كانت الصدمة الأولى التي حصلت عليها بسبب التقدم في السن عندما بلغت الثلاثين من عمري. أتذكر أني وقفت أمام المرآة الكبيرة في غرفتي يومها وكان عيد ميلادي، ثم بدأت أتأمل ملامح وجهي باحثة عن أثر للتجاعيد.
ورغم أنني كنت في ذلك الوقت قد أصدرت مجموعتي القصصية الأولى، وأصبحت كاتبة معتمدة في موقع من المواقع حسنة السمعة، وكنت أمًّا لأربعة أولاد رائعين، وأنهيت أكثر من عشر سنوات في العمل كمدرّسة لمادة الرسم، إلا أنها (أي التجاعيد المحتملة والقادمة) كانت ما يسلب تفكيري في يومي الاستثنائي ويهديني الخوف والهلع بدلًا من الفخر بما وصلت إليه وما أنجزته.
كنت أتساءل وأنا أتأمل ملامح وجهي وأتخيل مستقبله، هل يخاف الرجال أيضًا مما نخاف نحن منه، وكيف يبدون أكثر صلابة منا إذًا، وكيف يستطيعون التمتع بالحياة بعد أن تملأ التجاعيد وجوههم؟
الرأسمالية.. النساء أول ضحاياها
بات من المعروف أن الرأسمالية ومنذ بداية العولمة قد كرست كل ما لديها من وسائل للتحكم في النساء وجعلهن مسوّقات لسلعها أولًا، وزبائن دائمات لديها أيضًا.
زرعت في الأذهان صورة الأنثى المثالية الزائفة التي تضمن من خلالها لهاث النساء للوصول إليها، وحققت الكثير من المبيعات لمواد التجميل والملابس، وغيرها من الوسائل الأخرى كالحميات والأدوية والعمليات وحتى الانضباط في صالات الرياضة.
وكما هو أسلوب الرأسمالية في إيجاد المشكلة والحل، أوجدت الصورة المثالية للأنثى في هيئة شابة رشيقة القوام تمتلك بشرة خالية من العيوب والتجاعيد، وشعرًا كثيفًا لامعًا وملامح موحدة لكنها تتغير بتغير مزاج المصممين طبعًا وحسب الموضة، ثم قدمت الكثير من الحلول التي تعطي النساء أملًا للوصول إلى تلك الصورة، وفي الحقيقة لا يمكن أبدًا الوصول إليها، ثم إن حصل الوصول فهي سنوات معدودة سرعان ما تمضي تاركة المرأة تلهث من جديد عبر عيادات التجميل هذه المرة لنرى أمامنا صورًا مشوهة لنساء متشابهات جدًّا، مصطنعات جدًّا، بائسات، وتعيسات.
الرأسمالية لم تتخلَّ بالطبع عن تسليع الرجال
توجهت الرأسمالية بالأسلوب المحموم نفسه نحو الرجال بعد سيطرتها على المرأة، تبدأ كما العادة بأن تشعر الجميع أنهم ليسوا جيدين بما يكفي، وتظهر لهم صورًا مثالية لأشخاص صنعتهم الفلاتر والإضاءات الاحترافية والفوتوشوب وغيرها، ثم تحثهم عبر وسائلها المختلفة على اللحاق ومحاولات الوصول.
عندما ندرك أن الأمر مجرد تسويق لمنتجات أشخاص آخرين يزدادون ثراء على حسابنا، وتزداد ثرواتهم كلما زادت مخاوفنا وآلامنا، سيبدأ البحث الحقيقي عن الحلول.
ونحن نرى سوق مواد التجميل الرجالية بدأ يزدهر بشكل مضطرد جدًّا، ومن المتوقع أن يكتسح العالم بعد أن اكتسح كوريا الجنوبية وما حولها من دول الشرق وصولًا إلى أوروبا وأميركا ودولنا العربية أيضًا، وازدهر قبله سوق الملابس والإكسسوار وكل ما يهم الرجال ويغريهم للوصول إلى الصورة المثالية لشاب مفتول العضلات، وسيم الملامح، كثيف الشعر، صافي البشرة، يقف بملابسه الباهظة وقامته الممشوقة مبرزًا العضلات الست التي تتقدم معدته.
من هنا البداية إذًا
عندما ندرك ان الأمر مجرد تسويق لمنتجات أشخاص آخرين يزدادون ثراء على حسابنا، وتزداد ثرواتهم كلما زادت مخاوفنا وآلامنا، سيبدأ البحث الحقيقي عن الحلول، وسنجد راحتنا وسعادتنا وأموالنا المهدورة عبثًا.
هناك موجات مضادة كبيرة في الغرب تظهر النساء من خلالها على صفحات مواقع التواصل متصالحات مع أعمارهن، رافضات للفلاتر، وعمليات التجميل، مبرزات خصلاتهن البيضاء بكل حب ومرح، وبكل جمال وسعادة وهدوء بال أيضًا، وهي حملات ليست بالقليلة وتأثيرها يزداد بشكل كبير، يشبه هذا أتباع المينيماليزم الذين يبحثون عن الراحة والسكينة بعد أن أشقاهم اللهاث خلف ما تعرضه وسائل الإعلام من مواد وأدوات وأشياء، توهمهم أنها ستجلب لهم السعادة وأنهم يحتاجونها.
هل التقدم في السن نعمة أم نقمة؟
في الحقيقة نحن فقط من يقرر هذا، ولا يمكن لأحدهم أن يقدم الجواب عن السؤال نيابة عنا. نحن من يقرر حالنا عندما نتقدم في السن من خلال أسلوب تفكيرنا أولًا، وأسلوب حياتنا والطريقة التي نعيش بها والتي تبدأ منذ بدايات الشباب، ولكن بالتأكيد نحاول أن ننقذ ما يمكن إنقاذه متى بدأنا الوعي ومتى قررنا أن نكون سعداء.
كما قلنا فإن الرأسمالية تتبع معنا كمستهلكين أسلوبًا يشبه أسلوب الإنسان النرجسي الذي يشعر ضحيته بالدونية ومن ثم يجعل جلّ غايتها الوصول إلى ما يعتبره هو جيدًا ومناسبًا، وكذا تقدم لنا الصور المثالية فتشعرنا أننا عندما نتقدم في السن سنخسر الشباب والجمال اللذين تملك شركاتها وحدها أكسيرهما، وذلك من خلال منتجاتها ومستحضراتها وعمليات التجميل الباهظة.
وفي الحقيقة نحن نرى من يتبعون خطواتها كيف يبدون مصطنعين جدًّا ومتصلبين وبلا ملامح أو مشاعر ثم يتحولون إلى مسوخ بشعة، ومن هنا وجب أن ننتبه إلى أن التقدم في السن يجب أن يصحبه عناية وهدوء بال، وقبول منا له، فنحصل على شكل مريح وجميل، وملامح سعيدة هادئة، حتى بوجود التجاعيد والترهلات، لأن الروح هي المصدر الأول لتلك الطاقة المنبعثة من الإنسان.
ولهذا نحن من يجعل التقدم في السن نعمة بوعينا، ونحن أيضًا من يجعله نقمة بإهمالنا وتكاسلنا أو يأسنا، أو من خلال الجري وراء سراب المستحضرات والعمليات التي تحولنا إلى مسوخ لا أكثر.
النظرة الإيجابية للتقدم في السن هي الأهم
لن تتشكل النظرة الإيجابية للتقدم في السن دون أن نبذل لها جهدًا، ذلك لأن كل وسائل الإعلام حرصت منذ عقود على تشويه صورة كبار السن خدمة لأصحاب المصالح، ولهذا نحن نحتاج أن نغرد منفردين جدًّا بينما نخبر أنفسنا ونقنعها أن التقدم في السن أمر ليس بهذا السوء.
علينا بعد أن وجدنا قدواتنا أن نحاول اتباع أسلوب حياتهم، واكتشاف الأسباب التي أوصلتهم إلى هذا الواقع الجميل.
القدوات الملهمة أمر مهم للغاية هنا
من المهم جدًّا أن نبحث عن الملهمين بشكل جدي وحثيث، ونراقب سعادتهم وهم يعيشون أيامهم بهدوء وثقة وطاقة وإنجاز، بل بأناقة ورشاقة ولياقة ربما لا يمتلكها الكثير من الشباب، وهم موجودون بكثرة على مواقع التواصل الاجتماعي التي يجدون فيها المساحة والفسحة لقول كلمتهم والإعلان عن نمط حياتهم.
علينا بعد أن وجدنا قدواتنا أن نحاول اتباع أسلوب حياتهم، واكتشاف الأسباب التي أوصلتهم إلى هذا الواقع الجميل، وأن نكون حازمين مع أنفسنا أولًا، ومع الأحكام المسبقة التي زرعت في أنفسنا عبر عقود طويلة.
ومن المهم أن نعرف قيمة تقدمنا في السن وأن نقدر جيدًا ما اكتسبناه خلال تلك الرحلة، وعلى عدة أصعدة، منها مثلًا:
- خبرتنا في أعمالنا، وهذا وحده كنز وثروة من المهم استثمارها.
- خبرتنا في التعامل مع الآخرين والحكمة، فنحن اليوم أكثر قدرة على التمييز بين البشر ومعرفة معادنهم ونواياهم، وهو ما لم نكن نملكه أيام الشباب الأولى.
- خبرتنا في الحياة وفهمها بشكل أكبر، وهي أي هذه الخبرة ما يمد كبار السن بالمرونة والهدوء والقدرة على التجاوز وحتى الصفح.
- لم تعد لدينا تلك التشنجات التي تصاحب اختلاف وجهات النظر، أو الاختلافات في الأذواق، أو الاختيارات التي كانت تشكل قضايا مصيرية في سنوات الشباب.
- قدرتنا على الاستمتاع بالطبيعة والجلسات العائلية، وحتى السكون والصمت متعة لا يعرفها الشباب.
- وبالتأكيد نحن نملك الكثير من الوقت بعد أن أنجزنا ما علينا من مهام التربية والتعلم والعمل الجاد، وبدأت رحلة الاستثمار في الخبرات وممارسة الهوايات، وحتى تسجيل المذكرات والسير الذاتية.
لنركز على الإنجاز والمتعة لا على الآخرين
إنها الرأسمالية دومًا بشركاتها وإعلامها من جعل غاية البشر أن ينالوا إعجاب الأخرين ورضاهم وحتى غيرتهم، ولو تمعنا قليلًا فيما يلهث خلفه البشر عادة لوجدنا السراب، فلا شيء يكفي ولا شيء يوقف هذا اللهاث المحموم لنيل رضا الآخرين بينما يعيش أولئك حياتهم.
لنبدأ التركيز على متعتنا وإنجازاتنا وأنفسنا إذًا، ولنخرج بكامل إرادتنا منذ اللحظة من هذه الدوامة المقيتة والمهلكة. لنتصالح مع تقدمنا في السن ونستعد. وفي النهاية لا بد من بعض ما علينا أن نتذكره للوصول إلى حالة من السعادة الكاملة مع تقدمنا في السن، ومنها:
- أن نبدأ بالادخار.
- أن نبدأ الاستثمار أيضًا إن لم نكن قد بدأنا.
- أن نعطي لهواياتنا الأولوية وندعمها معتذرين لها عن انشغالاتنا أيام الشباب والكدح والعمل الشاق.
- لا بد من برنامج للقراءة كنوع من المتعة أولًا والتعلم ثانيًّا.
- لنجعل لأنفسنا برنامجًا رياضيًّا لا نهمله مهما كان بسيطًا.
- لنبدأ بتدليل أنفسنا والتخطيط لهذا أيضًا عبر السفر والرحلات والعلاقات الجديدة والتأمل والتعايش مع الطبيعة بشكل أكبر.