تحاول دولة الاحتلال الإسرائيلي منذ 73 عامًا فصل الفلسطينيين جغرافيًّا وسياسيًّا، في مخطط يتداعى اليوم ضمن جولة عنيفة وشاملة من التصعيد عنوانها القدس المحتلة.
وتحل اليوم ذكرى النكبة الفلسطينية، وهي مصطلح يطلقه الفلسطينيون على عملية تهجيرهم من أراضيهم على أيدي عصابات صهيونية مسلحة، في 15 مايو/ أيار 1948، وإقامة “دولة إسرائيل”.
لكن الذكرى هذه المرة جاءت في توقيت حساس، وحملت معاني وتقديرات مختلفة لما يمكن أن يكون عليه الوضع الفلسطيني في المستقبل.
بدأ التغيير بعد توتر متصاعد في حي الشيخ جراح بالقدس المحتلة، في خضم معركة قضائية محتدمة بشأن مصير عائلات فلسطينية مهددة بالإجلاء لصالح مستوطنين إسرائيليين، لم تتوقف استفزازتهم بحق أهالي الحي منذ بداية شهر رمضان المنقضي، حتى توسع الأمر ليشمل مواجهات عنيفة في المسجد الأقصى بين الفلسطينيين وقوات الاحتلال ومستوطنيه.
وبعد تحذير من فصائل المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة المحاصر، لم تقابله استجابة إسرائيلية بإنهاء حالات القمع والاقتحامات للأقصى، بدأت مواجهة عسكرية عبر إطلاق الصواريخ تجاه مدن محتلة أبرزها تل أبيب.
والتحمت في مشهد نادر الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1948، وخرج الآلاف لمواجهة عنف واستفزازات المستوطنين في عدة مدن أبرزها اللد وعكا.
كما خرجت مظاهرات عديدة في مدن الضفة الغربية المحتلة لمساندة قطاع غزة المحاصر الذي يتعرض إلى قصف إسرائيلي عنيف، ويتظاهر هؤلاء على الرغم من قمع قوات الاحتلال وأجهزة أمن السلطة الفلسطينية.
محاولات الفصل
انقسم الفلسطينيون جغرافيًّا منذ النكبة عام 1948، جراء عمليات التهجير الكبيرة التي استكملتها سلطات الاحتلال عام 1967 بعد احتلالها للضفة الغربية وقطاع غزة وشرق القدس.
انتهت حرب الـ67 عسكريًّا، لكن تبعاتها السياسية والجغرافية لم تنتهِ بعد، حيث تواصل “إسرائيل” احتلال الضفة الغربية، ومحاصرة قطاع غزة، إلى جانب ضم القدس والجولان المحتلَّين إلى حدودها.
لم تعد المسألة تقتصر على اتفاق أوسلو وما تبعه من اتفاقيات تعمدت تجزئة الشعب الفلسطيني، وحصر قضيته بسكان الضفة الغربية المحتلة وقطاع غزة المحاصر.
وفتحت هذه الحرب باب الاستيطان الإسرائيلي في الضفة الغربية المحتلة، وبخاصة في مدينة القدس المحتلة وقطاع غزة المحاصر. لكن الحال لم يستمر في قطاع غزة المحاصر، حيث انسحبت قوات الاحتلال من مستوطناتها هناك عام 2005، العام الذي يمكن القول إنه ساهم في فصل القطاع سياسيًّا فضلًا عن الواقع الجغرافي المعقد.
وبدأت سلطات الاحتلال منذ ذلك الحين بالحديث عن قطاع غزة المحاصر ومشاكله الأمنية، مع تصاعد قوة حركة حماس، وشرعت باختلاق وجود حاجة إلى التعامل معه بشكل مختلف في محاولات لتثبيت الفصل السياسي والجغرافي.
تحقّقَ حلم “إسرائيل” أخيرًا بعدها بعامين بفعل الانقسام الفلسطيني بين حماس، التي سيطرت على قطاع غزة المحاصر، والسلطة الفلسطينية وحركة فتح في الضفة الغربية المحتلة. إلا أن المشكلة الأكبر لم تكمن هنا، فقد خططت “إسرائيل” جيدًا لهذا الفصل منذ تأسيس السلطة الفلسطينية عام 1994، كنتيجة لاتفاق أوسلو في العام الذي سبقه.
ولم تعد المسألة تقتصر على اتفاق أوسلو وما تبعه من اتفاقيات تعمدت تجزئة الشعب الفلسطيني، وحصر قضيته بسكان الضفة الغربية المحتلة وقطاع غزة المحاصر، وإنما امتدت إلى تدابير وإجراءات من شأنها توريط الفلسطينيين “حتى لا يقوون على الاستمرار بالمطالبة بحقوقهم الوطنية الثابتة”، وفق ما رأى أستاذ العلوم السياسية في جامعة النجاح الوطنية عبد الستار قاسم، في مقال سابق.
فكان لا بد من ربط حياة الناس في الضفة الغربية المحتلة وقطاع غزة المحاصر، بخيوط تحولهم إلى مجرد أدوات بيد “إسرائيل” والدول الغربية، لكي يبتعدوا عن التفكير بالإفلات من قبضة اتفاق أوسلو وما ترتب عنه، ولكي يترددوا مرارًا وتكرارًا قبل أن يقرروا الخروج من مأزق السلطة الفلسطينية وما ترتب عنها من مسؤوليات أمنية تجاه تل أبيب، حسب قاسم.
ومن أبرز تدابير وسياسات التوريط هي الوظائف العمومية، حيث أرادت الدول الغربية و”إسرائيل” حشر الشعب الفلسطيني في زاوية لقمة الخبز من خلال الرواتب، فشجعت انتفاخ الوظائف الحكومية، ورصدت الأموال من أجل المساهمة بصورة فعالة في صرف الرواتب.
ومن ذلك أيضًا المؤسسات العامة الكثيرة في الضفة الغربية المحتلة وقطاع غزة المحاصر، التي باتت تشكل عبئًا كبيرًا، حيث لا بد من وجود من يعمل على إدارتها واستمرارها في العمل.
ويقول قاسم: “من المؤسف أن الشعب في الضفة الغربية خاصة قد قبل بثقافة الكسل والاستهلاك من خلال سياسات عامة جرى اعتمادها عبر السنوات السابقة. لقد تم ضرب الكثير من الأعمال الإنتاجية، وتحول الناس إلى معتمدين على رواتب من الخارج ومؤسسات دعم ومنظمات غير حكومية”.
فأغلب الموظفين الحكوميين لا يعملون، أي لا يقدّمون خدمات حقيقية للناس، خاصة الذين يعملون في الأجهزة الأمنية عدا الشرطة، وأغلب قطاعات الإنتاج.
ويرى قاسم أن الهدف من كل ذلك هو “إغراق الناس بنعم الحياة لكي يبتعد تفكيرهم في النهاية عن مواجهة “إسرائيل” واستعادة الحقوق الوطنية الثابتة”.
لم تستهدَف الضفة الغربية المحتلة وحدها بهذه الخطة، فقد حاولت سلطات الاحتلال صرف قطاع غزة المحاصر أيضًا عن الهموم الوطنية عبر تشديد الحصار عليه منذ 15 سنة.
أثبت الشعب الفلسطيني وعيًا كبيرًا بهذه السياسات، وأظهر تمسكًا قويًّا بهمومه الوطنية، وأهمها حق عودة اللاجئين إلى أراضيهم المحتلة، والإفراج عن الأسرى والمسرى.
ويواجه قطاع غزة المحاصر أزمات متعددة مثل قضية عدم فتح معبر رفح مع مصر بشكل دائم، وتغيير سلطات الاحتلال عدد الأميال المسموحة للصيد في بحر القطاع، فضلًا عن ندرة الوظائف وتدهور سوق العمل.
لم تنجُ مدن الداخل المحتل عام 1948 أيضًا، فقد أدت سياسات الاحتلال العنصرية إلى انشغال المجتمع العربي هناك بمحاربة الجريمة ومحاولة تخصيص ميزانيات أكبر للسلطات المحلية العربية، وزيادة عدد تصاريح البناء في البلدات العربية.
ويشكو العرب في كثير من الأحيان من التمييز، خاصة في ما يتعلق بالحصول على الوظائف والتعليم والسكن، ويعانون من سياسة هدم المنازل ومصادرة الأراضي والقوانين العنصرية التي سنّتها الأحزاب اليمينية المتطرفة.
لكن بعد كل هذه السنوات، أثبت الشعب الفلسطيني وعيًا كبيرًا بهذه السياسات، وأظهر تمسكًا قويًّا بهمومه الوطنية وأهمها حق عودة اللاجئين إلى أراضيهم المحتلة، والإفراج عن الأسرى والمسرى.
والثلاثاء الماضي، قال رئيس المكتب السياسي لحركة حماس إسماعيل هنية، إن الشعب الفلسطيني توحّد بكل مكوناته وتياراته في معركة الدفاع عن القدس المحتلة، ووقف في خندق الدفاع عن المقدسات.
ويقول رئيس حزب التجمع الوطني في أراضي 48 جمال زحالقة، في مقال نشره أمس الجمعة: “ما من شيء ممكن أن يحرك الشعب الفلسطيني مثل القدس والأقصى، وما من قضية توحد الشعب الفلسطيني مثل الدفاع عن عاصمته وعن مقدساته. القدس في مركز الحدث الفلسطيني، هكذا كانت وهكذا ستبقى”.