ترجمة: حفصة جودة
مع تزايد الأزمة سوءًا في القدس يومًا بعد يوم، سيكون مغريًا التركيز على حدث جديد ونسيان ما حدث من قبل، إنه تكتيك إسرائيلي معروف عند الاعتداء على الفلسطينيين: فتح النيران على عدة جبهات لخلق ارتباك.
في تلك العملية يصبح الانتهاك الأخير مصدر القلق الحاليّ، بينما تتراجع بقية الأحداث في الخلفية، وفي لمح البصر يستطيع القليلون تذكر كيف بدأ ذلك ومن المُلام، لكن هذا يجب أن لا يحدث تلك المرة.
بدأ الانفجار الحاليّ في حي الشيخ جراح، ذلك الحي في القدس الشرقية المحتلة حيث اندلعت المعركة بسبب التهديد بطرد العائلات الفلسطينية من منازلهم، يعد نضالهم – رغم احتمالية فشله نظرًا لنظام التمييز العنصري القانوني الإسرائيلي – أمرًا مهمًا، ليس فقط لذاته ولكنه كتكرار وصدى لما حدث على نطاق واسع في 1948.
لا يعد التطهير العرقي – طرد السكان الأصليين من منازلهم – أمرًا جديدًا في تاريخ الاحتلال الإسرائيلي، إنه في قلب المشروع الصهيوني ومن دونه لم تكن لتقوم دولة لـ”إسرائيل”، استمر الأمر حتى اليوم في محاولة لتحقيق هدف الصهيونية النهائي: إخلاء فلسطين من أهلها الأصليين واستعمار اليهود للأرض.
كنا نفكر بسذاجة، على أي أساس يمكنهم أن يأخذوا أرضنا دون أي إثبات قانوني على ملكيتها؟
لتحقيق ذللك الهدف يواصل الاحتلال الإسرائيلي تهجير وطرد الفلسطينيين في أثناء وجوده، فمنذ عام 1948 طُرد مئات آلاف الفلسطينيين من أراضيهم وهُجرّوا داخليًا، بينما أصبح هناك ملايين اللاجئين الفلسطينيين في الخارج.
سحبت “إسرائيل” تصاريح الإقامة من أكثر من 14500 فلسطيني في القدس وأجبرتهم على مغادرة المدينة، بينما شجعت على الهجرة المستمرة للفلسطينيين في الضفة الغربية وغزة بسبب صعوبة الحياة تحت القمع والاحتلال الإسرائيلي.
مفارقة لاذعة
كانت هذه الأفكار واضحة في ذهني بينما أشاهد انكشاف قصة عائلات الشيخ جراح، وللمفارقة المريرة فقد تزامن ذلك مع الذكرى الـ73 للنكبة، ذلك التطهير العرقي الذي أدى إلى ولادة “إسرائيل” عام 1948.
أثار ذلك ذكريات مؤلمة لإجبار عائلتي على الرحيل عن القدس في العام نفسه، يمكنني أن أتذكر وقوفي أمام بوابة حديقتنا المغلقة في ذلك الصباح الربيعي البعيد، وأنا لا أفهم لماذا يجب أن نرحل ونترك كل ما نعرفه ونحبه.
مثل عائلات الشيخ جراح، فقد كنا نتوقع أننا سنعيش في منزلنا هناك، ومنذ أن بدأ المهاجرون اليهود في التدفق إلى المدينة خلال الثلاثينيات والأربعينيات، لم نشك أبدًا أننا قد نخسر منزلنا لأجل هؤلاء الوافدين الجدد، كنا نفكر بسذاجة، على أي أساس يمكنهم أن يأخذوا أرضنا دون أي إثبات قانوني على ملكيتها؟
لم تكن عائلات الشيخ جراح المعرضة للاستهداف من المستوطنين اليهود تتوقع تلك الأزمة كذلك، سُمي هذا الجزء القديم من القدس على اسم الطبيب الشيخ جراح من القرن الـ12 الذي تقع مقبرته في الحي، بُني المسجد الذي يضم مقبرته عام 1895 وزاره العديد ممن يرجون تحسن حياتهم، كما بنى العديد من الشخصيات البارزة من بينهم أحد أمناء المسجد الأقصى منازلهم في الشيخ جراح.
في عام 1956 وافق الأردن – الذي كان حاكمًا للقدس الشرقية آنذاك – على نقل 28 عائلة فلسطينية – نازحة من منازلها الأصلية عام 1948 – إلى منازل جديدة بنتها وكالة الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، وقد حصلوا على حق ملكية تلك العقارات خلال 3 سنوات مقابل التنازل عن وضعهم كلاجئين.
هكذا ظل الوضع حتى عام 1972 عندما ادعت مجموعات من المستوطنين اليهود ملكيتهم لتلك الأرض، وعلى هذا الأساس حصلوا على دعم قانوني لفرض الإيجار على تلك العائلات الفلسطينية، ومنذ عام 2002 تعرض عشرات الفلسطينيين للإجلاء من الحي، وفي بداية 2020 أصدرت المحاكم الإسرائيلية أمرًا بإجلاء 13 عائلة أخرى.
متاهة قانونية
كنت في القدس عام 2008 وكنت شاهدة على عملية إجلاء إحدى العائلات، في البداية يستولي المستوطنون على جزء من المنزل المستهدف، كان أول مستوطن رأيته نحيلًا وشاحبًا من الأشخاص الذين تشعر بالأسى تجاههم، لكن الحقيقة أن جهازه اللاسلكي يربطه مباشرة بالجيش الإسرائيلي.
خلال سنوات من رحيلنا عن منزلنا طورّت “إسرائيل” نظامًا قانونيًا زائفًا معقدًا مصممًا لإدخال خصومها في متاهة قانونية يخرج القليلون منها بنجاح
يبدأ هذا المستوطن في الانتقال إلى غرفة معيشة العائلة ويتصرف كما لو أنه لا يوجد أشخاص هناك، بعد وقت قصير يلحقه مستوطن آخر ويفعل مثله تمامًا، ولأن الأسرة تعلم اتصال المستوطن بالجيش فقد كانت حذرة في إظهار غضبها، وكان من المؤلم مشاهدة الخطوات الحتمية للاستيلاء على المنزل.
لاحقًا وفي أثناء سيري في حي الشيح جراح وجدت مشهد المستوطنين المتدينين وهم يرتدون الملابس السوداء ويتجولون في شوارع كانت عربية بالكامل كما لو أنها ملك لهم، منفرًا ومزعجًا، ازدادت أعدادهم منذ ذلك الحين بدفع السكان الأصليين للعيش في مساحات صغيرة أو طردهم بالكامل.
يمكن للعائلات المهددة بالطرد الآن أن تزيد من هذا العدد، بينما يقدم لهم انتظار حكم المحكمة بشأن مصيرهم بعض الأمل، خلال سنوات من رحيلنا عن منزلنا طورّت “إسرائيل” نظامًا قانونيًا زائفًا معقدًا مصمم لإدخال خصومها في متاهة قانونية يخرج القليلون منها بنجاح.
إن الأزمة التي بدأت في القدس انتشرت الآن لتضم غزة والمدن والقرى الإسرائيلية والضفة الغربية المحتلة، إن تدنيس المسجد الأقصى أمر بغيض وارتفاع حصيلة شهداء الهجمات الإسرائيلية أمر مرعب، لكننا يجب أن لا نسمح بالتطهير العرقي للشيخ جراح بالتواري عن الأنظار، إنه خطيئة “إسرائيل” الأصلية ويجب أن لا نسمح بمروره.
المصدر: ميدل إيست آي