تنتشر تجارة المواد المخدرة في سوريا انتشار النار في الهشيم، إذ تشكل هذه التجارة بوصلة تربط أطراف الصراع السوري ببعضه الآخر، وترسم معالم اقتصاد محلي جديد يوفر مردودًا ماليًّا جيدًا يدعم الميليشيات، حيث لا يمكن أن يمر يوم واحد دون إنتاج كبسولات من حبوب الكبتاغون والتفاحة وعشرات الكيلوغرامات من الحشيش، لتزويد الأسواق بها وتصديرها.
فبعدما كان يتم تهريبها إلى سوريا سابقًا للتداول، أصبحت الآن تنتج محليًّا نظرًا إلى ارتفاع أعداد المتعاطين بين الشبان السوريين وازدياد عمليات التهريب (التصدير).
في مناطق سيطرة النظام
يبدو الأمر جليًّا، فإن جميع عمليات البحث والتواصل التي أجراها موقع “نون بوست”، لإعداد هذا التقرير، تدور حول محور واحد ساهم بشكل كبير في تزويد الأسواق المحلية بالمواد المخدرة المصنعة في البداية، لينتقل لاحقًا إلى تزويدها بالمواد الخام الخاصة بتصنيعها.
ويعتبَر حزب الله اللبناني ومن خلفه إيران من أبرز المزودين لهذا المجال عبر وكلاء وتجار حرب محليين ضمن ميليشياتهما، منذ سيطرة قوات النظام والميليشيات الموالية له من بينها ميليشيا حزب الله على الجنوب السوري والحدود السورية اللبنانية، وهذا لا يعني أن التجارة كانت متوقفة ما قبل السيطرة لكنها كانت بنسبة أقل من الوقت الحالي.
وفي الوقت الذي تتصدر سوريا ولبنان على حد سواء الدول المنتجة والمصدرة للمواد المخدرة للدول المجاورة، وتحولهما السريع إلى بلدَي مخدرات، وآخرها “شحنة الرمان” التي صادرتها السعودية، والتي سلطت الضوء مجددًا على عمليات تهريب المخدرات من لبنان وسوريا؛ نشأت بيئة حاضنة لتجارة المخدرات بين تجار محليين، ووكلاء كل أحد منهم يتبع لميليشيا تدعم نشاطه حتى لا يمكن إيقافه، أي بالأحرى: تدعم الميليشيات عمليات التجارة.
وذكرت صحيفة غارديان البريطانية في تقرير نشر لها مؤخرًا، “أنه تم اعتراض ما لا يقل عن 15 شحنة من المخدرات في الشرق الأوسط وأوروبا في العامين الماضيين، مصدرها سوريا أو عبر الحدود في لبنان، حيث تشكلت عصابات عبر الحدود تصنع وتوزع كميات من المخدرات على نطاق صناعي”.
ويوم أمس، ضبطت السلطات التركية في ولاية هاتاي جنوبي البلاد شحنة ضخمة من المخدرات تصل لأكثر من 6 ملايين حبة كبتاغون مخبئة في 11 حاوية في ميناء إسكندرون ضمن شحنة حجارة بناء ترانزيت من سوريا باتجاه الامارات، تقدر قيمتها السوقية بأكثر من 300 مليون ليرة تركية.
وتعتبر المواد الكيميائية المصنعة كحبوب الكابتغون والكريستال هي أشهر ما يتم تداوله في مناطق سيطرة النظام السوري، كما تنتشر مزارع الحشيش الذي يزرع محليًّا ويتم كبسه بمعامل محلية تتبع لميليشيا حزب الله اللبناني، على طول الحدود السورية اللبنانية حتى الحدود الأردنية في مناطق الجنوب السوري.
ويقول الصحافي باسل غزاوي، من محافظة درعا ويقيم في فرنسا، لموقع “نون بوست”: “تنتشر المواد المخدرة في سوريا والجنوب على وجه الخصوص قبل التسويات التي أجراها النظام السوري مع المعارضة برعاية روسية، في أغسطس/ آب 2018، لكنها ليست لدرجة الانتشار الحالي، باعتبار محافظة درعا بوابة لتصدير المخدرات إلى الأردن والخليج، حيث يتم تصدير شحنات ضخمة من المواد المخدرة”.
وأضاف بحسب مصادر محلية: “إن حبوب الكبتاغون تصنع في لبنان ويتم نقلها عن طريق تجار إلى جنوب سوريا لتصديرها خارج البلاد، وأيضًا من مدينة القصير الحدودية السورية التي يسيطر عليها “حزب الله” اللبناني، والقرى والبلدات الحدودية شمال لبنان، ووادي البقاع اللبناني إلى الموانئ اللبنانية، حيث يتم تهريب المواد المخدرة في شحنات مخصصة للمواد الغذائية”.
وأوضح: “تشرف الميليشيات بشكل مباشر على تجارة المخدرات في سوريا، أغلبها يتبع لإيران وميليشيا حزب الله، بالإضافة للفرقة الرابعة من الجيش السوري حيث يرعى الحماية للتجار العقيد محمد العيسى، وفرع الأمن العسكري بدرعا بزعامة لؤي العلي، والكثير من الأسماء التي تتصدر مشهد تجارة المخدرات، ويتم تسهيل عمليات التجارة لعناصر ضمن الميليشيات يعملون أعمالًا مدنية منها فتح استراحات في معبر نصيب-جابر الحدودي مع الأردن”.
وبين فترة وأخرى، تنشر وسائل إعلام النظام السوري عن ضبط عمليات تهريب للمواد المخدرة في مناطق سيطرته، إلا أن معظمها بحسب ما أشار الصحافي باسل الغزاوي لا تشكل جزءًا من عمليات التهريب، ولكن لترويج عمليات الضبط الأمني ومحاربة انتشار المواد المخدرة من قبل النظام السوري أمام المجتمع الدولي.
لكن الميليشيات والأفرع الأمنية تعاكس بعضها الآخر في عمليات التجارة لاحتكارها وإمداد الأسواق بمروجين يتبعون لجهة عسكرية معينة.
في مناطق سيطرة قسد
ينتشر تداول المواد المخدرة في مناطق سيطرة قوات سوريا الديمقراطية في دير الزور والحسكة والرقة بشكل مباشر، إذ تشكل نسبة التعاطي في الشرق السوري أكثر من نسبة التصدير إلى الدول المجاورة، بسبب انخفاض قيمة الحبوب المخدرة والحشيش المزروع محليًّا، والذي يدعمه قياديون يتبعون لقوات سوريا الديمقراطية باعتباره موردًا ماليًا ضخمًا، ويتم استيراد الحبوب المخدرة كالكبتاغون والتفاحة عبر ميليشيا إيران المتواجدة على الضفة الثانية من نهر الفرات.
يقول الصحافي وسام محمد من محافظة دير الزور ويقيم في إسطنبول، لموقع “نون بوست”: “تعتبر تجارة المخدرات عند قسد من دعائم اقتصادها، وهي فعليًّا تعمل بتجارة المخدرات منذ سنوات عديدة، حيث تنتشر زراعتها في ريف الحسكة والقامشلي، وظهرت مؤخرًا العديد من مزارع الحشيش بعد توسع الانتشار في دير الزور والرقة”.
وأضاف: “تعاطي المخدرات في مناطق سيطرة قسد أمر في غاية السهولة، أي أصبح بإمكان أي متعاطٍ شراء الحبوب المخدرة من الصيدليات برعاية من قبل قادة يتبعون لقسد، وتعتبر قسد هي المسؤولة عن انتشار المواد المخدرة لأنها هي من فتحت المجال أمام التجار، ولم نكن نسمع في السابق عن تداول المخدرات إلى هذا الحد”.
وأوضح عن تبادل تجارة المخدرات: “إن هناك تبادلًا تجاريًّا بين ميليشيا حزب الله وميليشيا إيرانية غرب الفرات، تورّد الحبوب كالكبتاغون والكريستال والتفاحة إلى مناطق سيطرة قسد، بينما تمدها قسد بالمنتج المحلي من الحشيش ومن أبرز أنواعه أوراق القنب والماريجاونا”.
ويتم تعاطي المواد المخدرة في شرق الفرات بنسب كبيرة، وتزدهر التجارة المحلية في شرق الفرات أكثر من التصدير بسبب ارتفاع نسبة متعاطي المواد المخدرة إلى أكثر من 50% من الشبان، الذين يحصلون على المواد المخدرة من قبل تجار يعملون لصالح قادة في ميليشيا قسد، بأسعار مناسبة ومغرية، بحسب ما قال الناشط الإعلامي المقيم في مدينة الرقة أبو مايا، خلال حديثه لموقع “نون بوست”.
وأضاف: “يتم زراعة المواد المخدرة كالحشيش في حدائق المنازل حيث أصبحت بمتناول الجميع، ويتم بيع الكثير منها إلى مناطق سيطرة المعارضة المدعومة من قبل تركيا في منطقة نبع السلام، ويقوم بعملية التجارة تجار يتعاونون مع كلتا الجهتين”.
في مناطق المعارضة
في مناطق سيطرة المعارضة السورية في الشمال الغربي من سوريا، أي ريفي حلب وإدلب، أصبحت المواد المخدرة تنتشر بسرعة، وبإمكان الجميع الحصول عليها بعدما نشأت شبكات محلية من التجار الذين يعملون على تجارة المواد المخدرة، في الأسواق وأمام الجميع، وتتم عمليات البيع والتجارة برعاية عسكرية، حيث يتبع التجار لقادة عسكريين، تجتمع مصالحهم في المردود المالي.
وعلى الرغم من سعي الجهات الأمنية المتمثلة بقوى الشرطة والأمن العام للحد من انتشار وتجارة المخدرات، إلا أنها لم تتمكن من فرض نفسها كقوة عسكرية قادرة على ضبط الأمن.
وفي وقت سابق ضبطت قوات الشرطة والأمن العام شحنة من المواد الخام لتصنيع المواد المخدرة المهربة من مناطق سيطرة النظام السوري، عبر معابر عسكرية إلى ريف حلب الشمالي.
قال مصدر في قوى الشرطة والأمن العام، رفض الكشف عن اسمه لأسباب أمنية، لموقع “نون بوست”: “إن عمليات التجارة المحلية تتم برعاية عسكرية والشرطة عاجزة عن ضبطها، إلا أنها تلقي القبض على عدد من التجار الصغار بين الحين والآخر، لكن يبقى هؤلاء الذين يعملون على التجارة وتصديرها بعد افتتاح معامل تصنيع محلي بمأمن”.
وأضاف: “إن شحنة المواد الخام لتصنيع المواد المخدرة كانت قد دخلت ريف حلب من مناطق سيطرة النظام حيث أرسلت من لبنان، مؤكدًا دور ميليشيا حزب الله اللبناني بتصدير البضائع والمنتجات المخدرة إلى ريف حلب، بحسب التحقيقات”.
ومن أبرز ما يتم تعاطيه بين الشباب بريف حلب من المواد هي الإتش بوز، ومن البودرة الهروين، ومن الحبوب الكابتغون والتفاحة والكريستال، إلى جانب زراعة الحشيش في حدائق المنازل، حيث أصبح الأمر بمتناول المدنيين، وفي مزارع خاصة في قرى بعيدة عن الانتشار السكاني بريف حلب الشمالي.
يبدو أن الكبتاغون المصنّع في سوريا مؤخرًا قد جمع جميع أطراف الصراع السوري في خانة واحدة، لأنهم يبحثون عن مصدر تمويل اقتصادي لهم، لا سيما أنهم بدأوا يصدرونه خارج الأراضي السورية سعياً منهم لتحقيق أرباح فعلية، إلى جانب انتشاره محلياً على حساب الشعب السوري الذي يموت جوعًا مقابل شراء بضع حبات من الكبتاغون أو غرامات من الحشيش.
انتشار محلي.. ونتائج كارثية
من أبرز نتائج ارتفاع أعداد المتعاطين للمواد المخدرة حوادث القتل والسرقات، وعمليات السطو المسلح على الطرقات، والطلاق والتفكك الأسري، وغيرها من الأمور الاجتماعية.
أكد الناشط أبو مايا خلال حديثه لموقع “نون بوست”: “إنه منذ بداية عام 2021 حتى الآن هناك سبع جرائم قتل ارتكبت في محافظة الرقة لوحدها، من بينها قتل الزوجة والأمهات نتيجة تعاطي القاتل لجرعة زائدة من الحبوب المخدرة”.
وقال الصحافي باسل الغزاوي خلال حديثه لموقع “نون بوست”: “إن السوريين عاجزون عن الخروج من الكارثة التي وصلوا إليها وسطوة الميليشيات على حياتهم، لأن عمليات بيع المواد المخدرة تنتشر حتى في المدارس ولا يمكن الوقوف في وجهها لأنها مدعومة من قبل الميليشيات المحلية”.
وساهم انتشار وتعاطي المخدرات بارتفاع نسبة الجريمة، حيث لا يتوانى المدمن عن القتل أو السرقة في سبيل الحصول على جرعة من المخدرات، والمسؤول الرئيسي عن انتشارها النظام والميليشيات الموالية له.
يبدو أن سوريا وصلت إلى الهاوية بعد الدمار الذي ضربها في شتى المجالات، حيث لم يعد هناك إمكانية في السيطرة على إنتاج وتعاطي المواد المخدرة في جميع أنحاء البلاد، لا سيما أنه لدينا جيل كامل نشأ دون تعليم وغياب لأدنى مقومات الحياة، ولم يعرف سوى الحرب والفوضى.