يعد الخزف واحدًا من أجمل الفنون الغنية بالألوان الحيوية في الثقافة التركية، والذي استطاع أن يحافظ على مكانته حتى اليوم رغم قدمه. ظهرت صناعة الخزف في العديد من الحضارات القديمة كالحضارة المصرية واليونانية، كما استخدمه الأتراك الذين استوطنوا آسيا الوسطى قبل أكثر من ألف عام، وخصوصًا القراخانيون والغزنويون. لكنه بلغ أوجه في دولة السلاجقة التي حكمت الأناضول ما بين القرنين الحادي عشر والرابع عشر، فقد أولوا اهتمامًا كبيرًا لهذا الفن، ما جعل عصرهم نقطة تحول كبيرة في تطوره وانتشاره. طوّع سلاجقة الأناضول هذا الفن للثقافة الإسلامية، وأدخلوا عليه تقنيات وأشكال جديدة أصبحت بعد ذلك من خصائص الفن الإسلامي، واستخدموه في العمارة الخارجية والداخلية، الدينية منها والمدنية.
أشكال وتقنيات فن الخزف عند السلاجقة
هناك شكلان من فن الخزف: الأول، خزف الحائط وهو ما يعرف بالقيشاني، نسبة إلى مدينة قاشان التي اشتهرت بصناعة الخزف حين كانت تابعة لدولة السلاجقة، وهي تقع الآن في إيران. أما الآخر، فهو الأواني الخزفية، مثل الأطباق والأكواب والمزهريات.
لم يعتمد السلاجقة على تقنية واحدة لزخرفة الخزف، بل استخدموا العديد منها، مثل التقنية الرئيسية، وهي طلاء الألوان على لوح الخزف المطلي بلون غير شفاف. وهناك أيضًا تقنية الخزف ذي الزخارف المحفورة تحت الطلاء، وكانت تعتمد على نقش الزخارف على طبقة من البطانة الرقيقة، ثم توضع هذه البطانة فوق الخزف بعد خروجه من الفرن، وبعد طلاء الزخارف يوضع الخزف في الفرن مرة أخرى، وقد استخدمت هذه الطريقة في القرن الثالث عشر، كما استخدمها العثمانيون في النصف الثاني من القرن السادس عشر. كما برع السلاجقة في استخدام تقنية البريق المعدني، وهي نثر تبر الذهب أو الفضة فوق الألواح الخزفية المزخرفة، وبعدها توضع في حرارة منخفضة حتى لا يفقد المعدن بريقه.
وهناك تقنية أخرى لم تستخدم كثيرًا، هي الخزف ذو الزخارف البارزة، والتي كانت عادة ما تستخدم في الكتابة، فيتم تشكيل الزخارف على الخزف وهو ليّن ثم يدخل الفرن، وبعد أن يخرج يطلى بالألوان ويدخل الفرن مرة أخرى، وقد استخدِمت تلك التقنية في أثرين فقط، هما ضريح عز الدين كيكاوس الأول في مدينة سيواس، وضريح عز الدين قليتش أرسلان الثاني الموجود داخل جامع علاء الدين كايكو باد في مدينة قونيا.
كانت تُتَمم العمارة المدنية كالقصور بتصاوير للإنسان والحيوانات التي ترمز إلى الأبراج الفلكية، وللطيور والكائنات الأسطورية.
أما التقنية الأهم والأشهر فهي الفسيفساء الخزفية التي ظهرت في القرن الثالث عشر، واستمرت حتى نهاية القرن الخامس عشر في الدولة العثمانية، وقد أصبحت هذه التقنية التي استحدثها السلاجقة عنصرًا جماليًّا أساسيًّا في العمارة الدينية والمدنية. تعتمد الفسيفساء الخزفية على تجميع القطع الخزفية المأخوذة من ألواح خزفية أكبر والمطلية مسبقًا، ثم وضعها على لوح من الجص ولصقها حسب الشكل المراد. وكانت تُتَمم هذه الزخارف في العمارة الدينية بالأشكال الهندسية مثل النجمة والمستطيل والشكل الرباعي والسداسي، إلى جانب رسوم نباتية مجردة منحنية الفروع، وكتابات زخرفية بخط كبير وقوي من الثلث والكوفي، وقد استخدِمت الفسيفساء الخزفية بكثرة في حوائط ومحاريب المساجد وباطن القباب، والمدارس الدينية.
أما في العمارة المدنية كالقصور، فكانت تُتَمم بتصاوير للإنسان والحيوانات التي ترمز إلى الأبراج الفلكية، وللطيور والكائنات الأسطورية.
أهم الآثار الخزفية في العمارة السلجوقية
زيّن السلاجقة مدن وسط الأناضول بالعديد من الآثار المعمارية التي تضم فن الخزف، وعلى رأسها العاصمة قونيا التي كانت مركزًا لهذا الفن. فبحسب أكاديمية الفن والأدب تم العثور على 500 قطعة خزفية متكدسة فوق بعضها أثناء عملية التنقيب، التي تمّت في السراي الصيفية التي يطلق عليها كوبا أباد الواقعة في بلدية باي شهير بمدينة قونيا، والتي أمر بتشييدها علاء الدين كايكو باد السلطان العاشر للدولة السلجوقية عام 1235. ويعد هذا القصر هو أغنى آثار الدولة السلجوقية بالخزف، وتتنوع التقنيات المستخدمة في زخرفته بالأشكال الرباعية والنجمة الثمانية، ما بين البريق المعدني والخزف المحفور تحت الطلاء وتقنية ميناي. ولم تُرَ هذه الأخيرة في الأناضول إلا في ذلك الأثر، وهي تشبه إلى حد كبير الخزف الإيراني، وتعتمد على خلط تقنيتَي الحفر تحت الطلاء والحفر فوق الطلاء، فيطلى الخزف أولًا بالألوان التي تحتمل الحرارة العالية كالفيروزي والأرجواني، وبعد خروجه من الفرن يطلى بالألوان التي تناسبها الحرارة المنخفضة مثل الأحمر والأبيض.
وإلى جانب تلك القطع هناك أيضًا قبة ومحراب مسجد علاء الدين وصحن مدرسة صير تشالي، ومدرسة قاراطاي التي تعتبر واحدة من أهم مراكز العلوم الدينية في العصر السلجوقي والمبنية في عام 1351، حيث وصل هذا الفن إلى ذروته، فنجد جميع أجزاء المدرسة مغطاة بزخارف مميزة من الفسيفساء الخزفية وخصوصًا القبة.
ويوضح مسجد صاحب أتا الواقع بمدينة قونيا والبنايات التابعة له، والذي شيد ما بين عامي 1258 و1283، كيف أصبح فن الفسيفساء الخزفية في ذلك الوقت منتشرًا في العمارة السلجوقية؛ فنجد المحراب والمئذنة والأضرحة والشبابيك جميعها مكسوة به، كما تطغى الأشكال النباتية على زخارف هذا البناء.
وفي مدينة مالاطيا يوجد واحد من أهم الآثار التي يحتوي معمارها على الخزف، وهو صحن الجامع الكبير وقبته، والذي يعود إلى القرن الثالث عشر.
أما قصر كايكو بادية الذي أمر بتشييده علاء الدين كايكو باد، والذي يقع في مدينة قيصري، فيضم العديد من الأشكال الهندسية إلى جانب فروعٍ بلون فيروزي مع أسود بتكنيك الخزف ذي الزخارف المحفورة تحت الطلاء.
وتُظهر مدرسة جوك الواقعة بمدينة سيواس، والتي شيدت عام 1272، آخر ما وصل إليه فن الخزف السلجوقي في نهاية القرن الثالث عشر، فنجد الفسيفساء الخزفية البارزة تطغى على زخارف بهو المدرسة.
لم يغفل العثمانيون هذا الإرث الفني، واستكملوا مسيرة أجدادهم واستطاعوا أن ينقلوا هذا الفن من وسط الأناضول الى إقليم مرمرة، لينتشر في جميع أنحاء تركيا.
و في أنقرة نجد محراب جامع خان أرسلان منفّذًا بتكنيك كان شائعًا في نهاية القرن الثالث عشر، مكون من الخزف الأزرق الداكن والأرجواني مع زخارف من الجص.
و تتفرد مدرسة طاش الموجودة بمدينة أفيون قره حصار، والتي بنيت عام 1278، بقطع من القرميد الأحمر والخزف الأزرق وأفاريز على شكل زهرة اللوتس وسعف النخيل، كما أن أشكال الفسيفساء الخزفية المستخدمة في المحراب هي أشكال تنفّذ للمرة الأولى والأخيرة في فن الخزف التركي، حيث تتكون من الخزف الأرجواني والفيروزي مع عناصر زخرفية معروفة في الفن البيزنطي مكتوب في داخلها “الله” و”علي” متحدة مع نجمات ثمانية الشكل.
على مدار مئتي عام، اهتم السلاجقة بالفن والعمارة واستطاعوا أن يستحدثوا فيهما ألوانًا مختلفة، تاركين أثرًا جليًّا في البلاد التي حكموها، وإرثًا كبيرًا في الثقافة الإسلامية. لكن تلك الآثار التي صنعت بعناصر جمالية مميزة، أثارت أطماع المهربين، حيث تم تهريب خزف محراب مسجد باي حكيم من مدينة قونيا عام 1907، والذي يعود إلى القرن الثالث عشر، ويعرض الآن في متحف بيرغامون في برلين بقسم الآثار الإسلامية.
لم يغفل العثمانيون هذا الإرث الفني، واستكملوا مسيرة أجدادهم واستطاعوا أن ينقلوا هذا الفن من وسط الأناضول الى إقليم مرمرة، لينتشر في جميع أنحاء تركيا ويصبح جزءًا من ثقافتها.