ترجمة وتحرير: نون بوست
هناك القليل من المواضيع التي يمكن أن تثير المشاعر مثلما يفعل الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، وهناك انقسام حاد بشأن المصطلحات المستخدمة في وصف ما يحدث على الأرض. منذ بداية التصعيد الأخير في المنطقة، لجأ العديد من النشطاء الفلسطينيين إلى منصات التواصل الاجتماعي لانتقاد اللغة التي تستخدمها بعض وسائل الإعلام وعدد من السياسيين لوصف الوضع في “إسرائيل” والأراضي الفلسطينية المحتلة.
وينتقد الفلسطينيون اللغة التي يبدو أنها تساوي بين الأطراف غير المتكافئة، لا سيما استخدام مصطلحات مثل “الاشتباكات“، أو الإشارة إلى “العنف” دون تحديد الفاعل أو الأسباب أو الأهداف.
في قضايا أخرى، يمكن للغة وسائل الإعلام أن تنحرف إلى استخدام مصطلحات تروج لنظريات المؤامرة أو عبارات لاإنسانية.
ويلخص ناشط فلسطيني مخاوف بعض المراقبين من المصطلحات المستخدمة في وصف أحداث القدس من خلال “تصحيح” عنوان رئيسي في صحيفة “نيويورك تايمز”. وفيما يلي بعض المصطلحات والمفاهيم التي أثارت الجدل:
“اشتباكات”
من أكثر المصطلحات التي ظهرت في التقارير الإعلامية حول أحداث العنف في القدس، والأحداث السابقة في “إسرائيل” وفلسطين، مصطلح “الاشتباكات“.
ما يعنيه هذا المصطلح هو اندلاع نزاع بين طرفين. ويصف قاموس أوكسفورد الإنجليزي هذا الفعل بأنه “دخول طرفين في صدام عنيف”.
انتقد العديد من النشطاء المؤيدين للقضية الفلسطينية المصطلح لأنه يشير ضمنا إلى درجة من المساواة في استخدام العنف، وأن المسؤولية تقع على كلا الجانبين بشكل متساو. ورغم وجود بعض الحالات التي قام فيها النشطاء الفلسطينيون بإلقاء الحجارة على الشرطة الإسرائيلية، إلا أن أجهزة الأمن الإسرائيلية كانت مدججة بالسلاح ومدرعة، وارتكبت جميع أعمال العنف تقريبا خلال الأحداث الأخيرة.
إن استخدام مصطلح “الاشتباكات” بالمعنى السلبي يعني عدم إلقاء المسؤولية على طرف واحد، وإلقاء اللوم ضمنيا بالتساوي على كل المتورطين. وحتى إذا تجاهلنا عدم وجود عنف في كثير من الحالات من جانب الناشطين الفلسطينيين، فإن استخدام مصطلح “الاشتباكات” يحجب طبيعة العنف المسلط من جانب واحد، ويكرس ما يشار إليه بـ”كلا الجانبين“. ويمكن طرح انتقادات مماثلة بشأن مصطلحات أخرى مثل “الاضطرابات” و”أعمال الشغب”.
“الصراع”
بمعنى مشابه لمصطلح “الاشتباكات”، يمكن أن يشير استخدام مصطلح “الصراع” مرة أخرى إلى التكافؤ في استخدام العنف بين الفلسطينيين وأجهزة الأمن الإسرائيلية.
بشكل عام، فإن استخدام مصطلح “الصراع” له تاريخ طويل في المنطقة، فعلى امتداد عقود، كان يشار إلى ما يحدث في الشرق الأوسط بمصطلح “الصراع العربي الإسرائيلي”.
لا يزال هذا المصطلح شائعا بين الإسرائيليين اليمينيين، والذي يعني أن العالم العربي بالكامل في حالة حرب مع دولة “إسرائيل” الصغيرة، ويحجب ذلك محنة الفلسطينيين في الأراضي المحتلة، فضلا عن تجاهل العلاقات الدبلوماسية بين “إسرائيل” وعدد من الدول العربية.
على الرغم من أن مصطلح “الصراع الإسرائيلي الفلسطيني” يعتبر أقل غموضا، إلا أنه يساوي بدوره بين الجانبين في المسؤولية عما يحدث وطبيعة العنف المستخدم.
“نزاع على الملكية”
اعتبر عدد من السياسيين ووسائل الإعلام أن ما يحدث في حي الشيخ جراح هو “نزاع على الملكية“. وعلى الرغم من أن هذا الأمر قد يكون صحيحا بالمعنى الحرفي، إلا أنه يقلص بشكل كبير من أهمية السياق العام للأحداث، كقضية سياسية وإنسانية ملحّة، ويصوّرها بأنها مجرد نزاع قد يحدث بين مالك ومستأجر في باريس أو لندن أو اسطنبول.
يستند قرار إخلاء 40 فلسطينيا من الحي إلى حقيقة أن العائلات استقرت هناك سنة 1956، بعد طردها مما يُعرف الآن دوليا باسم “إسرائيل”. تم بناء المنازل التي يعيشون فيها حاليا بمساعدة وكالة الأمم المتحدة لتشغيل اللاجئين (الأونروا) في الوقت الذي كانت فيه القدس الشرقية تحت إشراف السلطات الأردنية.
خلال الستينات، وافقت العائلات على إبرام صفقة مع الحكومة الأردنية تُخوّل لهم امتلاك الأراضي والمنازل، وكان الاتفاق يُنص على أنهم سيحصلون على صكوك ملكية رسمية للأراضي، موقعة بأسمائهم، بعد ثلاث سنوات.
لكن الصفقة أُلغيت سنة 1967 عندما احتلت “إسرائيل” القدس الشرقية. ويحابي القانون الإسرائيلي المستوطنين من خلال السماح لليهود فقط بالمطالبة بالممتلكات التي يقولون إنهم يمتلكونها قبل سنة 1948، بينما يحرمون الفلسطينيين من الحق نفسه.
بالتالي، هناك فعلا “نزاع” حول الملكية، لكن مناقشته باستخدام مثل هذه المصطلحات يعني أنه ليس أكثر من مجرد مسألة قانونية عادية، وليس قضية فريدة من نوعها لها سياق تاريخي محدد. كما أن استخدام مصطلح “عمليات الإخلاء” له تأثير مماثل، حتى لو كان دقيقا بالمعنى الحرفي للكلمة.
“متطرف” و”إرهابي”
غالبا ما يتم استخدام مصطلحي “إرهابي” و”متطرف” في وصف ما يحدث بين الإسرائيليين والفلسطينيين، حيث تشير وسائل الإعلام الإسرائيلية باستمرار إلى أعمال العنف المزعومة من طرف الفلسطينيين على أنها أعمال “إرهابية”. على الرغم من أن المصطلح أقل شيوعا في وسائل الإعلام الغربية، إلا أنه يُستخدم في بعض وسائل الإعلام اليمينية.
السبب الذي يجعل استخدام مصطلح “إرهابي” مثيرا للجدل في وسائل الإعلام الغربية هو موضوع أكبر من ذلك بكثير. تتجنب وكالات الأنباء الكبرى مثل رويترز استخدام المصطلح، قائلة إنه ينتهك مبدأ “الحيادية”. وفي سياق أحداث القدس، يساهم هذا المصطلح في ترويج رواية أجهزة الأمن الإسرائيلية.
بالنسبة لمعظم دول العالم، الإرهابي هو الشخص الذي ينخرط في أعمال عنف عشوائية ضد المدنيين، وتقفز للذهن مباشرة العمليات التي يشنّها تنظيم الدولة وتنظيم القاعدة. يعمل مثل هذا الخلط بين النشطاء الفلسطينيين، أثناء احتجاجاتهم السلمية أو إلقاء الحجارة على أقصى تقدير، وهجمات 11 أيلول/ سبتمبر أو عمليات تنظيم الدولة، على نزع الشرعية عن القضية الفلسطينية وينطوي على تعطش إسرائيلي لإراقة الدماء.
ربما يكون مصطلح “متطرف” أكثر خطورة، ففي معظم الأوقات يكون معنى هذا المصطلح غير واضح. على سبيل المثال، تعتبر العديد من الأيديولوجيات السياسية متطرفة لأنها تختلف عما يمثّل السياسة السائدة، لكن يبقى المصطلح ذاتيا في نهاية المطاف.
الصهيونية
أعرب العديد من المعلقين اليهود عن عدم ارتياحهم لاستخدام مصطلح “الصهيونية” أو “الصهيوني” عند الحديث عن الممارسات الإسرائيلية. يشير هذا المصطلح، الذي ظهر خلال القرن التاسع عشر، إلى الحركة السياسية من أجل إنشاء وطن لليهود. ظهرت تجسيدات مختلفة للصهيونية، منها الفكرة اليسارية التي تتبنى إقامة دولة اشتراكية ثنائية القومية في فلسطين التاريخية، والأصولية الدينية اليمينية التي تدعو إلى بناء دولة قائمة على قوانين الهالاخاه اليهودية التي تستبعد غير اليهود من حقّ الحصول على المواطنة.
لكن خلال القرن الماضي، استخدمت الجماعات اليمينية المتطرفة المعادية للسامية مصطلح الصهيونية كجزء من نظريات المؤامرة المعادية لليهود، إذ افترض هؤلاء أن الصهيونية ليست مجرد حركة سياسية لاحتلال فلسطين التاريخية، بل هي جزء من خطة أوسع للسيطرة على العالم. وتشير أسطورة النازيين الجدد الشهيرة إلى “حكومة الاحتلال الصهيوني”، وهو مصطلح يستخدم لوصف عصابة يهودية سرية يُزعم أنها تدير معظم الحكومات الغربية.
يوّضح التعريف السطحي الذي يقدّمه محرك بحث غوغل لمصطلح “معاداة الصهيونية” سبب هذه المشكلة، إذ شملت النتائج موقع الشبكة اليهودية المناهضة للصهيونية، وهي مجموعة من اليهود اليساريين المؤيدين للقضية الفلسطينية، على الرغم من أن النتائج قد شملت أيضا رابطة مكافحة الصهيونية، وهي من منظمات النازيين الجدد. وقد أدى ذلك إلى شعور الكثيرين بعدم الارتياح عند استخدام مصطلح “الصهيوني”، لا سيما عندما يكون ذلك في سياق نظرية المؤامرة.
الإسلام
رغم أن الأحداث وقعت في القدس خلال شهر رمضان، وطالت المصلين في المسجد الأقصى، لكن الصراع في حقيقته ليس دينيا بالأساس. يبذل عديد المسيحيين والعلمانيين الفلسطينيين قصارى جهدهم في الدفاع عن المسجد الأقصى ومعارضة الإجراءات المفروضة ضد عائلات الشيخ جراح.
تحتل القدس الشرقية والمسجد الأقصى مكانة دينية كبرى، ولهما في الوقت ذاته قيمة وطنية محورية لدى الفلسطينيين من جميع الأديان والأيديولوجيات السياسية. ورد الحديث عن القدس الشرقية كعاصمة مستقبلية للدولة الفلسطينية من القادة السياسيين العلمانيين والمسيحيين واليساريين على مدى القرن الماضي بقدر ما ورد عن الإسلاميين.
عملت بعض وسائل الإعلام، بالإضافة إلى عدد من المؤيدين والمعارضين للقضية الفلسطينية على حد سواء، على تصوير الوضع في القدس على أنه صراع بين الإسلام واليهودية، وبين المسلمين واليهود. لكن هذا الوصف غير دقيق، ويمكن أن يساهم في انتشار معاداة السامية والإسلاموفوبيا.
عربي
منذ القرن التاسع عشر، ناقش المفكرون والسياسيون والناشطون العلاقة بين الهوية الفلسطينية والهوية العربية. وتعتبر الهوية والعرق من البنى الاجتماعية التي تتغير باستمرار.
في ذروة الحركة القومية العربية التي امتدت من الخمسينيات إلى السبعينيات، دعم العديد من القادة السياسيين الفلسطينيين على غرار ياسر عرفات وجورج حبش الحركة القومية العربية وجعلوا من الكفاح ضد “إسرائيل” جزءا من النضال الأوسع من أجل الوحدة العربية والاستقلال.
في العقود الأخيرة، ومع انحسار القومية العربية، تبوّأت حركة التحرير الفلسطينية مكانة محورية، وأصبح فلسطينيو الشتات والأراضي المحتلة وفلسطينيو الداخل يرون أنهم أولاً وقبل كل شيء “فلسطينيون”.
لذلك فإن استخدام مصطلح “عربي” لوصف الفلسطينيين يحمل دلالات عدّة. يبدو هذا جليا في وسائل الإعلام الإسرائيلية، وخاصة وسائل الإعلام اليمينية، التي تشير إلى جميع الفلسطينيين الذين يعيشون بين نهر الأردن والبحر الأبيض المتوسط على أنهم “عرب”، مما يشير ضمنيًا إلى زيف الهوية الفلسطينية وأن ارتباطهم بالأرض ظرفي.
كما ينطوي ذلك – على نحو مثير للسخرية – على معنى مفاده أن الفلسطينيين هم مجرد امتداد للعالم العربي، وبالتالي فإن “إسرائيل” هي الضحية بحكم تفاوت التعداد السكاني والموقف العربي الموحد ضدهم.
غالبًا ما يتم التمييز أيضًا بين عرب “إسرائيل” والفلسطينيين، أي الفلسطينيين الذين يحملون الجنسية الإسرائيلية وأولئك الذين يعيشون في الأراضي المحتلة. في ظل الاختلافات من حيث الحقوق ومستويات المعيشة، يتباهى بعض الفلسطينيين في “إسرائيل” بهويتهم الإسرائيلية، لكنّ غالبية المواطنين الفلسطينيين في “إسرائيل” يعرّفون أنفسهم، أولا وقبل كل شيء، على أنهم فلسطينيون. على سبيل المثال، تتضامن أكبر مدينة فلسطينية في إسرائيل، الناصرة، مع متظاهري الشيخ جراح والأقصى في الأيام الأخيرة.
هيكل سليمان والمسجد الأقصى والحرم الشريف
لا يعتبر النزاع الإسرائيلي الفلسطيني دينيًا بالأساس، لكن الدين يلعب دورًا رئيسيًا في جزء واحد من القدس، أي البلدة القديمة التي تضم المسجد الأقصى وقبة الصخرة وحائط المبكى.
يصطلح اليهود على تسميته بالبيت المقدس للدلالة على موقع معبدين توراتيين قديمين، والموقع الذي يتجلى فيه “الوجود الإلهي” الأقوى على وجه الأرض. يقال إن حائط المبكى، الذي يصلي فيه اليهود، هو أحد الأجزاء الأخيرة المتبقية من الهيكل الثاني.
يصطلح المسلمون على تسمية المكان بالحرم الشريف، ويضم المسجد الأقصى الذي يعدّ أحد أقدس ثلاثة مساجد في الإسلام، ويضم قبة الصخرة ومواقع إسلامية الأخرى.
تحاول العديد من وسائل الإعلام تجنب أي استفزاز عند اعتماد تسمية دون أخرى من خلال توضيح الفروق بين المسمى اليهودي والمسمى الإسلامي، ولكن من الوارد جدا أن تنحرف الأمور عن المسار الطبيعي.
منذ احتلال “إسرائيل” للقدس الشرقية سنة 1967، يطالب نشطاء إسرائيليون متدينون ببناء الهيكل الثالث في الموقع، وهو يدعون أنّ ذلك يمهد لقدوم المسيح ويتطلب هدم المسجد الأقصى. ومع ذلك ، لم يؤيد أي من القادة الإسرائيليين هذه الفكرة علنًا، وسط مخاوف من رد فعل عنيف من العالم الإسلامي.
لكن في العقود الأخيرة، شنت مجموعات من المستوطنين اليهود حملات لرفع الحظر المفروض على صلاة اليهود في المكان. في ظل “الوضع الراهن”، كما يطلق عليه، هناك اتفاق بين “إسرائيل” والسلطات الأردنية التي تشرف على المسجد الأقصى. يسمح الاتفاق لليهود بزيارة الموقع، لكن دون الصلاة فيه. هذا الموقف مدعوم حتى يومنا من قبل الحاخامية الرئيسية في القدس.
يطالب بعض النشطاء بالسماح لليهود بالصلاة في المكان على أساس المساواة الدينية.
من السهل هنا اتهام المسلمين بالشوفينية، فهم يمنعون اليهود من الوصول إلى أقدس مواقعهم، لكن في ذلك تجاهل لحقيقة استيلاء إسرائيل على القدس الشرقية واستمرار احتلال الأراضي الفلسطينية. ويُنظر إلى الحرم الشريف باعتباره أهم رمز للسيادة الفلسطينية، وأنه خط أحمر لا يمكن تجاوزه.
لو تخيلنا دولة يعيش فيها الإسرائيليون والفلسطينيون كمواطنين متساوين تمامًا، يمكن عندئذٍ مناقشة هذه النقطة في صلب الحقوق الدينية واللاهوت، ولكن في السياق الحالي، تملي الظروف ما يحدث على الأرض.
المصدر: ميدل إيست آي