استطاعت انتفاضة القدس الأخيرة أن تحرك المياه الراكدة على مستوى الوضع الفلسطيني، وحتى الوضع العربي بشكل عام، في وقت كانت الأمور تتجه لدى بعض الأنظمة والحكومات إلى تطبيع العلاقات مع كيان الاحتلال الإسرائيلي لجعله كيانًا طبيعيًّا في المنطقة، على الرغم من سياسسات الإجرام والعدوان التي مارسها ويمارسها بحق الشعب الفلسطيني خصوصًا، والشعوب العربية عمومًا.
وقد أدّت محاولات الاحتلال وقطعان المستوطنين اقتحام المسجد الأقصى المبارك يوم الـ 28 من رمضان الفائت، ومحاولة طرد أهالي حي الشيخ جراح من القدس، إلى انتفاضة فلسطينية عارمة في القدس والضفة الغربية والأراضي المحتلة عام 1948 أو ما يُعرف بالداخل الفلسطيني، وإلى تدخّل قطاع غزة المحاصر على خط المواجهة من خلال مقاومته الباسلة التي دكّت بصواريخها المدن و”المستوطنات” الإسرائيلية، في محاولة لفرض معادلة جديدة مفادها أن الاعتداء على الفلسطينين في القدس أو اقتحام المسجد الأقصى لن يمر مرور الكرام بعد اليوم.
تحول هذا الرد الفلسطيني على غطرسة الاحتلال إلى حرب جديدة وعدوان جديد على الشعب الفلسطيني، لا سيما في قطاع غزة المحاصر الذي خاض على مدى الأيام الماضية معركة حقيقية مع الاحتلال الإسرائيلي، جعلته يعيش حالة من الإرباك والقلق على مصيره، وما جعله أيضًا يعيش حالة من الهستيريا والجنون، عمد معها إلى ارتكاب جرائم ومجازر بحق المدنيين في قطاع غزة المحاصر وبحق الأبراج السكنية والبنية التحتية في المدينة.
غير أن هذا العدوان تحول إلى جحيم على المحتل، وأشعل حالة من الرفض والغضب على هذا العدو عبّرت عنه الضفة الغربية المحتلة والبلدت الفلسطينية في الأراضي المحتلة عام 1948، وعبّرت عنه أيضًا الشعوب العربية والإسلامية بمسيرات وتظاهرات واحتجاجات في العديد من المدن والعواصم طالبت بوضع حد للجرائم الإسرائيلية، وأعلنت تأييدها وتضامنها مع الشعب الفلسطيني ومظلوميته التاريخية، وهو ما شاركت به أيضًا شعوب شتى من دول كثيرة لا تربطها بشعب فلسطين غير الروابط الإنسانية.
الله أكبر الان متظاهرون في الجانب اللبناني من الحدود يحاولون تحطيم كاميرات التجسس الإسرائيلية ??????#لبنان #غزة_تحت_القضف #مقاطعه_المنتجات_الفرنسيه_200 pic.twitter.com/JvCLoZbukP
— قلم حر ?????? (@k________om) May 15, 2021
ولبنان المجاور للأراضي الفلسطينية المحتلة، والذي يتقاسم مع الفلسطينين العناء من هذا الاحتلال، إذ لا تزال مزارع شبعا تحت الاحتلال الإسرائيلي حتى اليوم، والذي عانى من ظروف الاحتلال سابقًا، ومن أطماعه سابقًا وحاليًّا، والذي يحتضن أكثر من مئة وخمسين ألف لاجىء فلسطيني في مخيمات الشتات الموزعة على كل المحافظات اللبنانية؛ أعلن منذ اللحظة الأولى لاندلاع شرارة المواجهة بين الفلسطينيين وقوات الاحتلال عن تضامنه ووقوفه إلى جانب هبّة الشعب الفلسطيني، وعن إدانته للاحتلال وأساليبه وسياساته العنصرية والبغيضة التي عانى منها لبنان لعقود ولا يزال.
فعلى صعيد الموقف الرسمي للحكومة اللبنانية المستقيلة، فقد أعلن رئيس حكومة تصريف الأعمال، حسّان دياب، عن شجبه لممارسات الاحتلال الإسرائيلي وعن تأييده وتضامنه الكامل مع الشعب الفلسطيني.
أسود في لبنان يعبر الحدود لدعم فلسطين بعد الأردن ، هذا حدث رائع. pic.twitter.com/3GXp5R9Zbq
— Yunus Destebaşı (@YDestebas) May 14, 2021
كما أعلن ذلك كل من رئيس الجمهورية، ميشال عون، ورئيس المجلس النيابي، نبيه برّي، ووزارة الخارجية اللبنانية التي تقدمت بشكوى أمام مجلس الأمن جراء ممارسات الاحتلال وتجاوزاته الحدودية المتكررة، فيما أعلنت قيادة الجيش عن جهوزيتها للتصدي لأي اعتداء إسرائيلي على لبنان.
وأما على الصعيد السياسي، فقد عبّرت أغلب الأطراف اللبنانية من مختلف المشارب السياسية عن رفضها لممارسات الاحتلال الإسرائيلي بحق الفلسطينيين، لا سيما في القدس المحتلة، وعن تضامنها الكامل مع الشعب الفلسطيني بوجه تلك الممارسات، فيما نظمت العديد من القوى وقفات تضامن أمام مقرات أممية في بيروت، أو عند الحدود اللبنانية مع فلسطين المحتلة، وقد شهدت بعض هذه الوقفات مواجهات محدودة مع قوات الاحتلال سقط فيها جرحى وشهداء سرعان ما تم تطويقها ووضع حد لها، حتى لا تتطور وتتحول إلى مواجهات عسكرية عبر الحدود، وقد دخلت على خط المعالجة عند طرفي الحدود القوات الدولية العاملة في جنوب لبنان في إطار قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة “يونيفل”.
إلى ذلك تحولت مناطق حدودية عديدة مع فلسطين المحتلة إلى محجّة للقوى الشعبية والسياسية والحزبية الداعمة للشعب الفلسطيني، والرافضة لممارسات الاحتلال الإسرائيلي، وغدت تلك المناطق نقاط تماس يومية بين الاحتلال الإسرائيلي من جهة والمجموعات الشعبية التي تضغط على الاحتلال يوميًّا من خلال المنطقة الحدودية من جهة ثانية، فيما تولى الجيش اللبناني تأمين وصول الحشود الشعبية وحمايتها من قوات الاحتلال بقدر لا يسمح لها بخرق التهدئة القائمة منذ عدوان يوليو/ تموز 2006، وقد تركت هذه التحركات عبر الحدود أصداء طيبة في الداخل الفلسطيني عبّر عنها الفلسطينيون، من خلال التأكيد على أن مثل هذه التحركات الشعبية عند الحدود تجعلهم يشعرون أنهم ليسوا وحيدين في هذه المعركة. كما حملت هذه الحشود الشعبية المتتالية إلى الحدود اللبنانية الفلسطينية رسائل دعم واضحة للشعب الفلسطيني، ورسائل تحذير بالقدر نفسه لـ”المستوطنين” وقوات الاحتلال.
#للقدس_قسم
??انطلاق مسيرة سيارات من مثلث بلدة كفرا ياطر وحاريص تحمل الاعلام #اللبنانية والفلسطينية باتجاه قرية مارون الراس الحدودية تضامنا مع #فلسطين_المحتلة
وتحية للشعب #الفلسطيني#GenocideinGaza#GazzaUnderAttack
لحظة اصابة المواطن ال #لبنان ي
على الحدود مع #فلسطين ? pic.twitter.com/kztPX90oqy
— ali?a?️ (@alihamiYa_00150) May 14, 2021
إلى ذلك شهدت المنطقة الحدودية بين لبنان وفلسطين المحتلة رسالة من نوع آخر، حيث أقدم مجهولون على إطلاق ثلاثة صواريخ من سهل بلدة القليلة الجنوبية باتجاه “المستوطنات” في الأراضي الفلسطينية المحتلة، في ليلة اشتدّ فيها القصف والعدوان على قطاع غزة المحاصر، حتى خُيّل للبعض أن قوات الاحتلال بدأت هجومًا بريًّا على القطاع، وقد سقطت تلك الصواريخ في داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة، بينما أعلن الجيش اللبناني أنّه يبحث عن مطلقيها من دون أن يعلن إذا ما كان قد تمكن من توقيفهم، وقد كانت هذه الحادثة بمثابة رسالة واضحة مفادها أن الحدود الجنوبية للبنان مع فلسطين المحتلة قد تكون مفتوحة على مواجهات مع الاحتلال في أية لحظة.
غير أن بعض الأصوات الضئيلة والخجولة في الداخل اللبناني، انبرت مجددًا للحديث والمطالبة بتحييد لبنان عن صراعات المنطقة وعدم السماح بفتح حدوده على أية مواجهة مع الاحتلال الإسرائيلي، وعلى أية خلفية حتى لو كان الاحتلال يشن عدوانًا على الشعب الفلسطيني، ولعل أوضح موقف عبّر عن ذلك كان للبطريرك الماروني بشارة الراعي صاحب فكرة ونظرية الحياد الإيجابي للبنان، مع العلم أن هذه الفكرة في مسألة الحياد كانت تستثني قبل مدة من الآن الموضوع الفلسطيني، وكانت تعتبر أنه لا حياد في هذا الموضوع بل انحياز كامل لصالح تأييد الشعب الفلسطيني.
على كل حال، عبّر لبنان عن تضامنه مع الشعب الفلسطيني بصور كثيرة ومتعددة، كانت أبرزها الحشود الشعبية عبر الحدود، وقطاعات واسعة من الشعب اللبناني تؤكد على مضيها في حالة التضامن دونما التفات إلى مواقف البعض، التي تريد التخلص من الواجب العروبي والقومي والإسلامي والإنساني في نصرة الشعب الفلسطيني المظلوم.