بقي الجبل هو الجبل، يتجسد كل مرة بفرادة في الحكايات التي تولد مع مخاض كل حدث.
مع كل ليلة على سفحه، تتحدث النسوة عن الآمال المعلقة على باب أزرق، يلعب دور السجان ومقصلة الإعدام، فيما هن يحلمن أن يفتح الباب وينجو الأمل من المشنقة.
كان الجبل الكرمل والباب الأزرق باب السجن، والنسوة فلسطينيات مسجونات وراء الباب، في سجن الدامون في حيفا، حيفا التي تحمل أحرفها آثار الدم والنكبة، وإليكم الحكاية.
نعود ونلقى البلاد على حال لم نحلم بها يومًا، ولم نرجوها، لكنها وقعت، وأوقعت في القلب ذكريات وأيقظت في العقل أسئلة وصراعات وانتباهًا مفرطًا لكي لا تهزمنا الصور الطاغية على الأرض، فتذيب الصور المحفورة في القلب.
في مايو/ أيار الذي يعود كل عام يحمل رائحة الدم وصدى صرخات الفاجعة، كانت البوسطة تشق طريقها في مجاهل البلاد، تقطع الطريق من القدس المحتلة إلى يافا، كما تشير لافتات الطريق لا كما تشير معرفة ما، لم تملكها الفتاة في مطلع العشرينات، مقيدة اليدين والقدمين داخل البوسطة، تحاول أن تتلمس وجهتها في بلادها التي تراها لأول مرة بعينيها من ثقوب شبك حديدي يغطي النافذة.
إذًا هذه هي البلاد التي رأتها في الكتب والصور والحكايات، هي البلاد التي رأتها في سمرة وجه جدها الراحل، تراها لأول مرة في الحادية والعشرين من العمر، تحت حراسة جندي إسرائيلي مسلح، في سيارة تتبع وحدة نقل الأسرى (النحشون)، تتكون أول الذكريات المُعاشة بين فلسطين المحتلة التي حكوا لنا عنها كثيرًا وفتاة من فتياتها.
تشير لافتات الطريق إلى “بتاح تكفا/ يافا/ تل أبيب/ …” وأسماء أخرى، ويشير القلب إلى منبه متوتر في داخله ألا يقع في فخ رؤية البلاد كما يشاؤون هم، بل كما حكتها قصصنا، ألا ينسى سيرة البلاد الأولى في نكبتها الدامية.
تواصل البوسطة طريقها، شمالًا ثم جنوبًا، دون أن تملك الفتاة قدرة دقيقة على أن تعرف أين هي. تتغير التضاريس فتتحول من كثافة الأشجار إلى كثافة الرمال، لكن أين الاتجاه؟ أهو شمال أم جنوب؟
لافتة على الطريق مكتوب عليها “سديروت”، إذًا البوسطة ذاهبة جنوبًا. والاسم على اللافتة مرتبط منذ الطفولة البعيدة بحروب قطاع غزة المحاصر التي لا تنتهي، وبالمحاولات الأولى لهذه البقعة بأن ترد الكف بالكف، وألا تكتفي بالأنين تحت سياط العذاب.
تتوقف البوسطة بعد ساعات، يأتي سجانون، ينزلون الفتاة المقيدة منها، يضعونها في غرفة، يغلقون الباب ويمضون وهي لا تعرف بعد أين حطت بها الرحال.
تحاول أن تتوقع، يأتي “عصفور” يقدم لها طعامًا، فتسأله: “أين أنا؟” يقول لها: “لم يقولوا لك؟ أنت في سجن عسقلان”.
يهوي الاسم على القلب ثقيلًا ومؤنسًا، وهذا تناقض ليس منطقيًّا إلا في فلسطين المحتلة.
“العصفور” هو شخص باع ذمته للاحتلال ومتعاون معه، يوهم الأسير الفلسطيني أنه أسير مثله ليستدرجه في الكلام، محاولًا انتزاع اعتراف أو معلومات منه لصالح المخابرات.
هذه عسقلان، التي كان لاسمها سحره الخاص في سيرة صلاح الدين، ثم حين كانت منتهى الأفق أمام بيت هذه الفتاة، لكنها كانت حلمًا بعيدًا وراء حدود فرضتها النكبات المتلاحقة. هذه عسقلان يخبرها عنها عميل!
يا لهول المعرفة الغضة بالبلاد كيف تأتي سياقاتها!
في حيفا الكبيرة الواسعة، كانت صلاة من بكاء تقام على جانبي اللوح الزجاجي، الفتاة وحدها من جهة، أمها وأخواتها من الجهة الأخرى، كلمات مخنوقة بالدمع تعبر من سماعة هاتف على الطرفين. تنتهي 45 دقيقة، تخرج الفتاة من الباب، مقيدة اليدين، تسرق النظر إلى السماء الصافية بين مرافق السجن قبل أن تختنق بالحديد، ويتأوه قلبها :”رباه هذه سماء حيفا وهذا هواؤها وشمسها”.
في الزنزانة المسماة مجازًا غرفة، يحترق ضميرها على الألم الملقى في ملامح وجه أمها، تتبادل الشابات في الغرفة الأحاديث عن الزيارة، تقول إحداهن إن الأهالي عادة ما يذهبون إلى البحر بعد انتهاء الزيارة. يا الله، يا لهذه الرفاهية المجبولة بالقهر المر.
يقود أبو حازم، الرجل الخمسيني، سيارته بين الطرقات، إلى أن يقف قرب الشاطئ، يحدد لأهالي الأسيرات الذين معه في السيارة أين يمكنهم التجول بأمان على الشاطئ، ويخبرهم بأنه سينتظرهم بعضًا من الوقت.
يتجولون على بحر بلادهم بعد أن زاروا بناتهم في السجن القريب.
الأم وبناتها على رمل الشاطئ، يلتقطن بعض الصور والصَّدَف، هذا اللقاء الأول ببحر حيفا.
في الزيارة التالية، تقول أمها إنهن زرن البحر، وفي العام التالي تخرج من السجن، يتحدثن أخواتها عن ذكريات البحر، ويتركن لها مساحة تصفّح صورهن على شاطئه.
ينبثق من عتمة الألم سؤال: هل أنا أسيرة تأنيب ضميري الذي جعلهن يختبرن ألم غيابي في السجن؟ أم يمكن أن أتحرر منه إذا ما كان سجني سببًا جعلهن يتعرفن إلى البلاد بطريقة ما؟
أهكذا يرى الناس بلدانهم؟ على هوامش ارتدادات نكبتهم الكبرى؟
في زاوية من زوايا الغرفة، قلم ودفتر وكلمات تتدفق، ربما جملة واحدة، وربما عشرات الصفحات، المشترك دائمًا بينها بعد كل جرة قلم هو التوقيع: سجن الدامون – حيفا. النصوص والرسائل التي نجحت في الخروج من وراء الأسوار والأسلاك الشائكة، حتى الأكياس التي كانت ترسل فيها بعض الهدايا لأهلها خلال الزيارة، كل شيء موقع عليه بـ”حيفا”.
كأنها الطريقة الوحيدة لانتزاع دليل على العلاقة المحاصرة بمكان ساحر الجمال.
بعد 7 أشهر في السجن في حيفا، تعود إلى حياتها، الأهل والأصحاب، والدراسة.
في لحظات اللقاء الأولى، حضن اشتياق ودموع، تضحك: “ولكن لماذا الدموع؟ كنت في إجازة على شاطئ حيفا!”.
ما هذا الترميز العجيب لتجربة ليست إلا شكلًا من أشكال النكبة؟
أهو استعلاء على محاولة القهر وكيّ الوعي؟ أم هو تنكر واستخفاف بما يحاول الاحتلال أن يفرضه على حالة الوعي الفلسطيني الذاتية بالمكان؟ أم هو استشراس في العض على الجرح لأن الوقت الآن وقت أن تناطح الكف المخرز ولو بكلمة بدلًا من الانبطاح تحت سوط الألم والنواح؟ أم هي كل هذه معًا؟
بماذا يمكن أن يفسر أحدٌ ما، أي أحد، ترميز فتاة في مطلع عمرها لسجنها بأنه إجازة على شاطئ حيفا؟
من البعيد، من قطاع غزة المحاصر، يأتي صوت الحجة ريا بارود عبر إذاعة صوت الأسرى، تسلّم على ابنها فارس وتغني له: “والله يا دار بس إن روحوا صحابك لأطليك بالشيد والحنا على بوابك يا دار يا دار”.
تغني الشابات في السجن معها الأغنية ذاتها، يحلمن لو كان ممكن أن يلوحن بأصواتهن للصوت القادم من الراديو، ها نحن نسمعكم، من بقعة في البلاد المسلوبة. ونغني مع الجدة التي فقدت بصرها ثم ماتت ثم مات ابنها في سجنه وهما ينتظران اللقاء على الأرض، لكنه كان مقدرًا في السماء!
يغني فرج سليمان لحيفا كثيرًا، لكن ما هي حيفا على وجه التحديد؟
الشرفات ومخبز أم صبري وفتوش؟ أم السجن والسجانون والبحر البعيد رغم كل قربه؟ ام هي السرير في حي الحليصة الذي بقي خلدون يبكي فيه يومين قبل أن تسرق هويته عائلة يهودية في “عائد إلى حيفا”؟
عاشت الفتاة في حيفا 7 أشهر، لم ترَ البحر فيها إلا أثناء عبور البوسطة سريعًا من أحد الشوارع في الطريق إلى المحكمة، لكنها رأته كثيرًا في أحلامها.
كثيرًا جدًّا ما كانت تخلط بين السجن والمدرسة في الأحلام، فتحلم أن إدارة السجن أخذتها ورفيقاتها في السجن رحلةً إلى البحر، كانت تصل الشاطئ وتقف عليه لكنها مقيدة اليدين والقدمين، وصوت يحاصرها ألا تتحرك حيث تريد لأنه ممنوع، تصحو من الحلم لتجد نفسها في السجن.
حين خرجت، ظلت تحلم كثيرًا أن البحر النائم في الأفق أمام بيتها، زحف حتى صار أمام البيت!
توغل النكبة في القِدَم، تصبح حدثًا بعيدًا في صورته الأولية، لكنه حدث مستمر في إعادة التشكل، وحفر أثره في الناس، ولو تخيلنا أنها لم تحصل، ربما لذهبت الفتاة إلى البحر بصورة اعتيادية للغاية مع أسرتها، دون هذا العبور الكثيف بتناقض المشاعر وانتباه الفكر، وتوتر القلب.
السجن، صورة النكبة الواقعة على أولئك الذين حاولوا وفكروا أن يتخذوا فعلًا تجاه الاقتراب من استعادة ما تمّت سرقته منهم، وهو في إحدى صوره محاولة المحتل لفرض صورة البلاد على عين الناظر إليها كما يشاء هو لا كما نشاء نحن، وهذه المعركة المختبئة بين جنبات النفس المتوارية عن النظر، وفي التفاصيل الصامتة على امتداد الطرقات بين السجون وفي الزمن العابر على زنازينها، هي معركة لا يراها أحد، لكنها تكاد تكون الأخطر: كيف ترى البلاد؟ كيف تحفظ النكبة في ذاكرتك؟ كضحية مغلوبة على أمرها؟ أم كصاحب حق شرس ونبيل، يعيش ألم التجارب وحرارتها، ويقاتل دفاعًا عن إيمانه المطلق بانتزاع حقه؟
قالت لها واحدة من رفيقات السجن مرة: أنا من يافا، وأول مرة دخلت يافا كانت وهم يقتادونني إلى مركز التحقيق، أيًّا كان فإنني أعتبر هذا عودةً إلى يافاي.