما، ويقول إن الناس لن تخاطر بتضييع وقتها وتأتي إلى فيلم مكتوب على ملصقه الدعائي اسم بيت، ولذلك هو يحاول الفصل بين الشخصيتين، حتى لا يشتت الجمهور، أو يرفع من توقعاتهم أو حتى يخفضها، فهو لا يريد أن يتم معاملة الشخصيتين بالدرجة نفسها، لأنهما شخصيتين مختلفتين تمامًا، ولكل منهما جمهورها الخاص وخصوصيتها.
في خضم كل هذا يبتعد كيتانو عن التشيّؤ، فهو لا يرتدي قناع الأشياء، حتى لو كان له جانب آخر مختلف، ولكنه لا يسقط الأشياء على نفسه، ولا يعامل نفسه على أساس مركزي، لا يسيطر على الأشياء، إنه مهمش مثل أبطال أفلامه، يسقط في هوة الاغتراب وهو أكبر رموز اليابان، وهذا ما سيلاحظه المشاهد عند إكمال الفيلموغرافيا الخاصة به، ويمكن أن نتذكر ما قاله عن فيلم Hana-Bi:
“بالنسبة إليّ، يخطو نيشي وزوجته خطوة للأمام نحو الحياة الأخرى عبر الموت. بينما لم يتمكن هورابي من عيش حياة سعيدة، عبر اختياره الحياة. لقد أجبر على الموت ببطء من خلال الحياة، إنه انتحار بطيء”.