قبل 7 أعوام من الآن، في خضم التصعيد بين فصائل المقاومة في قطاع غزة المحاصر وقوات الاحتلال الإسرائيلي في فصل الصيف؛ فاجأت المقاومة جموع المهتمين بالنزاع العربي الفلسطيني، داخليًّا وخارجيًّا، حينما قالت إنها على وشك ضرب عاصمة الاحتلال الاقتصادية، تل أبيب.
في الواقع، لم تكن المفاجأة في هذا الصدد هي الوصول إلى عمق العدو وعاصمته المحتلة، إذ تمكنت المقاومة من الوصول إليها صاروخيًّا بالفعل قبل عامين من ذاك التوقيت، في معركة “حجارة السجيل” (عمود السحاب) عام 2012، حينما قصفت القدس المحتلة وتل أبيب بصواريخ إم-75 ذات الجذور الإيرانية.
ولكن المفاجأة عمليًّا كانت في تحديد ساعة معينة من المساء، الساعة التاسعة، لقصف عاصمة دولة الاحتلال، بما يعني أنهم يدعون قوات الدفاع الجوي للخصم إلى الاستنفار والتأهب، مع وعد قسامي، في الوقت نفسه، بأن الصاروخ المطلق سيتمكن من تجاوز منظومة القبة الحديدية والوصول إلى عمق الأراضي المحتلة.
بالفعل، على الرغم من التحذير القسامي، والتأهب الإعلامي العالمي، ينجح الصاروخ الغزيُّ في اختراق الأجواء الإسرائيلية، وتفشل القبة الحديدية في اعتراضه، ما يسبب صدمةً للمجتمع الإسرائيلي، وزهوًا في المجتمع الفلسطيني، إذ لم يعد الأمر مقتصرًا على الوصول إلى أماكن حيوية بعيدة المدى، وإنما تطور إلى تجاوز منظومات الدفاع الجوي المعادية وتحدي غطرسة العدو الصهيوني التقنية والنفسية.
لم يسبب الصاروخ خسائر كبيرة، إذ ظلت بعض المشكلات الأخرى قائمة، من قبيل ضعف وزن الرأس التفجيري وافتقاد هذه النوعية من الصواريخ إلى الدقة التوجيهية المنشودة؛ ولكنه حقق الغرض منه، وهو بيان القدرة على تجاوز منظومات الدفاع الجوي المعادية، وإحداث خسائر مادية نتيجة القصف المساحي، وبث الرعب في نفوس مناطق أخرى أبعد من غلاف قطاع غزة المحاصر، وكشفت المقاومة أن الصاروخ المستخدم طرازٌ جديد من نوع ج-80، نسبة إلى الشهيد كمال الجعبري، القيادي في كتائب القسام.
من زاوية أخرى في السياق نفسه، وفي المعركة نفسها، وقعت حادثة مشابهة، إذ قالت كتائب القسام إن عناصر تابعة لها نجحت في تجاوز الشريط الحدودي بينها وبين الاحتلال، عبر أحد الأنفاق، والتسلل إلى أحد المواقع العسكرية، يدعى “ناحل عُوز”، والاشتباك مع جنود العدو، موقعين عددًا كبيرًا من القتلى، يصل إلى 10 جنود، وقد حاولوا أسر أحدهم، لكنهم لم يتمكنوا لظروف المعركة.
ترجمت كتائب القسام عمليًّا تهديدها بقصف مواقع الاحتلال في مدينة القدس، فهتف المقدسيون باسم محمد الضيف بعد وفائه بالوعد.
أنكر العدو الرواية القسامية، مقللًا من أعداد القتلى، وطبيعة الهجوم؛ ففاجأ القسامُ الجميعَ ببث شريط مصور يوثق العملية، ويظهر الإجهاز على عدد من الجنود، والاستيلاء على أسلحتهم، ومحاولة أسر أحدهم، وصراخ بعضهم خوفًا من الاشتباك مع المقاومة، ما سبب إحراجًا كبيرًا لقوات الاحتلال وارتباكًا في صفوف جنوده وعلاقتهم بالمستويات الإعلامية والعسكرية.
في هذه الحرب التي استمرت أكثر من 50 يومًا، حيث تعد أطول الحروب في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي، تكررت العملية نفسها أكثر من مرة. يقع حدث أمني. تختلف الروايتان، الفلسطينية والعبرية، ثم يتبين لاحقًا صدق الرواية الفلسطينية، إما بمقطع يوثق العملية، وإما باعتراف الاحتلال الضمني لاحقًا، وإما بفشله في إثبات سرديته؛ تمامًا كما حدث في عملية “زكيم” البحرية ووقائع أسر الجنديَّين، هدار جولدن وشاؤول آرون.
تكررت هذه الوتيرة في هذه الجولة من الصراع، حيث ارتأت كتائب القسام، على لسان قائدها العام محمد الضيف (أبو خالد) أن تلوح بالتدخل لمساندة أهل حي الشيخ جراح في نضالهم ضد الاحتلال، إذا لم يتوقف عن محاولات تهجير السكان المحليين هناك، ليحل محلهم قطعان المستوطنين.
هذا التهديد الذي خرج به الضيف يساوي رفعًا غير مسبوق لوتيرة التصعيد بين الطرفين؛ فقد أفسح المجال أمام الخصم كي يستعد لضربة استباقية، واضعًا إياه تحت ضغط واستنفار لمحاولة منع الهجوم، الذي علمَ به مسبقًا، وفي الوقت نفسه، وضع رجاله تحت ضغط ضرورة تنفيذ هجوم ناجح يليق بالادعاء والتهديد الذي قطعه على نفسه، في ظل استنفار العدو وتأهبه، وهو، بالتأكيد، لن يقوم بذلك، إلا إذا كان متيقنًا من قدرة رجاله على التنفيذ.
ترجمت كتائب القسام عمليًّا تهديدها بقصف مواقع الاحتلال في مدينة القدس المحتلة، فهتف المقدسيون باسم “محمد الضيف” بعد وفائه بالوعد، كما هتفوا باسمه للوفاء بالوعد، واضطر الاحتلال إيقاف مخطط تهجير حي الشيخ جراح مؤقتًا، والانسحاب من محيط مواقع الاشتباك مع المقدسيين بعد تهديد القسام بعملٍ جديد خلال “ساعتين” فقط، وذلك بسبب تثبيت هذه المعادلة: ما نهدد به، قادرون على الوفاء به، بلا تضخيم أو تهويل، رغم استنفار العدو.
تعود جذور هذه الأزمة، أزمة الثقة في رواية الاحتلال، إلى طبيعة الدولة الأمنية، وتحفظها الشديد على أعداد القتلى.
بالنسبة إلى محللين إسرائيليين، فإن فصائل المقاومة باتت في السنوات الأخيرة أكثر مصداقية عند الإسرائيلي من حكومة بلاده، وانعكس ذلك على استجابته لتهديدات القسام، تأكيدًا للشعار التاريخي: “إذا قالت حماس فصدقوها، فإن الصدق ما قالت حماس”. في المقابل، إن المصداقية في رواية الجيش الإسرائيلي والموثوقية في قدراته باتت في أدنى مستوياتها، بسبب الانتكاسات الأخيرة.
تعود جذور هذه الأزمة، أزمة الثقة في رواية الاحتلال، إلى طبيعة الدولة الأمنية، وتحفظها الشديد على أعداد القتلى، إذ يصدر في “إسرائيل” حصر سنوي دوري بالأعداد المعلنة لضحايا الحروب مع القوات العربية، وتلعب ما تُعرف بـ”الرقابة العسكرية” دورًا مهمًّا في تحجيم الأخبار الحساسة على الجيش والمجتمع، وهي وظيفة معروفة بالنسبة إلى كل المؤسسات العسكرية، ولكنها تزداد تغوُّلًا في الجيش الإسرائيلي نظرًا إلى خوف القيادة السياسية على صورة الدولة كوطن آمن لاستقبال اليهود من كل دول العالم.
في المقابل، إن العامل الديني المتعلق بعدم التحسس من الموت (الاستشهاد)، والتصالح مع فوارق القوة بين الطرفين، التي تصب في مصلحة الاحتلال، واستشفاف عدم تورُّع الاحتلال في الإيغال في الدماء العربية من خلال المعارك التاريخية السابقة؛ كلها أمور ساعدت في صناعة المشهد النهائي: ارتفاع موثوقية رواية المقاومة مقابل تراجع موثوقية رواية الاحتلال، سواء من الناحية الأمنية المتعلقة بالأحداث والاشتباكات، أو فيما يتعلق بالموازنة بين الادعاء والقدرة العملية على التنفيذ، ولعل أكبر تجسيد لهذه الأزمة هو ما عُرف في أدبيات تداول الأخبار العسكرية الصهيونية، حيث تُسبق عادة بعبارة: “سُمحَ بالنشر“.