تأتي الذكرى الـ 73 للنكبة الفلسطينية في ظروف مشابهة لما حدث عام 1948، حين هجرت “إسرائيل” الفلسطينيين من بلداتهم وقراهم، حيث يحاول الاحتلال الإسرائيلي تهجير عدد من العائلات في حي الشيخ جراح، لكن هذه المرة يرفض الفلسطيني تكرار ما حدث معه رغم الاعتداءات المستمرة من قبل الجنود الصهاينة.
وكما هو معروف فإن الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين قائم على مبدأ تهجير الشعب والاستيلاء على أرضه وممتلكاته، واستيطان من يجلبهم من يهود بقاع الأرض ليستوطنوا مكان الفلسطينيين، كما يفعل في الوقت الراهن.
ويعتمد الاحتلال على أساليب مختلفة للتهجير، حيث يبتكر دومًا أفكارًا شيطانية ليسلب الفلسطيني أرضه وبيته، سواء بالقوة أو بسنِّ قوانين لصالحه لتكون مدخلًا له للاستيلاء على ممتلكات الفلسطينيين، لتكرار سيناريو النكبة أكثر من مرة.
ويرمز مصطلح النكبة إلى التهجير القسري الجماعي عام 1948 لأكثر من 750 ألف فلسطيني من بيوتهم وأراضيهم في فلسطين المحتلة، وتمثلت في نجاح الحركة الصهيونية -بدعم من بريطانيا- في السيطرة بقوة السلاح على القسم الأكبر من فلسطين المحتلة وإعلان “قيام إسرائيل”.
وبتزوير للوثائق وسن القوانين التي تعمل لصالحه، تمكن الاحتلال الإسرائيلي من الاستيلاء على بيوت لأربع عائلات تسكن في حي الشيخ جراح قبل سنوات هي الكرد والغاوي وحنون، الذين حاولوا استرجاع بيوتهم لكن أجبروا على إخلائها ويعيشون الآن في ظروف قاسية موزعين على أحياء القدس المحتلة.
ورغم الرحيل إلا أن تلك العائلات لا تزال تنصب خيامًا أمام بيوتها، وفي كل مرة يتعرضون للمضايقات من قبل المستوطنين، سواء من خلال إلقاء القمامة عليهم أو إضرام النيران في الخيام وحرقها.
وتعود أصول النكبة المتجددة لأهالي الحي لاتفاقية عقدت بين الحكومة الأردنية ووكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين “أونروا” عام 1956، عندما انتقلت 28 عائلة فلسطينية من العائلات التي هجّرت إثر نكبة 1948 إلى السكن في حي الشيخ جراح، وتم تسليمها عقارات مقابل تخليهم عن مُسماهم كـ”لاجئين” أمام “أونروا”.
وبدأت قوات الاحتلال منذ عام 1972 تضيّق على السكان، بزعم أن الأرض التي بنيت عليها منازلهم من طرف الحكومة الأردنية كانت مؤجرة في السابق لعائلات يهودية، وفي العام ذاته توجهت جمعية استيطانية لتسجيل الأراضي بورقة مزورة، وسجلت لها دون وجه حق، وبعدها بدأت برفع دعاوٍ على السكان.
عائلات عانت النكبة مرتين
ما فجّر الأحداث الأخيرة في الشيخ جراح هو اقتحام جنود الاحتلال بيت السيدة مريم الغاوي وألقوا بها وبعائلتها في الشارع، إلا أن العائلة لم تستسلم ونصبت خيمتها، واستحوذت على تضامن سلمي كبير من قبل قرى الداخل المحتل والقدس المحتلة ومن يعيش خارج الحي.
في عام 2006 عادت الجمعيات الاستيطانية وهي مسلحة بادعاءات جديدة وبدعم من الحكومة، وجددت الدعوى بملكيتها للحي، وعاد الصراع بين الجمعيات الإسرائيلية وعائلة الغاوي في المحاكم.
ومنذ الاستيلاء على البيت تتصدى مريم بشكل يومي لاعتداءات المستوطنين، وتؤكد لهم رفضها للتهجير وأنهم سيخرجون وستعود وعائلتها إلى البيت، وتردد لهم باستمرار: “هذا بيتي أنا”، وإن ادعى مستوطن أنه بيته وحقه تصرخ في وجهه: “أنت كاذب”.
ويتعرض منزل الغاوي إلى الاعتداءات من قبل الشركات الاستيطانية منذ عام 1972، عندما ضمت “إسرائيل” القدس الشرقية إلى القدس الغربية، إذ ادعت الجمعية الاستيطانية “كنيس إسرائيل” ملكيتها للمنزل الذي تملكه العائلة منذ عشرات السنين، ولكنها لم تنجح في إثبات ملكيتها للأرض والمنزل أمام المحاكم الإسرائيلية.
وفي عام 2006 عادت الجمعيات الاستيطانية وهي مسلحة بادعاءات جديدة وبدعم من الحكومة، وجددت الدعوى بملكيتها للحي، وعاد الصراع بين الجمعيات الإسرائيلية وعائلة الغاوي في المحاكم، حتى صدر عام 2009 أول قرار إسرائيلي لطرد عائلة الغاوي.
ليست عائلة الغاوي وحدها من تصدت للمستوطنين في الأيام الأخيرة، فكذلك الحال مع عائلات الكرد والقاسم والجاعوني واسكافي، التي أعطتهم محاكم الاحتلال مهلة للإخلاء حتى بداية مايو/ أيار الجاري، إلا أن المحكمة قد تراجعت وأجّلت الحكم بفعل التضامن الشعبي على مستوى العالم مع سكان الشيخ جراح ورفض تهجيرهم.
عانت عائلة الكرد التهجير مرتين، فالمرة الأولى كانت حين هجروا من حيفا، والثانية حين تم تهجير نبيل الكرد -76 عامًا- من بيته عام 2008 وأجبر على الخروج منه بقوة، ثم اعتصم مدة عامين بخيمة أمامه برفقة 13 فردًا من عائلته قبل حرقها.
أما اليوم يسعى الاحتلال لإخراجه من البيت بشكل كامل، علمًا أن مستوطنين يتقاسمون معه جزءًا كبيرًا من العقار. فقد صدر عام 2020 أمر بإخلائه للبيت، لكنه لا يزال يرفض ويعلق: “الطرد والتهجير أسوأ من الموت ولن أرحل”.
قوانين لتهجير المقدسيين
يسعى الاحتلال دومًا لتبرير جرائم التهجير بسن القوانين التي تتناسب مع مآربه، رغم أن الخلل فيها يكون واضحًا كالشمس، في هذا السياق يقول ناصر هدمي رئيس الهيئة المقدسية لمناهضة التهويد: “كل القوانين التي يسنها الاحتلال الإسرائيلي هدفها تهجير المقدسيين وذلك لتحويل الواقع الديموغرافي في المدينة ودفعهم للهجرة خارجها”.
ويؤكد هدمي لـ”نون بوست” أن القوانين التي سنتها “إسرائيل” من أجل التهويد والتهجير كثيرة، وأبرزها “حارس أملاك الغائبين” الذي يعطي ما يسميه الاحتلال “دائرة أراضي إسرائيل” الحق في الاستيلاء على عقار مالكه أو جزء من مالكيه خارج حدود القدس المحتلة “سواء الضفة أو خارج فلسطين”، حيث تستولي عليه الدائرة وتحوله للجمعيات الاستيطانية، لافتًا إلى أن هذا القانون يساعد الاحتلال السيطرة على عقارات للمقدسيين.
إن الاحتلال يستهدف الشيخ جراح لوجود ثغرة قانونية، وهي غياب الأوراق الثبوتية لدى المقدسيين لإثبات ملكيتهم لبيوتهم.
كما أوضح أن الاحتلال عمل على تصنيف أراضي مدينة القدس المحتلة باللون الأخضر، ما يعني ذلك منع البناء عليها وتبقى المساحات فارغة ومفتوحة، أو يمكن استخدامها للمنفعة العامة والمخوّل بذلك بلدية الاحتلال التي تعمل لصالح المستوطنين، فتحولها إما إلى مدرسة دينية أو حديقة توراتية أو حتى إسكان للمستوطنين داخل الأحياء المقدسية.
ووفق الهدمي فإن من ضمن قوانين التهجير “مركز الحياة”، وهو قائم على أن المقدسي عليه إثبات مركز حياته دائمًا في مدينة القدس المحتلة، أي يعيش ويعمل ولديه فاتورة كهرباء وماء وفاتورة ضريبة المسقفات، فهو لو أثبت ذلك يستطيع الاحتفاظ ببطاقة الهوية التي تعطيه إياها حكومة الاحتلال، مشيرًا إلى أن من يسكن القدس المحتلة ويعمل خارجها يطرد وتسحب هويته، والحال لمن درس من المقدسيين عامَين متتالين في الخارج أو من تزوجت بغير مقدسي.
ونوّه إلى قانون “الولاء” الذي يعني أن من يكون ولاؤه للاحتلال ويثبت ذلك بالأدلة من حقه العيش في المدينة، ومن يفعل عكس ذلك يكون مصيره كحال نواب القدس المحتلة الذين رشِّحوا في الانتخابات التشريعية عام 2006، حيث طردوا وسحبت بطاقاتهم كونهم ترشحوا ضمن قوائم لا تعترف بـ”إسرائيل”، ويعيشون الآن في الضفة الغربية المحتلة ومحرومون من دخول القدس المحتلة.
وبحسب هدمي فإن تهجير أهالي الشيخ جراح يهدف الاحتلال من خلاله إلى تنفيذ مآربه لزرع بؤر استيطانية جديدة، وفي حال نجح في ذلك سيطبّق الأمر على بقية الأحياء المقدسية كحي سلوان، مشيرًا إلى أن الاحتلال يستهدف الشيخ جراح لوجود ثغرة قانونية، وهي غياب الأوراق الثبوتية لدى المقدسيين لإثبات ملكيتهم لبيوتهم.