“لماذا يحرك الكلب ذيله؟ لأن الكلب أذكى من ذيله، لو كان الذيل أذكى، لهز الذيلُ الكلب”
كانت تلك الجملة هي افتتاحية وأشهر العبارات التي قيلت في فيلم أمريكي بعنوان “هز الكلب” Wag The Dog صدر في 1997 وحاز على عدد من الجوائز.
العبارة تعني أن المتحكم في أي علاقة هو الأذكى، فعلى سبيل المثال، رغم أن الشعب أكثر عددًا وأكثر سطوة من حاكمه وحكومته، إلا أنه في معظم دول العالم، لا يتحكم الناس في حكامهم، بل على العكس، يحرك الحكام شعوبهم بما يخدم سياستهم، وعادة لا يُطوّعون سياساتهم لتخدم شعوبهم.
تذكرت تلك العبارة وأنا أشاهد فيلمًا أمريكيًا آخر، صدر قبل أسابيع، يحكي “القصة غير المروية عن دراكولا”، الفيلم يقدم مصاص الدماء الشهير بصورة لم نعتد أن نره عليها، صورة مختلفة تمامًا، صورة الشرير الذي اضطر أن يكون كذلك، لكن لماذا يريد المنتج أن يجعل الشرير أقل شرًا؟ ربما لكي يفسح المجال لشرير أكثر خطرًا!
هذا تمامًا هو ما حدث في فيلم Dracula Untold الذي يُعرض حاليًا، فالشرير الذي تحول على مر الزمن إلى حكايات يخاف منها الصغار، صار مدافعًا عن أهله مقابل الشرير الحقيقي، فاتح القسطنطينية وسلطان المسلمين: محمد الفاتح.
القصة التي يرويها الفيلم (وأنا الآن على وشك أن أُفسد القصة لمن لم يشاهد الفيلم، لذلك يمكنك مشاهدة الفيلم أولاً قبل أن تكمل القراءة) هي قصة السلطان الدموي “محمد الثاني” الذي يأمر حلفاءه بأن يقدموا له 1000 صبيًا ليضمهم إلى حرسه الخاص (الإنكشارية).
يبدأ الفيلم بمشهد لحليف السلطان “فلاد”، ملك ترانسلفانيا أثناء محاولته الدفاع عن أرضه مما اعتقد أنها هجمة من الأتراك – وقد تكررت كلمة الترك إلى حد الملل في الفيلم – لكنه يفقد اثنين من رجاله المقربين، لا على يد الأتراك كما توقع في البداية، لكن على يد “ابن الشيطان” .. الشر المطلق ومصاص الدماء.
وفي أحد احتفالاته يأتي رسل السلطان ليهينوه ويطلبوا منه الجزية بالإضافة إلى “الصبية” الألف – واستخدام ذلك اللفظ يوحي بنوع ما من الشذوذ – لكن “البطل” يرفض ذلك.
وبعد محاولات “سلمية” لحل القضية، يدرك فلاد أنه لا حل سلمي مع الأتراك، كما أنه لا قبل له بسلطان الأتراك، فيقرر أنه للتخلص من شر الترك، عليه أن يتحالف مع الشيطان ذاته “لأن الأتراك لن يخافوا من السيف، لكنهم سيخافون من الوحش”، وفي مشهد يظهر محمد الفاتح بملامحه القاسية وهو يجرح نفسه ليختم بالدم على مصالحته التي يقصد بها ذل فلاد، ويظهر في الشاشة لفظ الجلالة “الله” بجوار ختم الدم، وبعد حوار ضعيف بين مصاص الدماء وبين فلاد، يتحول فلاد إلى بطل خارق ليتخلص من الأتراك، لكن الشيطان يخبره أن عليه أن يصبر لثلاثة أيام بدون أن يشرب من الدماء، فلو شرب قبل نهاية الأيام الثلاثة سيتحول إلى مصاص دماء أبدي.
يُظهر الفيلم الانتصار الساحق لملك ترانسلفانيا على الجنود الأتراك، ويظهر قوة الإرادة التي تمتع بها فلاد كي لا يشرب من دماء الناس، ورغبته القوية في ألا يتحول إلى شرير، هو فقط يدافع عن أهله بتعاونه مع الشيطان.
في المعركة الكبرى، قبل نهاية الأيام الثلاثة بساعات، يكاد فلاد يهزم جيش السلطان، إلا أنه لا يستطيع، وتكاد الشمس تطلع، وستذهب قوته إن طلعت الشمس بدون شربة من الدماء، وفي مشهد عاطفي، تقع زوجته من قمة القلعة، وقبل أن تلفظ أنفاسها الأخيرة، تطلب منه أن يشرب من دمها، ليتحول إلى شرير أبدي ذو قوة خارقة لينقذ بلاده وأهلها،
وفي مشهد معبر آخر، يلتفت فلاد إلى بقايا جنوده الذين أوشك الأتراك على سحقهم عن بكرة أبيهم، فيجد عجوزًا وامرأتين وعددًا من جنوده، يقرر فلاد أن يشرك ما تبقى من شعبه في الشر، وينقل لهم قوته عن طريق جعلهم يشربون من دمه، ليهاجم بعدها بجيشه الصغير جحافل التُرك العظيمة.
وبينما يقضي مصاصو الدماء على جيش الترك، يدخل دراكولا (الذي تلقب بابن الشيطان بعدما كان لقبه ابن التنين) إلى خيمة السلطان، ليجده قد حصن نفسه بالفضة التي تحرق مصاصي الدماء، إلا أنه بعد صراع، يقتل السلطان محمد، ويشرب من دمه.
الشرير المطلق يقرر أن يفعل خيرًا، فيقتل أصدقاءه من مصاصي الدماء بعد أن قضى
على الأتراك كي لا يعيثوا في الأرض فسادًا، ويعطي ابنه لقس في الكنيسة كي يحميه من أن يصبح مصاص دماء هو الآخر.
وفي نهاية الفيلم، نرى مشهدًا حديثًا، ربما في الولايات المتحدة، يظهر فيه الملك، مصاص الدماء، وهو يقابل امرأة شبيهة بزوجته، في إشارة إلى استمرارية النهج الذي سار عليه الرجل.
هذه هي قصة الفيلم باختصار لا أراه مخلاً، لكن هل هناك قصة حقيقية من الممكن أن نرجع إليها؟ بالطبع!
فهناك أمير دُعي فلاد دراكولا (ابن التنين)، سماه الأتراك والعرب “فلاد المخوزق” إذ اشتهر بوحشيته مع معارضيه وأعدائه، كان والده فلاد دراكولا الثاني قد سعى إلى طلب دعم السلطان التركي للاستيلاء على العرش في والاكيا، ومن أجل ذلك شن الأتراك الحرب مع أعداء دراكولا، وفي المقابل، وفور عودته لعرش والاكيا عام 1443، أرسل فلاد الثاني ولديه الشرعيين؛ فلاد ورادو إلى البلاط السلطاني التركي كرهائن لدى السلطان مراد الثاني لإثبات ولائه للإمبراطورية التركية، وفي أعقاب وفاة فلاد الثاني، عاد فلاد الثالث ليحتل مكان أبيه على عرش والاكيا، فيما بقى رادو لدى البلاط السلطاني.
وبينما تحول فلاد تيبس ليصبح أساس أسطورة مصاصي الدماء، فإن أخاه بقى مخلصًا للسلطان، وصديق طفولته، محمد الثاني، ولكن رادو لم يكن ذا قيمة في غزو إسطنبول، وعندما بدأ فلاد تيبس في ارتكاب مذبحة البلقان، أرسل محمد الثاني رادو لقمع أخيه المتعطش للدم.
وفي المعارك مع الأتراك، انتصر فلاد لفترات وهزم جيوش الأتراك وخوزق الآلاف من الترك المسلمين، من بينهم قادة جيش السلطان محمد، إلا أنه في نهاية المطاف هزم رادو أخاه فلاد بعد أن تعاون معه حلفاء الأخير، قبل أن يتم أسره ونفيه وتختلف في نهايته الأقاويل.
هذه هي القصة كما ترويها كتب التاريخ، لكن الرسالة التي يريد الفيلم إيصالها هي رسالة شديدة الخطورة، فتكرار كلمة “الترك” للحديث عن الأتراك والمسلمين فيه خطورة شديدة، ففي الوقت الذي تبرز فيه تركيا كلاعب أساسي على الأرض في الشرق الأوسط، تتوجه إلى دورها أسهم النقد، أحيانًا بشكل منطقي، وفي أحيان أخرى بشكل مرضي، إلى حد يمكن ربطه بالخوف المرضي من الأتراك “ترك – فوبيا” .
الرغبة لدى معدي الفيلم في تشويه الأتراك كانت ظاهرة تمامًا، والأمر تعدى ذلك إلى تخويف الأوروبيين من الأتراك، نتحدث هنا عن كلمات قالها السلطان مثل “فلاد سيوقف زحفي للسيطرة على أوروبا”، ولم يكن مستغربًا أن أكون واثنين من أصدقائي ممن شاهدوا الفيلم، قد أقروا بشبه ما بين صورة السلطان وبين الرئيس التركي، رئيس الوزراء السابق رجب طيب إردوغان.
الفيلم يعرض كيف أن السلطان التركي أمر جنوده بتغطية أعينهم والسير ورائه لأنه هو “المرشد” لهم في هذه المعركة، وكيف أنهم لا يحتاجون أن يروا، فقط أن يسمعوا ويطيعوا، المشهد الذي يقترن فيه دم السلطان بلفظ الجلالة يوحي بسلطة السلطان الإلهية.
ورغم أن كلمة “الترك” في أوروبا كانت تُستخدم لوصف المسلمين، إلا أن استخدامها في الفيلم، وتجنب استخدام كلمة مثل “العثمانيين” أو “الدولة العثمانية” يؤكد أن رسالة الفيلم ترتبط مباشرة بالأتراك (أو بالمسلمين إذا اعتمدنا خطاب القرون الوسطى)، وليس بتاريخهم العثماني.
الرسالة التي يوصلها الفيلم في هذا الوقت الحرج، أنه يمكن لشخص ما أن يتحالف مع الشيطان ذاته لحرب الأتراك، لكنه في نفس الوقت لن يكون شريرًا جدًا، هو فقط يقع في خانة رد الفعل.
هذه الرسالة وصلت بصور مختلفة عبر أفلام أشهرها فيلمين اثنين، الأول هو فيلم “لورنس العرب” Lawrence of Arabia عام 1962 والثاني هو فيلم Midnight Express عام 1978 الذي صور الأتراك كشعب همجي ووحشي وجعل من مهرب مخدرات أمريكي بطلا قوميا.
لكن على العكس من الاستقبال الغاضب الذي استقبل به الأتراك الفيلمين، خاصة الأخير منهما، لم يستقبل الأتراك الفيلم الأمريكي الجديد بالكثير من النقد، فلم نجد أثناء بحثنا في الصحف التركية تعليقات عن الفيلم سوى تعليق باهت من صحيفة زمان التركية في نسختها الانجليزية، وصف فيه الفيلم بأنه “رغم احتوائه على العديد من الأخطاء، إلا أنه يستحق المشاهدة”.
أحد أخطر المشاهد في الفيلم هو اشتراك جميع المتبقين من ترانسلفانيا في الحرب ضد الأتراك، الجميع تحولوا إلى أشرار من أجل القضاء على الأتراك، الأتراك شر يبرر تحول الجميع إلى مصاصي دماء، وربما يكون المشهد الأخير ورسالته التي يرسلها باستمرارية المعركة، وهذا هو أخطر ما في الموضوع، تبرير التحالف مع أي كان للوقوف أمام قوة ما.
ربما ما شاهدناه في القصة غير المروية عن دراكولا هي قصة أخرى عن تحريك الذيل للكلب، وكيف أن الذيل، وهم المنتجون في حالتنا، يريد أن يخلق معركة وأعداء من لا شيء.