توفيت جدتي “عيشة” في 19 ديسمبر 2017 عن عمر يناهز نحو 86 عامًا، على السرير الذي اعتدت أن أنام عليه أنا. وبالرغم من فارق العمر الكبير بيننا، كانت تربطنا صداقة كبيرة نتبادل فيها القضايا العامة، والمواقف الطريفة والأحاديث العائلية.
حينما كنت طفلة صغيرة، كانت جدتي تشتكي دومًا من كثرة حديثي وتقول لي دومًا، أنت تجلبين لي الصداع بكثرة حديثك وأسئلتك، وما أن أصمت لبضع دقائق، حتى تبدأ هي بفتح أحاديث متنوعة. كبرت في العمر، وكبرت علاقتنا أكثر، وربما ما عمق علاقتنا على نحو خاص هو المدينة التي تنحدر عائلاتنا منها “يافا”.
جدتي “عيشة”، طويلة القامة ذات عيون متوسطة الحجم بنية اللون، وشعر باللون البرتقالي لاستخدامها “الحنة” التقليدية في صبغ الشيب فيه. أما بشرتها فكانت بيضاء تكسوها تجاعيد السنين الثقيلة، يديها كبيرتا الحجم، تملؤهما التجاعيد والنمش، وذات ملمس خشن بفعل سنوات العمل الطويلة في خياطة وحياكة الملابس للمساعدة في إعالة عائلتها المكونة من 12 فردًا.
كانت وفاة جدتي حدثًا مؤلمًا في حياة العائلة لمكانتها الكبيرة لدى الصغير قبل الكبير، ولكنّ ما جعل وفاتها أمرًا يصعب علي بالذات تجاوزه، أنني كنت أراها رمزًا للتاريخ الفلسطيني الحقيقي الذي لم يخضع للتزوير، أو لقلب الحقائق، أو لتغيير الرواية وطمسها. كنت أراها إرثًا ليس من السهل تعويضه، إذ أنها أُخرجت من يافا حينما كانت تبلغ نحو 15 عامًا عاشت فيهم حياة الفلسطيني الطبيعي الذي يعيش في منزله ومدينته كأي شخص حول العالم يولد ويعيش في دولته، إلا أن جدتي لم تستطع أن تكمل حياتها على نحو طبيعي كباقي سكان الأرض، واضطرت للهجرة من مدينتها شاهدة بذلك على إحدى أقسى المراحل التي مر بها الشعب الفلسطيني منذ الأزل: “النكبة”.
على لسان جدتي “عيشة” أروي لكم قصة النكبة وأبرز ملامحها
نعيم الوطن
كانت الحياة في يافا مثالية، جميلة وهادئة وبسيطة. أعتقد أنني كنت من بين البنات الأوفر حظًا في جيلي. بالرغم من أننا ننحدر من حي المنشية، اضطرتنا الظروف للعيش في كل أحياء يافا الرئيسية بما في ذلك العجمي والنزهة. وعلى الرغم من اعتقاد الناس بأنه لم يكن هناك مظاهر تطور في ذلك الوقت، إلا أن فلسطين كانت من أكثر الدول العربية تطورًا وتقدمًا. على سبيل المثال، تلقيت التعليم أنا وأخواتي البنات، ولم يقتصر التعليم في يافا على الذكور. كان والدي يقول لنا، هيا يا فتيات، أريدكن متعلمات ومتفوقات، أريد أن تتعلمن لتقرأن القرآن، وفي حال اضطررتن للتوقيع على أية أوراق رسمية، أريدكن أن تعرفن ما تقرأن وألا تتعرض للخديعة.
كان لدينا سينما، وكان الفنانون العرب يحيون الحفلات في مدينتنا. أما عن مكاني المفضل، فكان شاطئ البحر، والميناء. كنت أذهب مع والدي للميناء لرؤية البحر الصافي، ومراقبة السفن التجارية التي كانت تصل لميناء يافا من كل الموانئ العربية. هل تصدقين أن العرب كانوا يطلقون على يافا لقب “أم الغريب”؟..نعم، كانت يافا حاضنة للجميع، تستقبل التجار من كل الدول العربية، وتستقبل الطلاب والمرضى والمتنزهين من كل المدن الفلسطينية. كان جدي يقول، لا يوجد من ينام جائعًا في يافا. يافا لا تترك أحدًا ينام جائعًا، حيث كان التكاتف الاجتماعي وقتها كبير جدًا، وكان الجيران كالعائلة الواحدة.
التهجير القسري
يوم النكبة هو اليوم الذي لا يمكنني أن أنساه أو أنسى أيًا من تفاصيله في حياتي، كانت الجماعات اليهودية تتوافد إلى فلسطين وتسكن في مناطق متفرقة من المدن الفلسطينية، ومن بينها يافا، وكانوا يفعلون ذلك بحماية الجيش البريطاني. يعتقد الناس أن “إسرائيل” هي أساس نكبتنا يا جدتي، ولكن قبل “إسرائيل”، بريطانيا هي سبب نكبة الشعب الفلسطيني. هجمت العصابات الصهيونية على بيوتنا، ما اضطرنا للرحيل واستئجار بيوت في مناطق أخرى، لجأت عائلتي مثًلا لمنطقة أخرى في يافا اسمها “رشيد”، وكنا نعتقد أن إقامتنا هناك مؤقتة.
وللأسف، لحقت بنا العصابات الصهيونية هناك أيضًا، اعتدوا على سكان البيوت بالأسلحة والنيران، وكانوا يقذفون القنابل فوق أسطح المنازل المليئة بسكانها، وانتهجوا خطف الفتيات لأنهم كانوا يعرفون أهمية عفة الفتاة لعائلتها في فلسطين.
كانوا يخطفون الفتيات ويتحرشون بهنّ أمام عائلاتهنّ، ويخيرون عائلاتهنّ بين قتل فتياتهم واستباحتهنّ أو الرحيل.
كانت العصابات الصهيونية تتسلح بأسلحة كثيرة وحديثة، وكان الجنود البريطانيون يساعدونهم طول الوقت. أما نحن، فكنا عُزلًا، وكانت المقاومة عبارة عن مجموعات من الثوار بتسليح بسيط، وهكذا امتلكت العصابات الصهيونية القوة على الأرض بالرغم من أحقيتنا وامتلاكنا لها.
لم يكتف الجيش البريطاني بدعمهم عسكريًا، بل أغلق الشوارع والطرق، وفتح أمامنا فقط البحر، ما اضطر العائلات للهرب نحو البحر والرحيل بالمراكب نحو المدن الفلسطينية المختلفة، أو المدن العربية القريبة.
كانت المراكب مزدحمة بالفلسطينيين الذي أُجبروا على الفرار من مدنهم، وأذكر أنّي رأيت بعيني عائلات كاملة تغرق في منتصف البحر بسبب تكدس أعداد كبيرة بالمراكب هربًا من الموت
أتعرفين ما يقهرني يا جدتي؟ أننا تعرضنا للظلم مرة حين طُردنا من بيوتنا، ومرة حين اتهمنا العرب بأننا استسلمنا وتركنا بيوتنا لليهود، متناسين الوحشية التي تعرضنا لها، والأهوال التي واجهناها.
النزوح في الخيام
تسببت النكبة بتهجير نحو800 ألف فلسطيني إلى مناطق مختلفة من فلسطين والبلاد العربية. وكم يملؤني الحزن والقهر، حين أدرك أننا من بين تلك العائلات التي أُجبرت على ترك بيتها واللجوء إلى مدينة أخرى. وصلنا إلى غزة عبر البحر بعد يومين من الترحال.
استقبلتنا في البداية عائلات كريمة، ثم اتخذنا من المساجد والمدارس بيوتًا لنا، حتى وفرت لنا الأمم المتحدة خيامًا كانت في منطقة العباس غربي مدينة غزة. خلال تلك الفترة، تقدم بي العمر وبت حسب عائلتي فتاة يحيطها الخطر لعدم زواجها بالرغم من بلوغها 18 عامًا. كنت جميلة جدا، وكان يتقدم لي الكثير من الشباب، ولكني كنت عنيدة جدًا إذ أصررت على الزواج عند عودتي ليافا.
كنت أعد الأيام للعودة، وأعتقد أن مرحلة النزوح هذه مؤقتة، وأننا سنعود حتمًا ليافا. حين تقدم جدك للزواج بي، رفضت كالمعتاد، فجاءني خالي وصرخ بي حتى سمع كل ساكني الخيام صوته وقال لي: “بتحلمي ترجعي ليافا؟ إذا بدك تنتظري ترجعي ليافا لتتزوجي، عمرك ما بتتزوجي..العرب تركونا والبيوت ما عادت إلنا.
تزوجت وحملت وأنجبت طفلًا واثنان وثلاثة، وبعد نحو 4 سنوات قضيناها في الخيام، نقلونا إلى بيوت صغيرة في منطقة تٌسمى “معسكر الشاطئ”.
وطن جديد
بدأت العائلات الفلسطينية بالاعتياد على منازلها الجديدة، والتعايش مع الواقع الجديد. منهم من اتجه للعمل مع تجار قطاع غزة، ومنهم من عاد للعمل في الأراضي المحتلة، ومنهم من عمل في الصيد والزراعة. ولكن غالبية اللاجئين كانوا يعانون من أوضاع مادية صعبة للغاية، إذ تحولت حياتهم من الاستقرار والراحة المادية، إلى ضنك العيش والسعي وراء أي عمل يمكنهم من خلاله الإنفاق على أسرهم.
لم تقف النساء مكتوفات الأيدي أيضًا، فكن يعملن في الخياطة والتطريز ويساندن أزواجهن. بالنسبة لي، اعتدت على العمل في يافا مع والدي، كنت أستيقظ فجرًا مع والدتي وأخواتي لنصنع له الحلويات والقطر، ليبيعهم في زاوية بالقرب من برج الساعة وسط يافا. تحملي مسؤولية العمل منذ صغري، دفعني لتحملها مجددًا بعد هجرتي وزواجي. علمتني أختي الكبيرة فن الخياطة، ومع مرور الوقت أصبحت أشهر خياطة في العائلة ومحيط المعارف وبالطبع كنت أخيط الملابس لوالدك وأعمامك وعماتك مما يساهم أيضًا في توفير بعض النقود.
كانت ذاكرة جدتي “عيشة” ونساء ورجال جيلها حاضرة لترسخ في أذهاننا حقنا في أرضنا التي لم نرها، ولتزرع فينا القتال على اتزاع حق العودة
أملٌ لا يموت
توفيت جدتي “عيشة” بعد عشرات السنوات التي قضتها خارج مدينتها التي تنتمي إليها. كانت تشعر طوال حياتها أنها في رحلة مؤقتة، وتعتقد أنها ستعود يومًا إلى يافا. كانت تتلذذ بالحديث عن مدينتها ولا تترك أي فرصة لتخبرنا عن تاريخها وأحداث هجرتها منها. جدتي، التي عانت مع تقدم العمر من نسيان التفاصيل والأحداث، لم تنس أي تفصيل صغير يتعلق بحياتها هناك.
ربما كانت شهادتها على النكبة، وتشبث ذاكرتها بتلك التفاصيل، وتكرار رواية قصتها دون كلل أو ملل، الوسيلة الوحيدة التي امتلكتها لمحاربة الظلم والاضطهاد والقتل والتهجير الذي تعرضت وعائلتها وأحبابها له.
في الوقت الذي عمل فيه الاحتلال الإسرائيلي على مدار عقود طويلة على طمس الرواية الفلسطينية وقلب الحقائق وتزييف التاريخ وإلهاء الفلسطينيين بمشاكل حياتهم اليومية كالسعي وراء تأمين احتياجاتهم الحياتية الأساسية ونسيان القضية الفلسطينية بما في ذلك حق العودة، كانت ذاكرة جدتي “عيشة” ونساء ورجال جيلها حاضرة لترسخ في أذهاننا حقنا في أرضنا التي لم نرها، ولتزرع فينا القتال على اتزاع حق العودة، ولتهدينا رواية حقيقة نخبرها للباحثين عن الحقيقة، وننقلها لمن بعدنا.