يبدو أن العلاقات الفرنسية الجزائرية ليست على ما يرام ولا كما تريد باريس، إذ تصر الجزائر على غلق الملفات العالقة وعلى رأسها ملف الذاكرة حتى ترتقي العلاقات بين البلدين لمستويات متقدمة، مستغلة في ذلك الورقة الاقتصادية حتى تجبر باريس على الاعتذار والتعويض لغلق الملفات العالقة بينهما.
شركات تحت الحصار
كثفت السلطات الجزائرية منذ رحيل عبد العزيز بوتفليقة عن الحكم نتيجة الحراك الشعبي، حصارها للشركات الفرنسية العاملة في بلادها، والبداية كانت مع شركة النفط الفرنسية العملاقة توتال، التي تعد أحد أكبر 6 شركات نفطية بالعالم.
ففي مايو/ أيار الماضي، عجزت الشركة الفرنسية عن الاستحواذ على أصول شركة النفط الأميركية أناداركو في الجزائر، بعد أن استعملت السلطات هناك حق الشفعة لمنع إتمام الصفقة، ما جعل توتال تعجز عن السيطرة على نفط الجزائر، بعد أن كانت تمني النفس بالاستثمار أكثر في هذا البلد العربي المليء بالثروات الطبيعية.
يذكر أن توتال تنشط في الجزائر في مجال تكرير النفط والبتروكيمياء وإنتاج الغاز الطبيعي، وتعمل على تطوير حقول في البحر كما تبحث عقد صفقات لإنتاج الغاز الصخري بالبلاد، وتنتج الجزائر العضو في منظمة الدول المصدرة للنفط (أوبك) قرابة مليون برميل من النفط الخام يوميًّا.
تسعى السلطات الجزائرية لتصحيح مسار العلاقات بين البلدين وربط ذلك بضرورة إغلاق ملف الذاكرة وفق الطريقة التي تطرحها الجزائر.
في 31 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، أعلنت الجزائر عدم تجديد التعاقد مع شركة راتيبي باريس الفرنسية المكلفة بتسيير وصيانة مترو أنفاق العاصمة منذ عام 2011، على أن تحل محلها أخرى جزائرية 100% مملوكة لمؤسسة مترو الجزائر.
من جهته، يواجه العملاق الفرنسي لصناعة السيارات “رينو” وضعية حرجة في الجزائر، إذ انتهت الامتيازات التفضيلية التي كانت تمنح له رغم عدم احترام كرّاس الشروط، كعدم دفع ضرائب ورسوم جمركية، بعد رحيل بوتفليقة عن الحكم والقبض على أبرز رجال الأعمال في عهده.
أحيت الجزائر قبل يومين لأول مرة”اليوم الوطني للذاكرة”تكريماً لضحايا قمع فرنسا الدموي للتظاهرات المطالبة بالاستقلال في 8 مايو/أيار 1945 وفي هذا اليوم بدأت فرنسا بقتل أول شاب وهو (بوزيد سعال 22 سنة) وصل عدد القتلى أكثر من 45,000 جزائري ودمرت مدن بأهلها #مقاطعه_المنتجات_الفرنسيه195 pic.twitter.com/3H1teT5BUK
— خالد السعدون (@1iqtop) May 9, 2021
وأعلنت الشركة الفرنسية الموجودة في الجزائر قبل أشهر خطة لتقليص عدد موظفيها، بسبب أزمة خانقة تعيشها منذ مدة، واقترح المصنع على موظفيه الدائمين (عقود عمل غير محدودة المدة)، الاختيار بين المغادرة الطوعية أو الفصل في إطار القانون الجزائري.
إلى جانب ذلك، من المنتظر أن تنهي الحكومة الجزائرية عقد تسيير شركة المياه والصرف الصحي للعاصمة المعروفة بـ”سيال” مع حلول شهر أغسطس/ آب القادم، وسيال هي شراكة بين “الجزائرية للمياه” الحكومية وشركة المياه الفرنسية “سياز” (خاصة)، أبرمت عام 2006 عقدًا لتسيير توزيع ماء الشرب والصرف الصحي بالعاصمة وولاية تيبازة الساحلية المجاورة.
جندتهم للقتال في صفوفها في الحرب العالمية 2، واستخدمتهم كدروع بشرية لجنودها.. وحين خرجوا للاحتفال بنهاية الحرب والمطالبة بحريتهم واجهتهم بالرصاص وأبادت 45 ألفا منهم.. ذكرى مجازر فرنسا في الجزائر، 08 ماي 1945 pic.twitter.com/TbYEAoqbpH
— مجلة ميم (@MeemMagazine) May 8, 2021
يأتي عدم تجديد العقد نتيجة مخالفات ارتكبها الشريك الفرنسي، ودائمًا ما يتهم الجزائريون الشركة بالعجز عن إدارة القطاع، حيث لم يبذل الفرنسيين أي جهد في محاربة تسربات المياه وعجزها عن وضع الإمكانات اللازمة لتقليلها.
إلى جانب ذلك، يعيش فرع شركة ألستوم الفرنسية لصناعة منشآت المترو والترامواي، وضعًا صعبًا بسبب شبهات فساد، وكشفت صحيفة “الشروق” الجزائرية مطلع مايو/ أيار الحالي، إنهاء مصالح الأمن المختصة في مكافحة الجريمة المالية والاقتصادية تحقيقاتها في ملف الفساد المتعلق بصفقات أبرمتها الشركة الفرنسة ألستوم مع شركة سونلغاز ومؤسسة ميترو وترامواي الجزائر.
بالتزامن مع ذلك، سحب بنك الجزائر رسميًّا الاعتماد من البنك الفرنسي “كريدي أغريكول للشركات والاستثمار” الناشط منذ سنة 2007 في السوق المالي الجزائري، وهو القرار الذي وقعه محافظ البنك رستم فاضلي، وصدر في العدد الأخير للجريدة الرسمية.
توجه رسمي لعرقلة الوجود الفرنسي
تأتي محاصرة الشركات الفرنسية في وقت تسعى فيه السلطات الجزائرية لتصحيح مسار العلاقات بين البلدين، وربط ذلك بضرورة إغلاق ملف الذاكرة وفق الطريقة التي تطرحها الجزائر، في ظل سعي فرنسي لفرض تصورها تجاه هذا الموضوع.
يفهم ذلك من تصريحات مختلف المسؤولين في الجزائر، آخرها تصريح الرئيس عبد المجيد تبون بمناسبة الذكرى 76 لمجازر 8 مايو/ أيار 1945، إذ شدد تبون على أن “جودة العلاقات مع فرنسا لن تتأتّى دون مراعاة التاريخ ومعالجة ملفات الذاكرة، والتي لا يمكن بأي حال أن يتم التنازل عنها مهما كانت المسوغات”، وأكد تبون أن المستقبل الواعد في توطيد وتثمين أواصر العلاقة بين الأمم يجب أن يكون أساسه صلبًا خاليًا من أي شوائب.
عملت باريس طوال استعمارها للجزائر وحتى بعد الخروج منها على نهب ثرواتها بأشكال عديدة ومتنوعة بفضل مسؤولين جزائريين يميل ولاؤهم صوب فرنسا.
قبل ذلك، أكد وزير الاتصال والناطق باسم الحكومة عمار بلحيمر، تمسك بلاده بمطلب التسوية الشاملة لملف الذاكرة، القائمة على اعتراف فرنسا النهائي والشامل بجرائمها في حق الشعب الجزائري وتقديم الاعتذار والتعويضات العادلة عنها، مشدداً على تمسك الجزائر بهذا الموقف الذي “يعد موقفًا مبدئيًّا”.
وغالبًا ما يؤكد المسؤولين في الجزائر أن بلادهم لن تنسى ملف الذاكرة الوطنية، خاصة مع تعلقها بالاعتذار عن الجرائم المرتكبة في حق الجزائريين، والتفجيرات النووية في رڤان، وملف الأرشيف، وقضية المفقودين الجزائريين إبان الفترة الاستعمارية.
وقبل شهر من الآن، أجّلت السلطات الجزائرية زيارة كانت مرتبة لرئيس الوزراء الفرنسي جان كاستكس إلى الجزائر بطريقة مفاجئة دون أن تعلن سبب ذلك، فيما قال الفرنسيون إن الوضع الصحي هو وراء ذلك، بينما يرجع السبب الحقيقي لتأجيل الزيارة إلى انزعاج الجزائر من فرنسا.
مستقبل العلاقات بين البلدين
يعتبر ملف الذاكرة من النقاط البارزة التي ما فتئت تعكر صفو العلاقات الجزائرية الفرنسية نظرًا إلى عدم نسيان الجزائريين للجرائم الاستعمارية المقترفة في بلادهم خلال حقبة قرن ونصف من الاستعمار، كما أن فرنسا تخشى توجه السلطات الجزائرية بضغط من المجتمع المدني إلى تجريم الاستعمار الفرنسي وما ينجر عنه من تبعات قانونية على فرنسا.
حتى خطوات فرنسا المتخذة مؤخرًا بشأن هذا الملف ينظر إليها بعين الريبة، فهي دون المأمول والهدف منها إسكات الجزائريين سلطة وشعبًا والاكتفاء باعتراف فرنسا ببعض جرائمها التي ارتكبتها خلال فترة احتلالها التي دامت 132 سنة، لغلق هذا الملف.
الجزائر في ذكرى مذابح 8 ماي 1945: لا تنازل عن اعتذار فرنسا واعترافها الكامل بجرائمها.
نعم عليها أن “تعتذر وتعترف بجرائمها”.
— Mohamed Dhifallah (@MDhifallah) May 8, 2021
لم يقبل الشارع الجزائري ولا النظام هذه الخطوات البسيطة، لذلك يضغط على باريس مستغلًّا الملف الاقتصادي لدفعها لاتخاذ خطوات مهمة لإنهاء هذا الملف، حتى يتجه البلدان إلى تطوير العلاقات بينهما والارتقاء بها.
لكن حتى في حال إنهاء ملف الذاكرة -وهذا مستبعد طبعًا- من الصعب جدًّا تحسن العلاقات الفرنسية الجزائرية على المدى القصير، خاصة أن الحراك الشعبي يظهر رفض الشارع الجزائري لفرنسا، ففي كل مظاهرة تتعدد الشعارات المناهضة لفرنسا وسط المتظاهرين، والداعية إلى ضرورة خروجها من بلادهم بسبب سرقة خيراتها والتغطية على الفساد، وليس من مصلحة النظام حاليًّا التقرب من فرنسا حتى لا يزيد من درجة التباين بينه وبين الحراك الشعبي المتواصل منذ أكثر من سنتين.
ليس هذا فحسب، إذ يوجد تباين كبير بين البلدين في خصوص العديد من الملفات الإقليمية على غرار ما يحدث في منطقة الساحل والصحراء، حيث ترفض الجزائر التمشي الفرنسي هناك، وتمسك الجزائر بلجنة العلميات المشتركة التي تضم النيجر ومالي وموريتانيا، كإطار لتبادل التنسيق والمعلومات لمكافحة الإرهاب في المنطقة، في إشارة إلى رفض التحالف الفرنسي الموازي.
أيضًا هناك تباين في وجهات النظر في خصوص الملف الليبي، فالجزائر ترفض الخيار العسكري هناك بينما تصرّ فرنسا على دعم اللواء المتقاعد خليفة حفتر، الذي يعمل على تقسيم البلاد وفرض نظام عسكري هناك.
يجب على الشعب الجزائري الأبي ألا ينسى ما قامت به فرنسا الاستعمارية من جرائم في حقه والتي لن تسقط أبدا بالتقادم وما مجازر 8 ماي 1945 إلا قطرة من بحر من الدماء والدموع!
بالإضافة إلى أنهار الدماء وجبال من الجماجم بيننا وبين فرنسا البندقية!#الجزائر#أنا_مانسيتش pic.twitter.com/nhALxSMNWt
— أوراس54 (@aures_54) May 8, 2021
يظهر التباين أيضًا في ملف الصحراء الغربية، حيث تدعم الجزائر دعوة جبهة البوليساريو إلى استفتاء لتقرير المصير في إقليم الصحراء، وتستضيف لاجئين منه، بينما تدعم فرنسا المغرب الذي يقترح حكمًا ذاتيًّا موسعًا للإقليم تحت سيادته.
يرى العديد من الجزائريين أن فرنسا عدوتهم التاريخية، حيث عملت باريس طوال استعمارها للجزائر وحتى بعد الخروج منها على نهب ثرواتها بأشكال عديدة ومتنوعة بفضل مسؤولين جزائريين يميل ولاؤهم صوب فرنسا.
وتشعر فرنسا الآن بالقلق حيال وضعها في الجزائر، ذلك أن مكانتها في هذا البلد العربي الغني بالنفط مهددة بعد أن كانت القرارات الجزائرية تُصنع في العاصمة باريس داخل الإدارات الفرنسية، لذلك تعمل جاهدة على تعديل الأوتار للتقرب أكثر من السلطات الجزائرية.